مسرح عالمي : المخرج الألماني توماس أوسترماير يغامر مع شخصيات هشة

المخرج الألماني يوجه على لسان شخوص تشيخوف انتقاداته للمسرح المعاصر، الذي يهزأ منه قسطنطين، بل يهزأ من بعض العروض التي شهدها الأوديون نفسه.

يقول المخرج الألماني توماس أوسترماير في لقاء معه، إنه في كتابه الأخير “المسرح والخوف” يطرح التساؤلات المرتبطة بالخوف والرعب على الصعيدين الشخصي والفني، الخوف نفسه الذي يدعونا لمواجهته عبر المسرح ودفعه لتحدي نفسه في سبيل أن يخرج من ذاته وقيودها. هذه الموضوعات نراها في عرض أوسترماير الأخير “النورس”، تأليف الروسي أنطوان تشيخوف والذي تشهده خشبة مسرح الأوديون الآن في باريس، وفيه يلامس المخاوف التي نمر بها اليوم، في ظل كوميديا قاسية محكومة بثرثرة وصمت تميز نصوص تشيخوف، وتجعل المأساة التي تحصل نهايةً، أقرب لهاويّةٍ لم نكن ندرك وجودها.

ندخل العرض لنرى شخصيات تشيخوف تنتظرنا، تجلس متململة في زوايا الخشبة، تقترب ماشا مع ميدفينكو من الخشبة التي تمتد نحو الجمهور، لتبدأ المسرحية بالسؤال الأشهر الموجّه لماشا “لماذا ترتدين ثياب الحداد؟”، الجواب الذي يعرفه عشاق تشيخوف “أرتدي ما يشابه حياتي، أنا لست سعيدة”، يبدأ بعدها ميدفينكو بالحديث عن السعادة، لكن الصادم، أنه يتحدث عن نفسه بداية، ثم عن طبيب سوريّ صادفه، ويعمل كسائق تاكسي بعد أن عاد إلى سوريا ليزور أسرته، خسر السوري الكثير من النقود وهو يرشو الحواجز العسكريّة في سوريا كي يصل إلى منزله الذي لم يزره منذ ثلاثين عام، وحين عاد، اضطر ليعمل كسائق تاكسي ليلاً لأنه خسر أغلب أمواله، ما قام به أوسترماير أنه حوّل الثرثرة اليومية التي ترتبط بشخصيات تشيخوف من زمنها إلى الآن، إلى ما نحكي عنه ونتداوله يومياً، فسوريا الآن، أصبحت ضمن الأحاديث العابرة، حرب بعيدة الجميع فيها خاسر، مأساة نتحدث فيها كي نبتسم سراً لنجاتنا.

يوجّه أوسترماير على لسان شخوص تشيخوف انتقاداته للمسرح المعاصر، الذي يهزأ منه قسطنطين، بل يهزأ من بعض العروض التي شهدها الأوديون نفسه، بوصفها لم تعد تشبهنا، المسرح حتى وفي انتقاد لنفسه أصبح بلا معنى، هو مجرد شاشات إسقاط وممثلين عراة أو أشباه عراة يغيّرون أصواتهم كي يضحكوا جمهوراً من أطفال المدارس.

أوسترماير يحافظ على دقة بناء نص تشيخوف، لكنه يعيد قراءته بما ينتمي للآن، موسيقى الروك من ستينات وسبعينات القرن الماضي تحضر، فعوضاً عن الأنغام البعيدة التي نسمعها من وراء البحيرة في نص تشيخوف نسمع موسيقى فرقة “The doors” الأميركية و”Famme fatale” لفرقة “velvet under ground”.

أوسترماير يجعل شخوص تشيخوف أكثر حدّة ووضوحاً، أكثر رومانسيّة في أحلامها التي توشك على الانهيار، الطبقات الاجتماعية المختلفة التي تنتمي لها الشخوص ليست معياراً لضبط الخوف أو التردد، بل غياب المفر مما هو محتم هو ما يدفع الجميع ببطء نحو الهاوية، حتى الجنس الذي يحضر على لسان أيرينا تصفه على أنه داءٌ فرنسي، إذ تقول “نحن نتحدث طوال الوقت عن الجنس دون أن نمارسه”.

الشخصيات بحكم تكوينها التشيخوفي متعبة، مرهقة، تنزف وجودها لحظة بلحظة، تتداعى في فضاءاتها وكأنها حبيسة وهم الخشبة التي تؤدي ضمنها، مدركةً أنها تمثّل، الزمن الذي يتخلّل الفصول غير مهم، وكأن ما حدث منذ عام، حدث البارحة.

نورس تشيخوف يسقط ميتا في باريس

سطوة تشيخوف حاضرة في العرض، بالرغم من أن أوسترماير حوّله إلى صيغة أكثر حيويّة، لكن الصمت والزمن الحيادي حاضران، الشخصيات تصمت حين تنزوي وحيدة، تراقب غيرها، تراقب أفعال الآخرين، الحركة والسكون المرتبطان بمرور الزمن على الشخصيات محكومان بالسقوط، كل انهيار جزئيّ يدفع الزمن إلى الأمام، أما النيون الأبيض للخلفية المحايدة فيجعلها أقرب للمختبر، حيث تلاحظ الشخصيات أفعال غيرها وتدرس كيمياء تحولاتها، فالصيغة المخبريّة تحتم التدخل أحياناً من الخارج، بضحكة أو تعليق، وإلا سيعتري الجميع الشلل.

وحين يغادر الممثلون فضاء اللعب نحو فضاء الفرجة في البداية، يتورط الجميع في السخرية من عرض قسطنطين، فهي محاولات لدفع الانهيار بعيداً عبر توريط الجميع به ممثلين وجمهورا، وكأنّ لا لوم على أحد، الجميع مذنبون بالتساوي.

يذكر أوسترماير أنه اعتمد على ترجمة فرنسية جديدة للنص، خاصة بعرضه، وذلك لاعتماده على ممثلين فرنسيين، وليس كالعرض الأول الذي أقيم في أمستردام منذ ثلاث سنوات، ويقول في لقاء معه إنه لم يتدخل في صياغة كلام الممثلين أو نبرتهم، ما يهمه هو الحالة وطبيعة المشهد، فاللغة تأتي بصورة عفوية للممثل حسب طبيعة الظرف المسرحي خصوصاً أن العرض يمس الخوف الذي تمرّ به أوروبا، هو الخوف من الطبقة الاجتماعية، والخوف من الفشل، والخوف الميتافيزيقي، إذ ترك للممثلين حرية تحسس الطريقة المناسبة للتعبير والتي تناسبهم كفرنسيين.

—————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – عمار المأمون – العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *