مسرحية “مختلال”: الفشل في الحرب على العراق/د. صبري حافظ

المصدر/ضفة ثالثة/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

تطرح هذه المسرحية الجديدة، التي ينطوي عنوانها على تلاعب دال بالكلمات (مخاطر الاحتلال/ المهنة Occupational Hazards)، وتعرض على مسرح هامستيد Hampstead Theatre في لندن، مجموعة مهمة من القضايا والأسئلة التي تدور في الواقعين الثقافي والسياسي في بريطانيا.

فالمسرحية مأخوذة عن كتاب بالعنوان نفسه (مخاطر الاحتلال: فترة عملي في حكم العراق Occupational Hazards: My Time Governing in Iraq) لروري ستيوارت Rory Stewart، الذي تكشف لنا سيرته عن أننا بإزاء نسخة جديدة من لورانس العرب، بعد أفول نجم الإمبراطورية، وتنامي إخفاقاتها. وهو الأمر الذي يعيه مسرح هامسيتيد، حيث يقدم المسرحية في برنامجه، على أنها تجيء بعد عام من تقديم المسرح نفسه لمسرحية للكاتب الإنكليزي المرموق هاوارد برينتون Howard Brenton بعنوان (لورانس بعد الجزيرة العربية Lawrence After Arabia) في مناسبة انقضاء قرن على حملة لورانس الشهيرة في الجزيرة العربية، أثناء الحرب العالمية الأولى.

سيرة الكاتب وسيرة لورنس العرب

 

والواقع أن أيّ تعرف على سيرة روري ستيوارت، صاحب الكتاب الأصلي، وبطل المسرحية المأخوذة عنه، سيجد ما يشبه التطابق بين سيرته وسيرة سلفه غير المأسوف عليه، لورانس العرب. فكلاهما يتحدر من أسرة من الطبقة المرموقة، فقد كان أبوه دبلوماسيًا بريطانيًا، مما يسر له التعلم في أرقى مؤسسات بريطانية التعليمية من مدرسة إيتون Eton الشهيرة، وصولاً إلى جامعة أكسفورد التي تخرّج منها مثل سلفه بعد دراسته للتاريخ فيها مثله. وبدأ حياته مثله بالتجوال في الشرق الأوسط مشيًا على قدميه، حيث قطع لورانس أكثر من ألف ميل في أراضي الدولة العثمانية متعقبًا فيها آثار الصليبيين، وكتب عن تلك الرحلة رسالة تخرجه من أكسفورد. ثم واصل بعد التخرج رحلاته الشهيرة في الجزيرة العربية مشيًا على الأقدام وتعرفًا على الأعراب. بينما قطع ستيوارت أكثر من ستة آلاف ميل مشيًا هو الآخر في أفغانستان وإيران وباكستان والهند ونيبال، أمضى أثناءها لياليه في أكثر من خمسمئة مكان متواضع في قرى وأماكن مغمورة، وكتب عن تلك الرحلة كتابه الأول (أماكن بينية The Places in Between) الذي صدر عام 2004، وحظي بنجاح كبير في طبعتيه الإنكليزية والأميركية. مما دفعه إلى كتابة كتابه الثاني (مخاطر الاحتلال) عام 2006 والذي يحمل عنوانًا مغايرًا في طبعته الأميركية وهو (أمير الأهوار: والمخاطر المهنية الأخرى لسنة في العراق The Prince of the Marshes: And other Occupational Hazards of a Year in Iraq).

وفضلاً عن التماثل في جوب الأصقاع المجهولة من أجل الإمبراطورية بين الرجلين، فإن ستيورات يبدو أفضل حظًا من سلفه، ربما لأنه أقل منه مثالية، وأكثر براغماتيةً ووعيًا بأفول نجم الإمبراطورية. حيث تدرّج في خدمة دولته، بعد سنوات حكم العراق التي لم تتعدَ العامين، حتى وصل الآن إلى منصب وزير دولة لوزارة التنمية الدولية، وعضو في مجلس العموم عن حزب المحافظين الحاكم منذ عام 2010.

العنوان بين لغتين/أختين

 

والواقع أن تغيير العنوان في الطبعة الأميركية، عما كان عليه في الأصل الإنكليزي، يحمل هو الآخر دلالاته على الفرق بين الثقافتين الإنكليزية المولعة بالتوريات والتعبيرات الاستنكارية، والتصريحات المكبوحة والتهكم من الذات؛ والأميركية ذات الطبيعة البراغماتية المباشرة الفجة. فالعنوان الإنكليزي من النوع الذي يعرف بالعبارة الاصطلاحية Idiom يشير بدءًا إلى المصطلح الشائع “مخاطر المهنة”، أي مهنة، سواء أكانت تلك المخاطر عضوية أو نفسية. قبل أن يشير إلى المعنى الآخر الذي يمكن أن تستدعيه الكلمة الأولى فيه، أي الاحتلال؛ لكن العنوان الفرعي والذي يتسم في الإنكليزية بمسحة تهكمية “فترة عملي في حكم العراق” يؤكد أن المعنى الثاني للكلمة يبقى ثانويًا في أي تأويل جدي له. لأن المسرحية في حقيقة الأمر تكشف عن عبء الفشل الباهظ في العراق على الواقع الإنكليزي المعاصر، وعن كيف أنه يعيش الآن في ظل إخفاقه هناك. وهو الإخفاق الذي يثوي في قاع التخبط الذي يتردى واقعها السياسي الراهن فيه، والذي أدى بها للتصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي، ضد جل مصالحها ومستقبلها. وهي في حقيقة الأمر مسرحية عن “مخاطر المهنة” القديمة التي كانت تضطلع بها بريطانيا في حكم المستعمرات، وقد أصبحت غير قادرة على تحمل عبء تلك المخاطر الآن، ناهيك عن النهوض بتلك المهنة، بعدما أزاحتها الولايات المتحدة عن مكانها القديم، والذي ما زالت تتشبث به. وهي في الوقت نفسه مسرحية عن مدى ضآلة معرفة بريطانيا بطبيعة الواقع العراقي الذي زجّت بنفسها فيه، إرضاء للولايات المتحدة وغطرستها الجاهلة؛ وعن عجزها عن أن تفعل شيئًا ذا بال بعد اكتشافها خطأها؛ بل عن عجزها عن تعلم الدرس الأساس الذي عليها أن تتعلمه من تلك التجربة المهمة: ألا وهو التواضع، والتخلي عن أوهام الماضي الإمبراطوري القديمة.

المسرحية تجربة حياة

فالمسرحية التي كتبها ستيفن براون Stephen Brown لا تهتم، كالكتاب الذي استقى مسرحيته منه، بمدى مشروعية حرب العراق أو صدقية منطلقاتها، أو بما إذا كانت مبررة أو كانت خطأ فادحًا انجرّ فيه توني بلير وراء حماقات جورج بوش، ومخططات المحافظين الصهاينة الجدد. ولكنها تركز جلّ همّها على ما جرى عقب احتلال العراق، وعلى التجربة التي عاشها روري ستيوارت هناك، وماذا حدث للدعاوى المعلنة لتلك الحرب مثل جلب الديمقراطية للعراق، وتحريرها من الاستبداد والقهر.

فروري ستيوارت الذي يفتتح المسرحية وينهيها معًا، لندرك بذلك أننا نرى كل ما دار في العراق من منظوره البريطاني، يحكي لنا عن أنه يقدم فيها تجربته الحقيقية هناك والتي تعامل فيها مع أناس حقيقيين. وكان هذا هو ما حرص عليه كاتب المسرحية، على الرغم من أنه يتعامل مع نوع من السيرة أو المذكرات التي تحكي فترة عمل روري ستيوارت في العراق بين 2003 و2005، التي تتسم ببنية متشظية بطبيعة هذا الجنس من الكتابة. فقد أسبغ على تلك البنية المتشظية بوحداتها (الأبيسودية) المتتابعة نوعًا من التماسك السردي والمسيرة الدرامية المتتابعة من ناحية، وربط بين أجزائها بصوت البطل/ الراوي (ستيوارت) وتعليقاته من ناحية أخرى. وهو المنظور الذي يمكن وصفه بأنه منظور الإنكليزي التقليدي الذي وقع في غرام الشرق الأوسط، وامتلأ بالحماس له وحب المغامرة فيه، وتخيل عن طيب نية، وعن رغبة حقيقية في خدمة بلده، أن باستطاعته أن يؤثر على مسيرة الأحداث فيه.

كما حرص كاتب المسرحية (ستيفن براون) على أن يتسم كل مشهد أو (إيبسود) مسرحي بالوضوح الشديد الذي لا يتيح لنا فقط التعرف على شخصياته المتعددة، كأناس حقيقيين في مواقف واقعية، ولكنه يمكننا أيضًا من موضعتهم داخل سياقاتهم التاريخية والاجتماعية معًا.

في دلالة اختيار المكان

لم يكن اختيار إدارة أحداث المسرحية في العمارة ومحافظة ميسان العراقية خاصة، ابن تجربة ستيوارت فيها فحسب، فقد اقتصر عمل القوات البريطانية على جنوب العراق، واقتصر عمله في تلك الفترة على محافظتي ميسان وذي قار، القريبة لها من الجهة الغربية، ولكنه أيضًا ابن الولع الإنكليزي التاريخي بالأهوار، وأطيافها المترعة بالرومانسية، قبل تجفيف صدام حسين جزءًا كبيرًا منها. والواقع أن محافظة ميسان كانت من المحافظات العراقية القليلة التي رحب سكانها، في البداية على الأقل، بالقوات البريطانية الغازية لما عانته من تاريخ طويل من القهر والعنف. بل إن شخصيته العراقية الرئيسية (كريم) تُقدِم لنا أحد أبطال عرب الأهوار الذين قاوموا نظام صدام حسين سنوات طويلة، والذي عينه (بول بريمر) حاكمًا عراقيًا لتلك المحافظة. ولذلك فإننا بإزاء مسرحية عن هذا الجزء المحدد من العراق، وليس عن تجربة احتلاله الدامية بشكل عام. وهو اختيار جغرافي دال، لأنه لو كان باستطاعة التدخل البريطاني أو الأجنبي عمومًا أن ينجح في العراق، لكانت هذه أكثر المناطق ملاءمة له، حيث كانت البداية فيها بداية إيجابية بقدر ما يمكن أن تكون بداية أي احتلال أجنبي إيجابية.

وتبدأ المسرحية بوصول (روري) إلى العراق، ومغامرة وصوله إلى المنطقة الخضراء في بغداد، وهي المغامرة التي تتحول فيها الأحداث في تلك المنطقة إلى نوع من الكوميديا السوداء القاتمة. حيث لا يزال الغرب المنتشي بانتصاره واحتلاله للعراق، يتصور أن باستطاعته أن يمنح شعبه الديمقراطية. ويحكم إيقاع هذه الكوميديا السوداء السريع أحداث المسرحية من البداية، ويبلور بنيتها (الإبيسودية) كما أشرت. ونشهد تعيين (بول بريمر) له حاكمًا بالنيابة لمحافظة ميسان. ولما يحتج (روري)، يخبره أن الحاكم (بمعنى المحافظ وليس بمعنى القاضي كما تشير المفردة في استخداماتها العراقية) الاسمي هو (كريم) بطل الأهوار المشهور، وأنه سيكون هو الحاكم الفعلي للمحافظة، الذي تأتمر القوات البريطانية بأمره. ويتوجه (روري) إلى العمارة متحمسًا لقيادة عملية التغيير فيها في مايو/ أيار 2003، بعد شهر واحد من اغتيال مليشيات مقتدى الصدر لآية الله الخوئي فيها.

وبعد أن كان (بول بريمر) رئيس سلطة التحالف المؤقتة قد حلّ الجيش العراقي، وبدأ عمليات اجتثاث البعث المسعورة، وهما العملان اللذان سيجرّان على الاحتلال الأميركي الوبال، وسيدفعانه راضيًا أم رافضًا إلى تسليم العراق لإيران على طبق من فضة.

العراقية الوحيدة

بعد هذه المقدمة الدرامية السريعة ننتقل إلى العمارة، وإلى محاولات (روري) السيطرة على الصراعات الداخلية التي بدأت تتولد فيها، ونعيش معه عبر مشاهد مسرحية متتابعة، نجحت المعالجة الدرامية في إكسابها قدرًا كبيرًا من الواقعية أو التوهج، تطورات الأحداث فيها، عمليات نهب الآثار العراقية والألواح الطينية الثمينة، وبداية الصراعات بين السنة والشيعة فيها، وصعود المليشيات الشيعية بها، وتحويل تلك المنطقة المتحضرة من أرض العراق إلى نسخة مشوهة من الوضع الاجتماعي البائس تحت حكم آيات الله في إيران، وهو الأمر الذي تعاني منه (رنا)، الشخصية النسائية العراقية الوحيدة في المسرحية، وابنة أستاذ التاريخ والحضارة العراقية (أبو رشيد) الذي يمثل بدوره صوت العقل في عالم ينحدر بسرعة نحو التردي والجنون. حيث تفرض عليها مليشيات الأمر بالمعروف الشيعية الحجاب، وإغلاق مشغل الخياطة الذي كانت تديره بعد منع النساء من العمل. ففي المسرحية نساء كثيرات في الجيشين الأميركي والبريطاني، وأبرزهن نائبة (بريمر) الأميركية في المنطقة كلها، ورئيسة (روري) المباشرة بشكل من الأشكال. في نوع من تأكيد تبعية بريطانيا لأميركا في هذه المغامرة المشؤومة.

وفي العمارة نتعرف إلى محاولاته الدؤوبة لاختيار مجلس محلي للمحافظة، وحماسه لإجراء تغيرات حقيقية فيها، وبلورة عملية الانتخابات الحرة بها، وتأسيس ثقافة جديدة تعتمد على الشفافية والشرعية الشعبية والاختيار الحر، وترسيخ الحقوق المدنية، والخضوع للمحاسبة. في عملية يعي فيها أن دوره هو دور العامل المساعد، وأن على العراق أن يجد طريقه الخاص به للديمقراطية. وفي العمارة أيضًا تجسد لنا مشاهد المسرحية المتتابعة كيف يصطدم هذا كله بصعود المد الإسلامي الشيعي بفرقائه المتعددين. وكيف يمتزج صعود هذا المد بمزيج من الطائفية والعنف الفاشي. ويسعى (روري) عبر منهج التوازنات والمساومات الإنكليزية الشهيرة، وفرِّق تسُدْ، إلى خلق حالة من التطور في الواقع العراقي تتيح له تحقيق التقدم المنشود. لكنه لا ينجح في تحقيق ذلك، حيث ينتهي الأمر بنوع من التضامن السني الشيعي أو بالأحرى العراقي ضد الاحتلال.

هكذا تكشف لنا المسرحية أن العراق قد تحول بحقّ إلى مقبرة الوهم الأميريكي القائل، إن باستطاعة أميركا كقوة عظمى وحيدة، حتى ولو كان معها الغرب برمّته، وهو ما لم تنجح في تحقيقه، شكرًا لفرنسا وألمانيا وقتها، أن تزيح أي حاكم مستبد وأن تقيم مكانه نظامًا ديمقراطيًا. هذا الوهم قد مات إلى الأبد، وبدأ بموته العد التنازلي لهبوط أميركا من على عرش تلك السيطرة الوهمية على العالم.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *