مسرحية «سوق سوداء» لعلي اليحياوي في قاعة المبدعين الشبان: لنا المسرح لنحقق إنسانيتنا / مفيدة خليل – #تونس

 

 

 

 

المسرح وعاء للانسانية وعاء للفكر المتمرد وفضاء لممارسة الحرية دون خوف او قيود، المسرح فضاء للفكر والتفكير وهو مكان

للتصالح مع عقد انسانية ونفسية ومحاولة لكسر الحدود المكانية والزمانية والخوض في كل المضامين التي تمس الانسان هكذا هو المسرح عند المخرج علي اليحياوي فكرة جسدت في مسرحية «سوق سوداء» التي عرضت مساء الجمعة 28سبتمبر في قاعة المبدعين الشبان ضمن فعاليات التظاهرة المسرحية التي يقدمها قطب المسرح بمدينة الثقافة.

سوق سوداء انتاج مشترك بين مركز الفنون الركحية والدرامية بتطاوين والمسرح الوطني التونسي، عمل عن نص اصلي لكولتاز واقتباس للاسعد بن حسين دراماتورجيا واخراج لعلي اليحياوي وتمثيل محمد شعبان وعلي بن سعيد وتوظيب عام لعبد الله الشبلي .

المسرح: انفصال ووصال
ضوء خافت يتوسط الركح، ديكور قليل فقط بضع اعمدة تضع المشاهد في مكان الحدث، المكان الدرامي للمسرحية فضاء مهجور يسكنه رجل ما، صراخ وضوضاء يبرز بعدها مكان الصوت، في العمل تجدك أمام شخصيتين الأول بائع (محمد شعبان) و الثاني وجد صدفة في ذلك المكان فنًعت بالشاري (علي بن سعيد) لكل شخصية تفاصيلها ومخاوفها من الأخر، مخاوف تبدأ بالصراع الخارجي بين الأجساد لتصل إلى حدّ الكشف عن صراع داخلي تعيشه كل شخصية، الصراع يكشف تدريجيا من خلال الحوار ثم الموسيقى والضوء وحركات الممثلين صراع هو الآخر يعيشه المتفرج فالموسيقى المستعملة تضع المشاهد أيضا في دائرة الحدث ليشعر انه جزء من الحكاية.

«سوق سوداء» مسرحية يتكون اسمها من مترادفتين الأول السوق بمعنى المكان الذي يعرف الكثير من الضوضاء وهو فضاء للاجتماع أيضا و«سوداء» هي صفة ومعناها الظلام وكل العمليات التي تحدث خفية بعيدا عن مراقبة الدولة وأجهزتها ووثائقها فالعمل يحمل المتفرج إلى صراع بين شخصيتين تحملان فكرين مختلفين الأول ابن المكان يوجد فيه منذ سنين يبيع خفية يمثل فئة من الناس تبحث دوما عن الظلام لإتمام انجازاتها ومشاريعها والثاني وجد نفسه صدفة لكنه يحمل فكرا قانونيا ويبحث دوما عن المعاملات القانونية والبيع والشراء المقنن وبين القانون واللاقانون يحدث صراع منذ الازل، صراع تنقله الشخصيات ويبدع الممثلون في تجسيده من خلال التحكم في خامات الصوت وحركات الجسد والتعامل مع الفضاء.

«سوق سوداء» عمل مسرحي يعري بؤس البشر ويكشف عن الكم الهائل من الوجع والتمزق الذي يخفيه الإنسان داخله، هو صراع مع الرأسمالية المتوحشة التي التهمت معاني الإنسانية وعوضتها بالمال في سوق «كل شيء فيه يتباع ويشترى» بما في ذلك مشاعر الحب والود والخوف، ليعري العمل ذلك التمزق والظلام مع محاولة لازالة الريبة والصراع بين الشخصيات من اجل حلم استعادة القيم الانسانية بالمسرح وهنا يؤكد مخرج العمل علي اليحياوي ان المسرح يدافع عن الانسانية فهو في علاقة مباشرة مع الانسان المسرح بيت الانسانية والافراد والحساسيات الخاصة بيت الروح الانسانية المتوهجة التي لا نراها الاّ في المسرح العلاقة الحية المباشرة مع الجمهور.

الضوء وصراع الظلام والنور
صراع بين شخصيتين، دون هوية او اسم، رجلان يلتقيان في مكان ما، المكان الدرامي للمسرحية فضاء مهجور حسب ديكور العمل، كل منهما يختلف من حيث الحجم والسرعة وطريقة الكلام والحركة، كلاهما غامض لا يعرف المتفرج اسمه او عمره او هويته ربما ليشعر المتفرج انه جزء من القصة وربما تنقلب الادوار فيصبح المتفرج صاحب الشخصية.

الركح خال من الديكور، فقط اعمدة عالية كانها تحيل الى مكان مهجور، الضوء الاصفر المتقطّع هو الأكثر حضورا معه يكتشف المتفرج الشخصيات، يبتعد الضوء حينا عن منتصف الركح واحيانا يركز على تفاصيل الجسد والحركات، اول العرض تكون وجوه الممثلين في الظلام في اطار الرمزية التي يقوم عليها العمل لمزيد دفع المتفرج للتركيز اكثر وادراك الشخصية وتفاصيلها.

الضوء جزء أساسي من سينوغرافيا مسرحية سوق سوداء فبالضوء يتابع المتفرج حركات الممثلين ومع تغير اللون تتغير الحركة والتفاصيل ومعه الادراك الحسي للمتفرج وكان لعبة الضوء هي جزء من اللعبة الاساسية التي جمعت البائع بالشاري في ذلك المكان المهجور ويشكل الضوء واللون قيمة كبيرة في عملية الإدراك الحسي والجمالي للعرض المسرحي وذلك لان عملية الإدراك تعتمد على الإبصار من جهة ومن الجهة الأخرى يكون الإدراك الاستجابة النفسية لمجموعة مركبة من الشبهات الحسية مصدرها العالم الخاري» فالضوء الأصفر بكل تدرجاته وكتله يكون جزءا أساسيا في العملية الإبداعية البصرية لمسرحية سوق سوداء وتوظيف الضوء كان موجها لجلب انتباه المتفرج ومساعدته على تتبع الحبكة الدرامية للعمل وفهم فكرة العمل التي تقوم على ثنائي الظلام والنور.

الموسيقى تنقل تمزق الشخصيات والاحداث
في سينوغرافية العرض المسرحي تعتبر الموسيقى عنصرا أساسيا لانجاز عرض مسرحي والمخرج الذكي هو العارف بالمسرح والموسيقى والقادر على اختيار موسيقى تتماشى مع قصة العرض وتتابع تصاعد الأحداث، فالموسيقى مكمّل للضوء وحركات الممثل والنص ليستا مجرد سدّ فراغ او تعبئة مساحة درامية ما.

وفي سوق سوداء تكون الموسيقى من نقاط قوة العمل، الموسيقى الصاخبة في أول العرض عنوان لانطلاق الصراع، وكلما تصاعدت الأحداث وتقدمت الشخصيات في الكشف عن ملامح المكان والحكاية وتكون الموسيقى وسيلة المتفرج ليدرك عالم الحدث والفعل المسرحي فالموسيقى تساعد المخرج في دعم الصورة الإيقاعية للعرض التي ستعطي فيما بعد قدرة المحاكاة الحقيقية أو الصدى الحقيقي للموسيقى الداخلية للعرض المسرحي، إنها الجو الذي يعتنق ذلك النضوج الداخلي، كفكر غير منظور يسري كالعدوى ليستقر في الروح فيستمر لينمو ويولد المعرفة في القلب» كما يقول المكاتب المسرحي محمد نصّار.

الموسيقى التي اختيرت لعرض سوق سوداء تماشت مع الاحداث موسيقى نقلت الصراع الدرامي بين الشخصيات، وضحت حالات الشتات والخوف الذي تعيشه الشخصيات كما استطاعت توصيف مكان العرض والغوص في خبايا الشخصية لنقل هواجسها وخوفها الى المتفرج، ولعل موسيقى نهاية العرض هي الاكثر بقاء في نفس المشاهد تلك النوتات القوية والممزقة كانها تعبيرة عن الموت او تمزّق داخلي تعيشه الشخصية والمتفرج معا تلك الموسيقى كانها توتّر وخوف يعيشه كامل المسرح فالموسيقى في المسرح هي جزء من الكل لا يمكن أن تجلب الاستحسان بمعزل عن بقية العناصر المسرحية ، وان انسجام الأداء مع الموسيقى أمر ضروري . وعندما يتوجب وجود الموسيقى في المسرحية فعلينا أن نجد لها المكان الملائم كما يرى ذلك مايرخولد وفي سوق سوداء وظفت الموسيقى جيدا في عرض مسرحي ينقل صراعا دراميا بين شخصيتين هو صراع ازلي بين الظلام والنور وصراع من اجل البقاء عموما.

_____________

المصدر / المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش