مسرحية “سابينس”: صناعة الأكاذيب البشرية وتصديقها

 

 

 

 شوقي بن حسن – العربي الجديد 

 
نقرأ في موسوعة “بريتانيكا” أن “هومو – سابينس” هي “الفصيلة التي ينحدر منها كل البشر الذين يسكنون الأرض اليوم”، وأنها “الوحيدة من بين فصائل أخرى من الجنس البشري (هومو) التي حافظت على استمرارها”. عددٌ لا يحصى من الناس، أموات وأحياء، ينتمون إلى “سابينس” الذي يتحوّل إلى شخصية وحيدةٍ تختزلهم جميعاً في عمل مسرحي تونسي بنفس العنوان كتبَ نصّه وأدّاه عصام العياري فيما أخرجه وليد العيادي.
“45 ألف عام”، منذ بداية العرض يعلن سابينس عن عمره، كما يعلن عن تمرّده؛ وهو الذي يظهر على الخشبة مُلاحَقاً في سبيل القبض عليه؛ باعتباره المسؤول عن عدد كبير جداً من المجازر، ولكن لأنه أيضاً ذلك الإنسان الأصلي الذي يخيف الإنسان الحديث ويزعج طمأنينته.
سنلتقط الكثير من مناخات أفلام الخيال العلمي وأفلام الحركة والكوميديا، وكذلك من مناخات المؤلفات الفكرية لـ ميشيل أونفري وسلافوي جيجيك في مسرحية “سابينس”، غير أنها على مدى 90 دقيقة تقدّم حكايات مترابطة من الثقافة الشعبية بمجمل عناصرها، من الإعلام وحكايات السياسة اليومية إلى الرسوم المتحرّكة والفواصل الإشهارية.
عرفت المسرحية منذ عرضها بداية 2016 تحوّلات كثيرة
“سابينس.. سلّم نفسك”؛ خيط رابط في العمل. ولكي يهرب من المطاردات، يتسرّب سابينس بين المهاجرين “غير الشرعيين” من تونس إلى إيطاليا، ثم تحمله الحكايات إلى الاندساس بين صفوف اللاجئين السوريين الطويلة، ويجد نفسه أيضاً رهينة عند فصيل إرهابي.
تحرّكات تمسح واقع البشرية اليوم، والتي تضاء أيضاً من مواقع أخرى، حين يتقمّص سابينس شخصيات في مواقع القرار أو في محطّات تاريخية مختلفة، فتعترضنا خلال العرض شخصيات سبارتاكوس وابن الهيثم، وعودة إلى حوادث مع جورج بوش الابن ومحمد البوعزيزي، وفضائح بيل كلينتون، ودومينك ستروتس-كان وربما تظهر ملامح دونالد ترامب في مشاهد أخرى. فكل واحد من هؤلاء “سابينسٌ محتملٌ”.
يُظهر العياري العالم كسلسلة من الكوارث، هكذا يستدرج كل شيء للسخرية وللمحاكمة؛ مقدّماً زوايا مختلفة لما حصل على مدى التاريخ، فنشعر في النهاية معه بأن كل شيء حولنا متورّط في التزييف؛ يفعل ذلك وهو يحدّثنا عن أكاذيب أسلحة الدمار الشامل، أو حين يقدّم لنا رواية مختلفة عما نعرف عن تفاحة نيوتن، وكذلك حين يشير إلى “مافيات الموز والفوشيك (الألعاب النارية)” في تونس.
كان المفكّر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار يعرّف عصر “ما بعد الحداثة” بـ”مرحلة قليلة الثقة في السرديات الكبرى”، تلك التي تقترحها الأديان والفلسفات والأيديولوجيات والعلم، بينما يمكن اعتبار التاريخ البشري سردية السرديات. ومن خلال شخصية سابينس، يجد العياري خيطاً لاستنطاق سردية السرديات هذه، وتفكيك السرديات الأخرى بالسخرية.
تصطدم الشخصية الأساسية – أثناء مصارحتها للبشرية – بمجتمعات باتت تميل إلى الرفاهية وتلفظ كل ما هو مختلف، حتى أصلها (سابينس) باتت تنفر عنه وتريد التخلّص منه، وقد أصبحت لا ترى الأمور إلا من منظور معتقداتها الجديدة، والتي يُظهر تفاهاتها وهشاشة منطقها، مقدّماً نفسه كضمير متحرّك. إنه يستخرج المتناقضات ويضربها ببعضها كما يضرب أحجار الصوّان في أحد المشاهد حين يقرّر العودة إلى الطبيعة و”الإنسان الصيّاد”.
يقوم العمل على مجموعة مطاردات تمسح التاريخ البشري
يقول عصام العياري، في حديث إلى “العربي الجديد”، إن “سابينس” بالنسبة له يمكن اختصارها في “مجموعة من محاكمات المعتقدات التي وجّهت التاريخ البشري؛ من العقائد الدينية إلى السياسة وسطوة المال”.
يذكر هنا بدايات تبلور المشروع في ذهنه، إذ يعود إلى دور أدّاه مع المخرج الفرنسي سلفار غوبي حين لعب دوراً في مسرحية موليير “كاره البشر”. يقول “أدّيت دور ألساست الذي كان يحبّ بنتاً لعوباً، وكان متفطّناً إلى أن حبيبته تخونه، لكنه في وقت من الأوقات يقول لها: “اجتهدي سيّدتي كي تظهري وفية، وأنا سأجتهد أن أصدّق ذلك”. هزّتني هذه الجملة واختبرتها في أكثر من مكان ومناسبة؛ بدت لي مفسّرة للنفس البشرية، وليست الحملات الانتخابية المتكرّرة سوى عملية تصديق متكرّرة لما نعرف أنه كذب”. يضيف: “من هنا بدأت التفكير في عمل مسرحي يكون في الوقت نفسه تعميماً وتعميقاً لهذه الفكرة”.
من زاوية أخرى، يعتبر الكاتب والممثل المسرحي التونسي أن عمله نوع من “الكوميديات الصغيرة التي يجمعها خيط رابط”. يشير إلى أن ذلك ليس غريباً عن ثقافتنا العربية، مستشهداً بأعمال الجاحظ وبديع الزمان الهمذاني، والتي أتاحت له أن يضمّن الكثير من الحكايات الشخصية والانفعالات التي ظلّت عالقة بذهنه مثل تفاعله مع الحرب على العراق.
ظهرت مسرحية “سابينس” أول مرة في شكل مسرحية قصيرة (عشر دقائق) بداية 2016 ضمن تظاهرة تُعنى بالمسرح القصير. عن هذه التجربة يقول العياري “كان النص جاهزاً بالكامل، ولكنني فضّلت أن أكتشف أوّلاً رد فعل الجمهور مع عمل له مرجعيات مغايرة عما يقدّم في المسرح التونسي، بانحيازه أكثر لما هو نفساني، فقمت بتقديمه ضمن تظاهرة المسرحيات القصيرة، وقد شجعني كثيراً تقبّلها. كانت خطوة ضرورية لأنني اعتبرت أن الجمهور ليس عنصراً ثانوياً في هذا العرض”.
المسرحية عرفت تحوّلاً آخر حين قُدّمت بداية الشهر الجاري باللغة الإنكليزية في تونس، كما أنها ستُعرض في الولايات المتحدة الأميركية، في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. عن هذا الانتقال بنصّه إلى فضاء ثقافي آخر، يقول العياري: “أعتقد أنه اختبار أثبت أن “سابينس” قابلة للتصريف في أكثر من لغة”. ربما تعود هذه القدرة على تطويع النص إلى لغة أخرى إلى كون “سابينس” تحمل هاجساً بشرياً ولا تتعلّق بشأن تونسي بحت.
يجري القبض أخيراً على سابينس، ويحوّل إلى “محكمة العدل الدولية”. مرة أخرى سيسخر من كل شيء، من ذلك القانون الذي وضعه وأصبح اليوم يقيّده، ومن كونه يحاكَم في حين أن جورج بوش لم يحاكم. هكذا تتحوّل محاكمة مضادة وإلى مادة زئبقية لا يمكن تلمّس مخارجها.
حين يشعر سابينس بالإحباط، يتوجّه إلى الطبيب الذي ينصحه بالقول “كن مثلهم” غير أنه يردّ بأنه لا يريد أن يكون من فصيلة “دجاج المصانع” مفضّلاً على ذلك أن يكون قرداً في الغابات، ويعيد كل شيء من جديد.
 
عروض مختزلة في ملصقاتها
قبل عرض “سابينس” الأخير في مسرح “نيابوليس” في نابل التونسية، تعرّض عدد من المصلقات الدعائية للتمزيق بدعوى أن العمل يدافع عن نظرية التطوّر. يمكن ربط ذلك بما حدث مع ملصق عرض “ألهاكم التكاثر” الشهر الماضي. حادثتان تؤكّدان أن من يقدمون على هكذا ممارسات يتعاملون مع المسرح كمجموعة ملصقات ويحاكمونه من الخارج، فـ”سابينس” لا تتحدّث عن نظرية التطوّر ولا تدافع عنها بل تستعير فقط مفرداتها.
المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *