مسرحية رائحة حرب التقنية وجماليات الإطاحة بالرؤية الإخراجية صميم حسب الله

 

مسرحية رائحة حرب

التقنية وجماليات الإطاحة بالرؤية الإخراجية

صميم حسب الله

يعتمد النص الروائي في بنيته الأساسية على السرد ، ذلك أن الرواية تقوم على وصف للأحداث وللزمان وللمكان ، وهي وظيفة مغايرة عن تلك التي تتوافر في النص المسرحي ، إذ أن النص المسرحي يعتمد في بنيته على الفعل لا الوصف السردي ؛ وعلى الرغم من المغايرة بين النص الروائي والمسرحي ، إلا ان ذلك لم يمنع من إنتاج نصوص مسرحية تعود مرجعياتها المعرفية إلى النص الروائي ، سواء على مستوى المسرح العالمي أم العربي أم العراقي ، وتأتي تجربة المخرج الراحل ( قاسم محمد) مع رواية (النخلة والجيران ) للكاتب العراقي ( غائب طعمة فرمان) بوصفها احدى من التجارب المؤثرة في تأريخ المسرح العراقي ،

إذ إستطاع قاسم محمد أن يزيح المتراكم السردي/الوصفي المتوافر في النص الروائي والعمل على تحويله إلى نص مسرحي لا يكون المنطوق السردي مهيمناً عليه ، بل على العكس فإن تلك التجربة أسهمت في إنتاج تجارب متنوعة على المنجز الروائي ، كما هو الحال في مسرحية (خمسة أصوات ) التي أخرجها الفنان (محمود أبو العباس) وهي رواية للكاتب (غائب طعمة فرمان ) وغيرها من التجارب المسرحية التي تأتي تجربة مسرحية (رائحة حرب) بوصفها نصاً روائياً للكاتب الفلسطيني ( أكرم مسلم) بعنوان ( إلتبس الأمر على اللقلق) ، تأليف (مثال غازي(العراق) / يوسف بحري(تونس) ، تمثيل ( عزيز خيون ، د.عواطف نعيم، يحيى إبراهيم ) دراماتورج( يوسف بحري) موسيقى ( ضياء عايد ) مساعد مخرج (مرتضى سعدي)، إخراج (عماد محمد) ، والتي قدمت على خشبة المسرح الوطني في بغداد مؤخر اً ؛ بوصفها منجزاً روائياً تم الإشتغال على مسرحته على وفق مسارات عدة .

النص الروائي والنص المسرحي والنص الدراماتورجي:

لم تكن فكرة الإشتغال على تهشيم المنطوق السردي الذي يسيطر على النص الروائي يسيرة على المشتغلين في تحويله إلى نص مسرحي ، وقد بدا ذلك واضحاً عبر مستويات متباينة يحكم فيها السرد هيمنته على الملفوظ النصي من دون ان يمتلك المؤلفان القدرة على تحويله إلى فعل درامي في مواضع مختلفة ، إلا ان المؤلفان إعتمدا توظيف بنية مسرح (اللامعقول) من اجل توظيف مسارات السرد الروائي وتحويله من سرد (مهيمن /سلبي) إلى سرد (مهيمن/ إيجابي) وذلك عن طريق الإتكاء على بناء الشخصيات الدرامي على نحو بدا فيه السرد للوهلة الأولى ضرورة تتوافق مع البناء النصي على وفق (البنية الدائرية)، إذ إختار المؤلفان تلك البنية المتوافرة في اللامعقول من اجل الحصول على فضاءات سردية داخل المتن المسرحي، إلا أن ذلك التوافق صار يتقاطع من جهة اخرى مع بنية اللامعقول التي تعتمد اللغة الوظيفة المختزلة ، وقد بدا ذلك واضحاً في ملفوظ شخصيات (الجد / الجدة) على نحو أساس ، الأمر الذي أسهم في إنتاج نص مسرحي ينسجم مع الهيمنة السردية ، من جهة اخرى فقد أسهم الركون إلى البناء الدائري في خلق شخصيات تعتمد البناء الأفقي الأمر الذي أوقع النص المسرحي في فجوة الملفوظ النصي ، بمعنى آخر فإن البناء الدائري لم يكن كافياً في تحويل السرد إلى فعل درامي متنامي ، بل على العكس من ذلك صار لزاماً على المؤلفين العمل على البحث عن نص ثالث يسهم في التعبير عن الفعل المسرحي ، الأمر الذي دفع بهما إلى إنتاج النص (الدراماتورجي) ، وقد أسهم ذلك في إنتاج شخصية (اللقلق) التي بدا بناؤها الدرامي مغايراً عن شخصيات (الجد / الجدة) ، مما ساعد في إنشطار النص إلى ثلاثة نصوص إكتسب فيه النص الروائي حضوراً رئيسياً ، مع توافر فقير للنص المسرحي ، وحضور ثالث يحكتم على بناء دراماتورجي احادي الملفوظ مبني على شخصية (اللقلق ) فحسب.

وقد افرزت تلك التقاطعات النصية تساؤلات عدة يأتي في مقدمتها غياب الصراع في بنية النص الثلاثي ، بمعنى آخر فإن إعتماد المؤلفين على بنية اللامعقول وتركيزهما على الخلاص من الملفوظ السردي ، افقدهما الكشف عن مرتكزات الصراع الدرامي وآليات حضوره في هذا المتن النصي، فضلا عن ذلك فقد بدا الأمر ملتبساً على المتلقي في تحديد الأزمة الدرامية بين الشخصيات، إذ كشف نص العرض عن تشظي الأزمة التي يتم تهشيمها قبل أن تتضح ملامحها، فضلا عن ذلك فقد إختار المؤلفان الإعتماد على توظيف الآيات القرآنية بوصفها نصاً محادثا للنص الروائي يتم اللجوء إليه في المواضع التي لايجدان فيها معالجة درامية تسهم في تنامي الفعل الدرامي ، لتبدأ الاحداث مرة أخرى عبر هلوسة عبثية دائمية يتشارك في صناعتها شخصية (الجد/رجل حرب سابق) وهو يتأمل الماضي كأنه المستقبل ، ويحتكم إلى الذاكرة في حفر قبور لضحايا حروبه التي لاتنتهي ، وشخصية ( الجدة / الأم) التي قضت مامضى من حياتها في إحتضان أبنائها القتلى، وقد إستطاع المؤلفان عن طريق تلك الثنائية الهذيانية للشخصيتين إنتاج فرضية درامية تبدو للوهلة الأولى متسقة في بنائها مع مسرحيات الكاتب الروماني (يوجين يونسكو) ، ولاسيما في مسرحيته المعروفة (الكراسي ) إلا أنهما إختارا تهشيمها عن طريق حضور دائم لشخصية (اللقلق) ، إذ جاء بناء شخصية (القلق) على نحو مختلف بدا فيه المؤلفان يبحثان عن التوازن الدرامي الذي من شأنه ان يعيد ترتيب الفوضى الدرامية التي تراكمت بسبب تداخل النصوص (الروائي، المسرحي، الدراماتورجي) ، وقد أسهم حضور شخصية (اللقلق ) في خلق ذلك التوازن الدرامي في مواضع عدة إلا أن تكرار الملفوظ النصي فضلا عن البناء الدائري للبنية المشهدية والذي لم يتمكن المؤلفان من تجاوزه ، بل على العكس فإنهما إختارا سحب شخصية (اللقلق) إلى تلك البنية الدائرية والتأكيد على البناء الأفقي للشخصيات من دون إيجاد معالجات درامية تسهم في إيجاد فرضيات جديدة ،الأمر الذي دفع بالمؤلفين للعودة إلى المشهد الأول من اجل تأكيد فرضية اللامعقول الذي لم يتمكنا من الإبحار في أعماقه وفلسفته بل ظل مجرد رائحة تبحث عن حرب تائهة بين الحروب.

الفكر الإخراجي في عصر التقنية

أسهم التطور التكنولوجي في إحداث ثورة بصرية في بنية العرض المسرحي المعاصر ، لاسيما ما يتعلق بتوظيف التقنيات الرقمية المتنوعة ،والتي ياتي توظيف (الداتاتشو) في الكثير من العروض المسرحية في مقدمتها، الامر الذي تحول معه مفهوم الرؤية الإخراجية الذي يعتمد على تفكير المخرج على نحو اساس إلى تفكير تقني فحسب ، وفي ذلك إشارة إلى دراسات عدة منها دراسة بعنوان (الفكر في عصر التقنية ) للمؤلف (عبد السلام بنعبد العالي) والتي يمكن ان نستنتج منها تساؤلات عدة منها .. تحول الرؤية الاخراجية من مفهومها في بلورة التفكير وتحويله إلى صورة بصرية يمكن أن تستفيد من التطورات التكنولوجية في العالم إبتداءا من إختراع الكهرباء حتى توظيف التقنيات الحديثة ، وبعكس ذلك فإن مفهوم الرؤية الإخراجية ومرجعياتها الفكرية التي يعتمدها المخرج قد تحولت إلى هامش بسيط بعد ان هيمنت التقنيات الحديثة على العرض المسرحي ، الأمر الذي تحولت معه قدرة المخرج على إثارة الأسئلة والجدل الفكري والجمالي إلى صور متلاحة تم تجميعها على نحو تقني منضبط لتكون بديلاً شاملاً لمفهوم الرؤية الإخراجية ؟ بمعنى آخر فإن إنحياز المخرج المسرحي إلى التقنيات الحديثة قد أسهم على نحو واضح في إنهيار العلاقات المركبة بين عناصر العرض المسرحي ، الامر الذي بدا واضحاً في العرض المسرحي ، إذ كشفت الشاشة الرقمية عن حضورها المهيمين على فضاء العرض على نحو كلي من دون ان يكون لحضورها البصري علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمضمون العرض إلا في بعض المشاهد والتي تجدر الإشارة إليها ومنها مشهد (البحر / الهجرة) الذي يمكن ان يكون علامة منتجة على توظيف المخرج للتقنيات وليس العكس ، من جهة اخرى فإن المخرج إختار التفاعل مع النص الدراماتورجي الذي إختار التعامل مع البناء الدائري للصورة التي إبتدأ العرض بها والتي إعتمدت هي الأخرى على مايتوافر في (الداتاشو) من قدرة على التعبير عن الزمن الدائري من دون أن يكون لذلك أي علاقة فعلية بمضمون العرض الذي إنتهى بمشهد الحريق ، وقد أسهم ذلك كله في إنتاج فوضى بصرية جاءت نتيجة لإعتماد المخرج على تقنيات الداتاشو وماتحتويه من قدرة جمالية عالية ، إلا ان تلك الدهشة البصرية تظل بها حاجة إلى معادل فكري ينسجم مع طروحات الحدث الدرامي الذي ظل يغرد بعيداً عن مقترحات المخرج البصرية التي تنوعت بين (صور مصابيح تتحرك ، وسجادة حمراء ، صور للوحات مهشمة ، وغيرها) من دون أن يكون حضورها فاعلاً في العلاقة مع عناصر العرض المسرحي.كما أن المخرج إختار توظيف علامة (المسبحة ) التي إستهلكت في العرض المسرحي حتى قبل ظهورها ، ويعود ذلك إلى أن تكرار المنطوق الديني(قراءة القرآن) في مشاهد عدة قد أفقدها حضورها العلامي، حتى أن فكرة تحويلها إلى أداة للقتل (مشنقة) لم تكن مثيرة للمتلقي الذي سيطرت عليه فكرة الهيمنة الدينية التي بدت حاضرة في الماكنة الإعلامية للإسلام السياسي الذي كشف عنه المخرج في مشهد المؤتمر الصحفي الذي كان للشاشة العملاقة حضورها الفاعل في تجسيده.

الاداء التمثيلي والهيمنة الرقمية

بدا واضحاً أن المخرج إختار الإنحياز الكلي لمقترحات (الداتاشو) البصرية ، ويأتي ذلك الإنحياز إبتداءً من إختيار فضاء العرض ، إذ أن المخرج إختار الإعتماد على تأسيس شكل بصري متغير بحسب تغير النظام الصوري الذي ينتجه جهاز (الداتاشو) إلا انه اغفل على نحو كلي أن ذلك التغير يظل من منظور محدد بالنسبة للمتلقي ، وسرعان ما سيطرت عليه الرتابة البصرية ذلك ان المتلقي بدا مدركاً ان فعل التغيير البصري يعتمد على مايتم إستهلاكه من مصفوفات صورية تم إختيارها بما يراه المخرج ملائما للحدث الدرامي ، وهو بذلك يقصي على نحو تام مايمكن ان يتأسس من علاقة بين الممثل بوصفه العلامة الاكثر حضوراً في العرض المسرحي و المتغير البصري الذي تنتجه شاشة (الداتاشو) إذ ان المخرج لم يعمل على تأسيس علاقة بين المصفوفات البصرية والاداء التمثيلي ، إلا في بعض المشاهد التي أشرنا إليها ، من جهة اخرى فإن حجم الشاشة ومكانها على خشبة المسرح أسهم على نحو واضح في الهيمنة على منظومة الاداء الصوتية والتعبيرية عند الممثلين على الرغم من ان المخرج كان موفقاً في إختيار خيرة الممثلين إبتداءً من الفنان (عزيز خيون ) الذي جسد شخصية (الجد /رجل حرب سابق) وهو يبحث جاهدا عن إيجاد علاقة مع الشاشة سواء عن طريق إنفعالاته أو رقصاته التي فيها إحالات إلى حلقات (الذكر الصوفية) سعياً من للقيض على إيقاع العرض الذي هيمنت عليه الشاشة واحالت دون وجوده في اداء الممثل إلا أن ذلك لم يكن ممكناً لأسباب عدة اهمها أن حجم الشاشة والصور المتحركة التي تبثها جعلت من الممثل عاجزا عن التواصل معها ، فضلا عن ذلك فقد بدا واضحاً أن الممثلين لم يجدوا متسعاً من الوقت من اجل أيجاد حلول أدائية تسهم في إنقاذهم من تلك الهيمنة الرقمية التي إبتدعها المخرج الذي إدخر جهوداً عظيمة في تأسيسها حتى أنه لم يجد معادلاً لفرضيات الاداء التمثيلي يمكن أن يتوافق مع تلك الشاشة ، ولم تكن (د.عواطف نعيم) والتي جسدت شخصية (الجدة) بما تمتلك من خبرة متراكمة بمعزل عن تلك المحنة التي بدت واضحة للمتلقي على الرغم من محاولاتها المتكررة في إيجاد تنويعات صوتية وإستعارات تعبيرية تدفع بالشخصية إلى مناطق تعبيرية تمكنها من الإفتكاك من الهيمنة الرقمية ، ولاسيما محاولاتها في إيجاد علاقة مع شخصية (اللقلق) التي جسدها الفنان (يحيى إبراهيم) والذي إختار بدوره الخلاص من تلك الهيمنة الرقمية ومحاولاته في إيجاد نظام ادائي ينسجم مع بنية الشخصية التي بدا واضحاً أن تأسيسها النصي يعتمد الإحالة إلى تلك الشخصيات المستلبة والمغيبة في بنية المجتمع العربي ، إلا ان النظام الادائي الذي إعتمده ( يحيى إبراهيم ) أسهم في الكشف عن الفجوة العميقة في نظام العرض الذي إختار المخرج إختزاله في (الداتاشو)، إذا ما إستثنينا مشهد (البحر/الهجرة) والذي فيه إنسجام كبير بين منطوق الصورة الرقمية والفعل الادائي الذي إعتمده (يحيى إبراهيم) إلا أن الممثل ظل عاجزاً عن التعبير ومغرداً في عزلة تامة عن تقينات (الداتاشو) المهيمنة على فضاء العرض المسرحي.

 

https://www.azzaman.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *