مسرحية “البيض”… تبديد الأساطير واستشراف مآزق التحرير

شاهدت مؤخرًا على خشبة أكبر مسارح المسرح القومي الإنكليزي الثلاثة في لندن، وهو مسرح أوليفييه، مسرحية “البيض” (Les Blancs) للكاتبة المسرحية الزنجية الأميركية لورين هانزبيري (1930 – 1965) Lorraine Hansberry، التي لمعت كالشهاب في سماء المسرح الأميركي ثم اختطفها الموت وهي في ريعان الشباب.
لم أصادف أياً من أعمال الكاتبة لورين هانزبيري على خشبة المسرح الإنكليزي الذي أتابع أبرز عروضه. وقد دفعني العرض بقوة النص وكلاسيكيته المدهشة للبحث عن كاتبته، فاشتريت كتابها المطبوع وكانت فيه أكثر من مسرحية لها. 
وكلما قرأت أكثر عن هذه الكاتبة وقرأت أعمالها الأخرى، تأكد لي كم أننا لا نزال محكومين بمركزية الثقافة الأوروبية، أو الغربية البيضاء عمومًا، وبما تختار إبرازه أو تشاء أن تهمشه. ولا نعرف الكثير عن المسكوت عنه فيها وروافدها الثانوية الغنية، رغم أن تلك الروافد أقدر على لمس الكثير من القضايا التي نعاني منها في عالمنا العربي.
 
للسود تاريخ عريق
 
ذلك لأن المسرحية التي وضعت اسم لورين هانزبيري بقوة على خريطة المسرح الأميركي، وهي مسرحيتها الأولى “حبة عنب في الشمس A Raisin in the Sun” قد اكتملت عام 1957، أي في العام التالي لعرض مسرحية جون أوزبورن “انظر وراءك في غضب” 1956؛ وكثيرًا ما يقارن تأثيرها على المسرح الأميركي بتأثير مسرحية أوزبورن الشهيرة تلك على المسرح الإنكليزي، التي عرفها الواقع الثقافي العربي في حينها، وكثيرًا ما قورن تأثيرها على المسرح الإنكليزي، بتأثير مسرحية نعمان عاشور “الناس اللي تحت” على المسرح المصري، التي عرضت هي الأخرى لغرابة المفارقة في العام نفسه 1956. 
ويعتبرها الكثيرون الآن مسرحية هانزبيري، تلك المسرحية التي بدأ بها الحراك الفني بين السود، الذي تبلور بعد ذلك في حركة الفنون السوداء Black Arts Movement في ستينيات القرن الماضي. كما كانت المسرحية الأولى التي تجعل حياة السود الأميركيين مدار اهتمامها، وتعرض على جمهورها شريحة من حياتهم وأحلامهم المؤجلة. ثم كتبت بعد هذه المسرحية الناجحة التي وضعت اسمها بقوة على خريطة المسرح الأميركي، وفتحت الباب أمام الكتاب والممثلين السود فيه على السواء، أربع مسرحيات كان آخرها “البيض” التي سعت فيها إلى خلق ما دعته بمسرحية كلاسيكية لشعب عريق، تنطلق من تصور أن السود شعب له تاريخ عريق تمتد جذوره في القارة الأفريقية وحضاراتها المتعددة، ولا بد من التعامل معه مسرحيًا على غرار المسرح الإغريقي القديم. 
واصلت هانزبيري العمل على هذه المسرحية طوال العامين الأخيرين من حياتها، وكانت تناقش تفاصيلها وتعيد كتابة مشاهدها بين الفترات التي تقضيها في المستشفى أو خارجها. لأنها كانت تعتقد أنها ستكون أهم أعمالها قاطبة. وهي إلى حد ما كذلك، لما تنطوي عليه من عمق وبنية درامية محكمة، وغنى في الشخصيات يضعها بحق مع المسرح الكلاسيكي الذي سعت لكتابته. لكنها لم تستطع أن تراها على خشبة المسرح، حيث أصيبت عام 1964 بسرطان البنكرياس، وتوفيت بسببه في العام التالي. ومسرحية “البيض” هي أول عمل أميركي يركز على أفريقيا وعلى صراعها من أجل تحقيق الاستقلال عن المستعمر الأوروبي الأبيض، ودور أميركا الإشكالي في هذا المجال. 
 
تأثير جان جينيه
 
فهي ليست مسرحية عن صراع الأفراد وإنما عن صراع القوى الاجتماعية والسياسية التي تتحكم في مصير أفريقيا، وستواصل التحكم فيه لعقود بعدها. ونعرف الآن أن المسودة الأولى للمسرحية لم تأخذ أول أشكالها الدرامية، وتتبلور الخطوط العريضة لشخصياتها وبنيتها وتطور أحداثها، إلا عندما شاهدت هانزبيري مسرحية جان جينيه المعروفة باسم (السود Les Nègres) التي تعد (البيض Les Blancs) بعنوانها الفرنسي لا الإنكليزي نوعًا من الرد الدرامي عليها، أو الجدل معها، وإعادة طرح لقضيتها وتناولها لموضوع السود، الذي اعتبرته بعيدًا عن متغيرات الواقع الأفريقي كما تفهمها، برغم نبل مقصد جينيه وأهمية مسرحيته. فمسرحية جينيه، لا علاقة لها من حيث البناء الذي يستخدم صيغة المهرج والمسرح داخل المسرح، أو الشخصيات التي حافظ فيها جينيه على غرائبيتها وطقسيتها القناعية، ببنية مسرحية هانزبيري التي تنحو إلى الكلاسيكية بمعناها الإغريقي المعروف. 
لكننا لا نستطيع إغفال الجدل بين العملين، الذي يتعمد العنوان لفت انتباهنا إليه. وكأنها تريدنا رغم تذكيرنا بمسرحية جينيه، أن نعي مسؤولية البيض عما جرى لأفريقيا وأن شعورهم بالذنب تجاهها لا يحلهم من المسؤولية عما تعانيه، بل إنه تبسيط مخلّ للقضية. فقد كان هذا هدف مسرحية جينيه التي يعتبرها حوارًا بين البيض، بشأن ما اقترفته أيديهم ضد السود، يطرح فيه القضايا الأساسية لما قاموا به من دمار في القارة الأفريقية. لكن مسرحية هانزبيري لا تحل السود من المسؤولية أيضًا، وتعتبرهم مسؤولين عما جرى ويجري حتى الآن.
 
 
مشهدية أفريقية
 
 
وتدخلنا المسرحية في مناخها قبل رفع الستار، أو بالأحرى قبل إضاءة المشهد بنوع من اللغة المسرحية المرافقة للنص، بأصوات الأحراش أو الغابة الأفريقية التي تنبعث في جو المسرح من الجانبين والخلف: أصوات صرير الجنادب ونقيق الضفادع ونعيق الغربان وعواء/ ضحكة الضباع. أما المشهد الذي تتكشف عنه الخشبة فهو مبنى البعثة الخشبي، أو شبحها، الذي حرص مصمم المشهد في المسرح القومي الإنكليزي على أن يرفعه عن أرض الخشبة قليلًا وكأنه معلق في فضاء المكان، فلا جذور له فيه. ومع إضاءة الخشبة التدريجية الخابية ترتفع أصوات الغابة، ويبلغنا قرع طبول متقطع من ناحية من المسرح، ويرد عليه قرع آخر من الناحية الأخرى. ومع سطوع الإضاءة التدريجي تظهر امرأة أفريقية في ملابس أفريقية وحول عنقها وذراعيها وساقيها أساور من الريش، وكأنها ملكة أفريقية، وتبدأ في الرقص، ثم تلتقط حربة وترفعها في يدها وكما لو أنها تعلن الحرب مع تصاعد قرع الطبول وعواء/ ضحك الضباع. ويتكرر هذا المشهد الطقسي، بين الفصول، وتختتم به المسرحية، وكأنه علامة ترقيم أساسية أو نغمة قرار طقسية متكررة فيها.
بعد هذا التقديم الطقسي المترع بالدلالات والرموز، تتغير الإضاءة إلى وضح النهار، فنسمع صوت وصول قارب، بينما يتكشف مبنى البعثة وعلى شرفته نشهد الطبيبة الشقراء مارتا في معطفها الأبيض وسماعتها، وهي تفحص صبيًا أفريقيًا، بينما اقتعد عدد من الأفارقة الأرض أمام الشرفة في انتظار دورهم. ويدخل بيتر الأفريقي المسن وهو عامل المبنى الأسود الحافي، حاملًا حقيبتين ثقيلتين، ويتبعه تشارلي موريس الصحافي الأميركي في بدلة صيفية يحمل آلته الكاتبة. فقد جاء لإعداد تقرير صحافي عما يدور في هذه المنطقة الأفريقية النائية التي تحفل بالاضطرابات وأعمال الإرهاب وكأن المسرحية التي كتبت في ستينيات القرن الماضي تخاطب عالم اليوم المشغول بمحاربة الإرهاب. وترحب به الطبيبة مارتا وتعتذر له لأن القس نيلسون ليس هنا في انتظاره، لأنه ذهب إلى الجانب الآخر من النهر، لتعميد بعض الأفارقة، وحضور جنازة هناك. 
ثم يجيء الطبيب الآخر ويلي ديكوفين، ويدور الحديث حول الأب نيلسون ودوره في تحضير أهل المنطقة الأفارقة. ثم يسمع صوت طلقات نار ويعقبه صوت العقيد جورج رايس أحد ضباط الإدارة الاستعمارية، يقول إنه يعتقد أن الآخر قد هرب. ثم يظهر رايس ويرحب بدوره بتشارلي، ويلح عليه تشارلي لمعرفة سبب الطلقات، فيخبره بأنه استأصل بعض الإرهابيين. ويطلب رايس من تشارلي أن يعرض عليه أي تقرير يكتبه قبل أن يبعث به للنشر، لأنه يفهم بالطبع حساسية الأمر في حالة الطوارئ الراهنة. وكأنه يذكرنا بالمراسلين المرقّدين في حروب أميركا الحديثة، كما كان الحال إبان غزو العراق، واستخدام الإعلام كذراع أساسي لتحقيق أهدافها السياسية. 
 
وفي مواجهة مشهد البعثة، تقدم المسرحية مشهد الكوخ، كوخ زعيم القبيلة الذي مات، حيث نجد ابنه الأصغر إيريك الذي سبق أن التقيناه في البعثة ويصل أخوه “تشيمبا” من أوروبا، ويسأله أين أبي، فيقول له إنه مات ليلة البارحة. فيرد حزينًا إذن لقد وصلت متأخرًا ولم أودعه! ويتحدث الأخوان عما جرى في غياب “تشيمبا” لخمس سنوات قضاها في أميركا وأوروبا، وكيف أنه تزوج من امرأة أوروبية وأنجب صبيًا ولد حديثًا. وحينما يسأل “تشيمبا” عن أخيهما الأكبر “أبيوسا” يخبره إريك أنه انخرط في سلك الكنيسة. ويدور بين الأخوين حديث طويل عن المفاوضات التي يجريها زعيم المنطقة مع المستعمرين في أوروبا، ويكشف تشيمبا له عن لا جدوى مثل هذه المفاوضات لأنها تتم ضمن استراتيجية من المساومات ومحاولات البيض للاستمرار في سيطرتهم بشكل مغاير. 
 
ويصل أبيوسا أخيرًا ويتحدث مع أخيه الأصغر عما يدور في واقعهم، وينصح أبيوسا أخاه بأن يتخلى عن الاهتمام بما يفعله أبناء القرية من المقاومين، وأن ينصرف لمستقبله في الغرب. وكيف أن حلم أبيوسا يتركز على أن يرسّم قسيسًا ويغير اسمه إلى بول أوغسطس، وينخرط في الكنيسة ليصبح عضوًا بالمؤسسة الدينية المسيطرة. ويدعو أخوه للانخراط معه في صلاة مسيحية، لأنه يرفض المشاركة في طقوس دفن أبيه الأفريقية، مع وعيه بأن الأب يؤمن بتلك الطقوس، كما أن مكانته في القبيلة تستلزم الحفاظ عليها، فيقرر تشيمبا أن يرتدي الرداء التقليدي وأن يقوم بتلك الطقوس مع بقية قبيلته من أجل أبيه.
ثم يعود المشهد للبعثة حيث يتحرك الحدث الدرامي بين الكوخ الذي يمثل حياة السود واهتماماتهم والبعثة التي ترمز لواقع المستوطنين البيض ومحاولتهم لحكم البلاد في واقع بدأت فيه مقاومة أهلها لهم ورفضهم إياهم، بعدما كانوا يرحبون بهم في أكواخهم، ورغبتهم في إدارة بلادهم والحصول على حقوقهم السياسية فيها. ومع تصاعد أحداث “الإرهاب” أو المقاومة ضد المستوطنين البيض، وإجراءات الطوارئ الصارمة التي يفرضها العقيد رايس على البعثة، وعنفه في استئصال المتمردين الذي يقابله عنف المقاومين المضاد لطرد المستعمر، تدور في المسرحية العديد من النقاشات بين “تشيمبا” وتشارلي، وبين تشارلي وويلي الذي يدرك أن السياسات الاستعمارية بكل عنفها الذي يمثله رايس، هي التي دفعت السود للعنف المضاد، بعدما استنفدوا كل الوسائل السلمية في النضال دون جدوى.
 
ثقافة أميركية إزاء السود
 
ونكتشف من نقاش تشيمبا الطويل مع تشارلي في أكثر من موقف في المسرحية أن من المستحيل على الأميركي أن يفهمه، وأن يتخلى عن التصورات المضمرة التي تحكمه هو وثقافته الأميركية كلها إزاء أفريقيا وإزاء السود. ويدور في هذا الحديث الطويل بينهم أحد أهم حوارات المسرحية عن تاريخ أفريقيا مع الاستعمار، وعن التبسيطات الأميركية التي تريد القفز على هذا التاريخ. 
أما على الجانب الآخر، فنكتشف أن والد تشيمبا هو الذي قاد النضال السلمي لسنوات طويلة حتى يأس منه، ثم قاد النضال المسلح حتى موته، وأن بيتر وغيره من المقاومين يريدون أن يحل تشيمبا مكان أبيه، بعد خذلانهم من أخيه الأكبر أبيوسا الذي باع روحه للبيض. لكن تشيمبا الذي عاد من لندن إلى بلده ليشارك في جنازة أبيه ودفنه، وسط دمدمات الصراع من أجل الاستقلال، ورغبة قبيلته في أن يتولى زعامة صراعها المسلح ضد المستعمر، يواجه حيرة هاملتية واضحة: أيستجيب لنداء الواجب/ القبيلة/ الأسلاف الذي عاد إلى القرية من أجل دفن أقربهم إليه؛ أم يعود ليواصل حياته الهادئة في الغرب حيث تزوج من إحدى نسائه وأنجب منها طفلًا وليدًا؟ 
 
أما الأخ الأصغر إيريك، وهو نصف أبيض لأنه نتيجة العلاقة المحرمة بين الأم والعقيد رايس، فينضم للمقاومين. ويبلغ الصراع في المسرحية، وقد مهدت له الأحداث وطورته بحصافة، ذروته في خيانة الأخ الأكبر أبيوسا للمقاومين، وإبلاغ رايس بأن بيتر هو زعيمهم فيقتله، مما لا يترك مجالًا أمام تشيمبا الذي حاول جاهدًا إنقاذ بيتر من خيانة أخيه ووشايته به، إلا أن يواجه أخاه الأكبر بالحربة الأفريقية التقليدية، بينما يلقى الأخ الأصغر إيريك بقنبلة على البعثة فيدمرها. بطريقة تطرح المسرحية بها قضية هل يمكن للمقهورين التحرر من دون ثورة وعنف؟ وهو السؤال الذي اهتم به فرانز فانون في “معذبو الأرض”. وإلى جانب هذا السؤال المحوري ثمة سؤال لا يقل عنه أهمية، وهو ماذا سيفعل كل من السود والبيض بأنفسهم بعد أن يتحرر المستعمَر من الاستعمار؟ إنها مسرحية الأسئلة الصعبة التي لا تطرح على المشاهد إجاباتها بسهولة، وإنما تشركه في معضلتها الفكرية والموقفية كما يفعل المسرح الجيد والجاد.
 
 
البيض vs السود
 
نعرف الآن أن المسودة الأولى للمسرحية لم تأخذ أول أشكالها الدرامية، وتتبلور الخطوط العريضة لشخصياتها وبنيتها وتطور أحداثها، إلا عندما شاهدت هانزبيري مسرحية جان جينيه المعروفة باسم (السود Les Nègres) التي تعد (البيض Les Blancs) بعنوانها الفرنسي لا الإنكليزي نوعًا من الرد الدرامي عليها، أو الجدل معها، وإعادة طرح لقضيتها وتناولها لموضوع السود، الذي اعتبرته بعيدًا عن متغيرات الواقع الأفريقي كما تفهمها، برغم نبل مقصد جينيه وأهمية مسرحيته. فمسرحية جينيه، لا علاقة لها من حيث البناء الذي يستخدم صيغة المهرج والمسرح داخل المسرح، أو الشخصيات التي حافظ فيها جينيه على غرائبيتها وطقسيتها القناعية، ببنية مسرحية هانزبيري التي تنحو إلى الكلاسيكية بمعناها الإغريقي المعروف. 
لكننا لا نستطيع إغفال الجدل بين العملين، الذي يتعمد العنوان لفت انتباهنا إليه. وكأنها تريدنا رغم تذكيرنا بمسرحية جينيه، أن نعي مسؤولية البيض عما جرى لأفريقيا وأن شعورهم بالذنب تجاهها لا يحلهم من المسؤولية عما تعانيه، بل إنه تبسيط مخلّ للقضية. 

—————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  د. صبري حافظ – العربي الجديد

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *