مسرحية “البطل” : محمد سيف من طروادة إلى ستوكهولم

مسرحية البطل ، تاليف واخراج محمد سيف، تمثيل الفنان ضياء حجازي، والممثلة السوبدبة اورليكا

مسرحية البطل هي العرض الثاني لفرقة التمرين التي تضم مجموعة من المسرحيين العراقيين من خريجي معهد وأكاديمية الفنون الجميلة.. تم عرضها على صالة بيت الشعب في الضاحية الستوكهولمية “رنكبي” خلال يومي السبت والأحد التاسع والعاشر من شباط/فبراير 2002. مسرحية “البطل” أثارت العديد من الآراء لصحفيين ومبدعين ولمهتمين بالفن المسرحي، حضروا مع جمهور ملفت للنظر من العراقيين والسويديين إلى صالة العرض. وكانت مثار نقاش نشيط منذ القراءة الأولى للنص الذي كتبه وأخرجه الفنان محمد سيف وقام ببطولته الفنان العراقي ضياء حجازي والفنانة السويدية اولريكا فريكستيت وحتى بعد العرض الثاني الذي ستعقبه عروضا في الدنمارك ومدن سويدية أخرى. كان الجهد المبذول في هذا العمل أخراجا وتمثيلا وديكورا وإضاءة واضحا ، لكن ما تميز به أساسا هو ما يمكن تسميته كسر المألوف وهو الجديد في أكثر تفاصيل ومرتكزات العمل نصا وتجسيدا. شخصيات العمل الرجالية والنسائية التي كان يمكن لعب أدوارها لأكثر من ممثل وممثلة، جازف المخرج في اعتماده الحد الأدنى مكتفيا بممثل واحد وممثلة واحدة لعبا كل الأدوار وهذا الأمر يجعل الاختيار غاية في الصعوبة والحنكة في معرفة شروط وقدرات الممثل الواحد والممثلة الواحدة. خصوصا إذا كان كل واحد منهما ينتمي إلى ثقافة مختلفة تماما عن الأخر ويبقى المسرح المشترك الوحيد الذي يجمعهما ويبقى شرط المستوى الرفيع والقدرة العالية ملزما لنجاح العمل، وخصوصا مسرحية البطل لان هناك أكثر من شخصية مركبة في النص تتناقض وتتقاطع فيما بينها بيئة ومزاجا، ناهيك عن ضرورة المحافظة على أجواء النص الأسطورية التي لأحداثها أكثر من إسقاط على واقعنا الاجتماعي والسياسي. وبيئة النص بحد ذاتها تتيح لبطل وبطلة العمل الحركة من شخصية إلى أخرى دون الخروج عن الحالة نفسها وهذا ما سجله العديد ممن حضر العرض في براعة ضياء واورليكا فيها. ففي اغلب الأحيان كانت عملية التحول إلى شخصية أخرى تستنزف نصا طويلا ومتعبا في بلاغته وترصعه بأسماء شخصيات وأماكن إغريقية وأحيانا تجري عملية الدخول في شخصية أخرى جملة واحدة أو اثنتين أو بمجرد تحول الإضاءة من لون البحر إلى لون الإجهاض أو الرماد. إضافة إلى أن النص في حقيقته عبارة عن نص لمحمد سيف متضمنا قصيدة للشاعر العراقي فاروق يوسف.
ما لا ينتظره التوقع في النص
في أهم نصيّن للفنان محمد سيف هما ” البحث عن السيد جلجامش” و نص ” البطل” نجده يبحث عن نمط غير متوقع من الأبطال أو عن فكرة ما غريبة عن البطولة بمعناها السلبي أي كسر التقليدي في شخصية وهيئة البطل ومثل البطولة. يبحث مرة عن جلجامش هاربا إلى حانة على شاطئ مهجور وأخرى عن أبطال آخرين مثل “أخيل” ميت الإغريق العظيم الذي يستعاد من تلافيف النص. وهذه المرة عن جندي قروي بسيط تأسره الخطب والرسائل الملكية. حوله قدره إلى رسول للملك الإغريقي “اكاممنون” وتالتبيوس هو الخطيب المفوه، صاحب الكلمات المحلقة، كلمات الملك الضاربة إسماع الشعب بواسطة فمه. في دوامة البحث نجد أن الفكرة التي يكرسها كاتب النص هو أن لا بطولة مجردة في الحروب، بل مجرد زيف وادعاء وتبجح، وكأنه يقول: إن البطولة كذبة أسطورية تمليها صناعة التاريخ، وأن الحرب ما أن تنتهي كحدث حتى تتغير صورة المحارب، وتتغير أدواره البلاغية إلى خدمة رثة يمكن لقدرات ثانوية أن تقوم بها. مثل دور حارس لرغبات سادته أو بطل على أسرى يفترسهم الرعب ويثقلهم الإرهاق والمرض. بعد حدث الحرب تضمحل الأدوار العظيمة، وتهبط النفوس السامية إلى درجة الاضطلاع بمهام فلاح مغلوب يسديها لسيد إقطاعي. وهي مهام خدمية لا ترتقي إلى البسالة المطلوبة من جندي شريف. أما مهمة بطلنا “تالتبيوس” فهي مهمة قذرة تشرف بها من لدن مليكه في تقسيم الأسلاب والحرص على أن يكون لكل أسيرة طروادية سيدها العابث ، وهو يعترف انه قد كره الحرب بعد مضي أولى لحظات الحماس عند الصعود إلى سفن الملك الإغريقي باتجاه طروادة كره (صرخات الحرب المريعة، الأناشيد والغناء الممتلئ عجرفة وشجاعة مقيتة، الشتائم الموجهة لعدو مكروه، الأوامر الغبية) كره ذلك كله.
للتو انتهت الحرب الشنيعة التي شنها الإغريق على مملكة طروادة، لتبرح قدما النار المدينة تاركة الدور لقدمي الرماد الذي استحالت إليه طروادة، ذات السماء المفتوحة والأنف الأرستقراطي، وللتو انتهت حسبة الغنائم والأسلاب، وبدأ الجشع يحل محل البطولة، حيث تحقق حلم الملك الإغريقي الذي لم يحتمل رؤية مملكة جميلة إلى جوار مملكته اليابسة والضيقة، ليبدأ النص بمشهده الأول، الرسول “تالتبيوس- ضياء حجازي” بعد أن قذفته موجة عاتية من حافة السفينة إلى الشاطئ، يدخل بخطوات يثقلها الوحل وجسد منهك يترنح تحت سلطان الندم، ممزقا الستارة الخلفية للمسرح، وكأنه يغتصب أخر ما تبقى من طروادة المهزومة والمحترقة. بما ليكشف عن الواقع الزائف للحروب، أو ليخدش خلق وشرف الممالك العظيمة ومحاربيها أو أمر أخر يراه محمد سيف مستعيدا ذكريات حروب عديدة، ومسترجعا طفولة الرسول الذي تحتفظ ذاكرته بانبهار أول لشخصية رسول الملك “ميسن واراكوس” الذي زار قرية تالتبيوس وألقى كلماته السماوية، كلمات مليكه على أسماع فلاحي القرى الإغريقية وأطفالهم المعدون لحرب “مقدسة” قادمة. إن نص “البطل” هو قراءة متأنية لسجل حروب ويوميات مفجعة.

كسر المألوف إخراجا
تبدأ المفاجأة في شكل المسرح وموقع الممثل، وفي سينوغرافيا الفنانة “رغد” وذلك بجعل ثلثي صالة الجلوس للجمهور، خلافا للمتوقع، حيث يحتل ممثلا مسرحية “البطل” مكان المتفرجين. واضعا جزءا من المتفرجين على خشبة المسرح نفسها فيما تلتف حول الجزء الأمامي من “فسحة العرض” ثلاثة أنصاف أساور متتابعة يحتلها جلوسا الجزء الآخر من الجمهور، وكأن الجمهور يتفرج من فوق على حلبة صراع رومانية كان الأباطرة القدماء يمضون فيها تسليتهم الدموية في الفرجة على صراع الأسرى مع بعضهم البعض أو بينهم وبين وحوش ضارية جائعة. لقد أعطي المتفرج المكان الأبرز وصفة الشراكة بحواسه في هذا العمل المسرحي. أما بساطة ديكور الفنانة رغد، فقد كان مقتضبا في تجسيد خراب طروادة : ستائر تنزل من سقف الصالة حتى أرضيتها، مستطيلان من الزنك اللامع على جانبي خلفية المسرح، مفرش مربع من النايلون الأخضر الداكن فرشت عليه سجادة من الرمل الخشن، وصخرتان وضعتا على الرمل والجدير بالذكر أن” كلف تنظيف الصالة من الديكور ونقل تسعة أكياس من الرمل الخشن هي أضعاف ثمن الديكور”، لذلك قام أعضاء الفرقة وأصدقاؤهم بهذا العمل الذي استنزف وقتا وجهدا كبيرين بعد انتهاء العرض “الثاني”. فيما كانت الإضاءة “سلام الغبان” حادة وعنيفة حسب أجواء المشاهد. وقد خدمت هذه الإنارة التي تحولت تقنيتها من الجزء العلوي من الستائر شاشة لعرض لقطات وثائقية عن حرب كوسوفا ورواندا والبوسنة وحروب حديثة أخرى، استخدمها المخرج لكي يكسر من اغتراب النص الأسطوري والإغراق في تاريخيته، وهكذا لفت انتباهنا إلى حالنا وحاضرنا.
الممثلون، المخرج وفرقة التمرين
بداية يحسن القول: إن عملا بهذه القوة، وبهذا النص المركز والمثخن ببلاغة موجعة وما يحتاجه من تحولات تعبيرية عديدة متناقضة من التداعي وتصنّع العظمة والسخرية والحزن والوصول إلى حافة الضياع والجنون تنويعات من الضحك المتشنج سخرية وندما وتشفيا إلى البكاء المر. ما كان له لينجح ويقنع المتلقي لو لا إصرار فريق العمل. فالحالة التي كان يصل إليها الفنانان “ضياء واورليكا” بسبب الضغط النفسي قبل العرض تجعلهما حريين بالفرجة والمراقبة. فالممثل كان يرتجف، يتحرك خابطا قدمية على الأرض يهمس أحيانا، وأحيانا أخرى يصرخ بالدعوات، فيما كانت الممثلة تسترخي مشلولة من الخوف، وقتها تساءلت وأنا أقرأ النص دون أن اتجاسر على إعلان سؤالي: كيف لمجنون كهذا وميتة كهذه أن يقوما بعمل كهذا ؟ لكن ما أن استقر الجمهور في أماكنه وأعلن رئيس الفرقة عبود الحركاني بدء العرض حتى دب النشاط بالممثلين “المجنون والميتة” وتوالت المشاهد بنجاح يثير الإعجاب. كان المؤلف/المخرج محمد سيف يراقب توترهما بهدوء مؤكدا أنهما تحت تأثير القلق الذي ينشط الفنان وليس الصدمة التي تشل الإرادة فيه. القضية الأكثر صعوبة في نص البطل هي أن الحوار الخاص بالبطلة وجزءا يسيرا من حوار البطل قد نقل إلى لغة سويدية مفهومة، وباقي حوار البطل في اللغة العربية ، المشكلة هي كيف تستلم الممثلة السويدية من الممثل العراقي. اعتقد أن حركة الممثل وتحوله من شخصية إلى أخرى وحركة الإضاءة وذكاء الممثلة كل هذه العناصر في سلاسة تسلم الحوار ونجاح العمل ككل. الفنان ضياء حجازي الذي قام بتمثيل شخصية تالتبيوس بكل تحولاتها السردية والتشخيصية المختلفة: الملك اكاممنون، الرسول القديم، وكلشاس العراف. ويقول سجله المسرحي أنه :
تخرج من معهد الفنون الجميلة قسم المسرح عام 1985، بكالوريوس في العلوم المسرحية من جامعة ستوكهولم(ويعد الآن بحث الماجستير)، شارك في مجموعة من الأعمال المسرحية في العراق وسورية، في السويد وباللغة العربية قدم “سفر في حقل الصبار” تأليفا وتمثيلا، وباللغة السويدية شارك في مسرحية ” دون جوفاني” تمثيلا و” انتهت الكلمات، أعطونا حسائا” تمثيلا واشتراكا في الإخراج مع المخرجة الإيطالية فاندا موناكو، كما اخرج عرضا فنيا في مسبح مفرغ من الماء، في ستوكهولم.
أما الفنانة أورليكا فريستيت التي جسدت الشخصيات النسائية في العمل قد تخرجت من المعهد الفني للدراما في لندن عام 1999، شاركت كممثلة في مجموعة من الأعمال المسرحية أخرها: دائرة الطباشير القوقازية، حيث جسدت شخصية كروتشا كما شاركت في مجموعة من الأفلام السينمائية القصيرة.في التلفزيون شاركت في عمل: أميرة الخدم، الذي عرض في خريف 2001.
أما المؤلف والمخرج العراقي محمد سيف:
دكتوراه في العلوم المسرحية من جامعة السوريون، ودبلوم من معهد جاك لكوك لفن التمثيل في باريس، ودبلوم معهد الفنون الجميلة/قسم المسرح بغداد،ومديرا فنيا لفرقة مسرح الضفتين الفرنسية. اخرج في العراق: الصبي المشاكس، عن قصة لتشيكوف، والجمجمة لناظم حكمت، واخرج في فرنسا: بعد أن تدك المدن في المدافع، و ورود الجرانيوم لا تحتاج إلى عناية لمسرح فولتير الفرنسي، كما اخرج لمسرح لونيل ومسرح لانو الفرنسيين على التوالي: مسرحية أعلى بكثير من الطيور، ومثل موج البحر مدٌ وجزر. وضمن عروض مسرح الطفل اعد واخرج وشارك في التمثيل أحدى عشر قصة مستوحاة من حكايات ألف ليلة وليلة، قدمت جميعها في باريس. في التأليف له خمس نصوص مسرحية منها: الزوج الأبدي، والبحث عن كلكامش، ومن مؤلفاته التي مازالت تحت الطبع: الطفل والتعبير المسرحي، و مجموعة مسرحيات للطفل، وفي الترجمة له: كتابين للمخرج الإنكليزي بيتر بروك: الضجر هو الشيطان وبيتر بروك مع شكسبير.
تأسست فرقة التمرين المسرحية عام 1991 وقدمت ثمانية أعمال مسرحية بدءا من المهندس والإمبراطور من إخراج عبود الحركاني حتى مسرحية البطل لمحمد سيف. وقد شارك العديد من الفنانين المسرحيين في أعمال هذه الفرقة تمثيلا وإخراجا منهم: عادل عباس، مناضل داود الذي اخرج مسرحية أكلة لحوم البشر للشاعر ممدوح عدوان. وأخيرا يقول الفنان عبود الحركاني رئيس الفرقة: سنبقى في المسرح ، مدركين تماماً أننا نستقي مادتنا من الحياة لأن المسرح يصور الناس حيث تجمعنا التجربة الإنسانية المشتركة.

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *