مسرحية “أنا أوربا” للألماني فالك ريختر.. هل ستتأسف النجوم على غيابنا عندما لم نعد نسكن على هذه الأرض؟ – د.محمد سيف #فرنسا

مسرحية “أنا أوربا” للألماني فالك ريختر.. هل ستتأسف النجوم على غيابنا عندما لم نعد نسكن على هذه الأرض؟

محمد سيف – باريس

يشكك المؤلف والمخرج الألماني (فالك ريختر) في عمله (أنا أوربا)، في الحالة العاطفية التي تمر بها أوروبا اليوم من خلال جمعه للتجربة المعاشة لثمانية مؤدين، (ممثلين، وراقصين)، من النساء والرجال الأوربيين، متخذا لنفسه من سيرهم الذاتية، وقصصهم الشخصية الحميمة، وذكرياتهم، وجهات نظرهم وعواطفهم، موادا تغذي نقطة انطلاق كتابة بحثه الركحي الدرامي، والموسيقي والكوريغرافي، في مسرحية (أنا أوربا) التي قدمها مؤخرا على مسرح الأوديون الباريسي. لقد استثمرّ (فالك ريختر) في هذا العمل، الطاقات المتعددة الموجودة في نصوص وأجساد هؤلاء الممثلين الثمانية، لمعرفة ما هي الهويات الأوربية اليوم في ديناميكيتها المتعددة. ويساهم كل واحد من هؤلاء المشاركين، بفنه ولغته، في تكوين صورة ذاتية جماعية والتي تعد أيضًا بمثابة جرد إيجابي وبناء ضد التصرفات الرجعية المفرطة، بحيث كان العرض بمثابة لحظة متنوعة ومثيرة لأوربا أخرى، ويشبه إلى حد كبير، فحصا لسيارة مستعملة مسبقا أثناء الرقابة التقنية.

في هذا العرض الذي يجمع فيه المؤلف والمخرج (فالك ريختر)، بين المسرح والرقص، والفيديو والموسيقى، هناك تشكيك ومسائلة من قبل جيل بأكمله في الاضطرابات السياسية والأيديولوجية التي تهز كيان الاتحاد الأوروبي. إنه يطرح من خلاله أسئلة عدة، منها: من أي عالم نحن أتينا وما هي الحالة التي نريد نقلها على وجه التحديد؟ ما هي أوربا؟ ومن تكون؟ ما هي أهمية مفاهيم، مثل: الهوية، الأصل، والوطن، في أوربا التي تغلبت سلميا على الحدود اللغوية والوطنية، ولكنها ظلت دائما مهددة بالخوف والأزمات وخطر العودة الى القوميات والشعبوية البسيطة؟ وإذا فشلنا في الإجابة عن ذلك، كيف يمكن للفن أن يكون أو يجيب عليها؟ هناك ثمانية مؤدين للإجابة على هذه الأسئلة. سواء من منظور جيلهم (تتراوح أعمارهم الممثلين بين 25 و35 سنة)، أو مهنتهم (جميعهم ممثلون وراقصون)، وأصولهم الجغرافية والاجتماعية- الثقافية، (المتنوعة للغاية)،

وموروثات عائلاتهم (معظمهم ينحدرون من أباء وأجداد عانوا من الهجرة)، ولغاتهم- الفرنسية، ولكن أيضا العربية، البرتغالية، الألمانية، الإيطالية والكرواتية.
لقد لعب هؤلاء الممثلون، على خشبة مسرحية (أنا أوربا)، أدوارهم الخاصة كفنانين شباب أوربيين، قادها واشرف عليها (فالك ريختر)، باعتماده على الطريقة الوثائقية، وزج الممثلين، في عملية الكتابة، وفن الارتجال، وكتابة النصوص حوله، وتحويل كل الموضوعات التي خضعت للجدل، والبحث والنحت، إلى حركات راقصة ترجمها وبلورها الكوريغراف (Nir de Volff)، الذي عمل مع المجموعة بأكملها. اعتمد العمل في كليته على المواد المسرحية، وتعدد الأصوات، والتجوال بين النصوص التي كتبها (ريختر) نفسه والتي كتبتها المجموعة، مثلما اعتمد على الحركات والأجزاء الوثائقية والحقيقية والسير الذاتية والخيالية، التي صنع مونتاجها بالتالي، من كل هذه المواد، الدراماتورج (نيلز هارمان).

تم البدء بعمل (أنا أوربا) في مسرح ستراسبورغ الوطني عام 2019، وعندما قدم مؤخرا، أمام الجمهور الباريسي، اجرى عليه (ريختر) تعديلات، لأجل ان يبقى أقرب إلى الأحداث الحالية. سيما أن كل شيء فيه يبدأ بالإجابات على سؤال ضمني: ما هي أوربا؟ لكي تأتي النتيجة على هيئة قائمة جرد غير نهائي ومتناقض، في آن واحد. مثلا: ما هو المشترك بين مواقف (فيكتور أوربان) المجري الذي اعترض على نزوح المهاجرين والمستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) التي شرعت أبواب المانيا لهم؟ في أوربا، هناك أشياء كثيرة جيدة، وأخرى لا تزال، تشبه إلى حد كبير، ثعابين البحر، هذا بالإضافة إلى وجود مخزونات أخرى مثل الحروب التي اندلعت في أوربا، وما نتج عنها من سلوك غير محتمل. بهذه الطريقة، يستمد العرض قوته، خاصة عندما تخلى عن كل ما هو فائض من اجل الوصول إلى قلب الأخبار والأحداث الحالية أو القصص الشخصية. وبما ان العرض قد تم إنشاؤه في فرنسا، فإن ما جرى فيها منذ عدة شهور، وما يجري بها الآن، لم يترك ممثلي العرض في حالة من اللامبالاة، مما جعلنا نشاهد دخول أصحاب (الستر الصفراء) على خشبة المسرح الوطني. ليس فقط من خلال صور الفيديو، وإنما أيضا، بالمشاركة في الحوار والصراع والنقاش الذي يدور حول حركتهم الاحتجاجية.
• مهدي: هل ستأتين معي يوم السبت أم لا؟
• كابريل: سمعت انهم لا يسمحون لامرأة محجبة بالاشتراك معهم، انهم يهيلون عليها الإهانات العنصرية.
• بيرستين: وانهم لا يسمحوا لزوجين مثليين.
• كابريل: أنا لا أتظاهر معهم.
• تاتيانا: لكنك ضد النظام غير العادل تماما الذي لا يستفيد منه سوى الأغنياء.
• كابريل: لكنني لا امشي معهم، لألوح بالعلم الفرنسي.
• بيرستين: وانا كذلك. لا ارغب في عبور المدينة مع الحمقى القوميين والرجعيين لإشعال النار في متاجر الأزياء الأجنبية. (…)
• مهدي: حقيقة، إن حركة الستر الصفراء، لم تتضح غاياتها ومعالمها بشكل واضح. (…)
• تاتيانا: لقد مللت من كل شيء، مللت من كل هذا القرف، والظلم، وهذه الفجوة المجنونة بين الأغنياء والفقراء.

خلال ثلاثين مشهدا متواليا تقريبا، صمم (فالك ريختر)، عرضه على هيئة ساخرة، مزج فيه قليلا من كل شيء: الكباريه، الرقص، الأغاني، المشاهد الإخبارية والمحرضة، وبعض القصص الصغيرة، الموجهة مباشرة للجمهور (مهدي، يخاطب الجمهور الجالس في الأماكن الرخيصة في الجزء العلوي من المسرح): ههي انتم أيها الأشرار الفقراء، كيف حالكم؟ أو ” أيها الرئيس (ماكرون)، سوف آتي لكي أبحث عنك في قصرك”. ومشاهد أخرى، على خلفية الدول الأوربية ذات الماضي الاستعماري، من خلال محاكاة وقوع الأحداث المأساوية في باريس، بتاريخ 17 أكتوبر 1961، وتنصيب (موريس بابون) الذي سلم اليهود للسلطات الألمانية، رئيسا لشرطة باريس، وقيامه بقمع مظاهرة سلمية للجزائريين بقسوة، انتهت بإلقاء عشرة منهم في نهر السين، وهذا ما رفضته الرواية الرسمية. وهناك مشهد اكثر قسوة أدته الممثلة الكرواتية (لانا) باللغة الإنكليزية: ” إذن، وبترحيل اليهود وتعذيب وقتل العرب، يمكنك ان تكونّ لك مستقبلا جيدا في فرنسا”، كما تقول أيضا مقارنة بما تعرفه جيدا: ” في بلدان يوغسلافيا السابقة، لا يزال مجرمو الحرب في السلطة”. هذه بالإضافة إلى العديد من المشاهد المحيرة واللذيذة حقا، مثل المشهد الذي يطلب فيه المانحون الأوربيون من السيد دوغلاس، إدراج (مزيدا من التنوع)، لكي يتم اختيار مشروعه الأوربي، فيطلب هذا الأخير، من الممثلة (خديجة) ان تكون جزءا منه، لكنها تعتذر، لانها تقوم بجولة في أنحاء فرنسا مع مسرحية (ميديا)، ولكنه يخبرها، بأن الملف قد تم إيداعه، وإن اسمها موجود فيه، والخ.

ومشهد كابريل، الذي يكتب فيه رسالة إلى ملك بلجيكا، بعد ان يغني فريق العمل كله أغنية النصر البلجيكي الوحيد في مسابقة الأغنية الأوربية: (أنا أحب الحياة)، زائدا المشاهد التي تظهر فيها صور السير الذاتية، مثل حكايات مضيئة، (حكاية تاتيانا بيسوا، التي تروي قصة عائلتها وتنقلها المستمر بين البرتغال وأنغولا وألمانيا وإيطاليا)، ومشهد وضع علامة مربع البيئة الذي يشير إلى اختفاء الطيور، والنحل، وويلات (الغليفوسات) التي تعتبر من مبيدات الأعشاب الأكثر استخداما في العالم كمسرطن بشري محتمل، ومقارنته مع تزايد عدد الفقراء الذين ينمون عليها في الوقت الذي يغتني الأغنياء وتزداد ثروتهم بفضل استخدامها والترويج لها. (فليس اوربا فقط التي سوف تفقد نفسها وإنما العالم أيضا الذي صار يركض نحو هاويته)، مثلما يقول الممثلون بكل طاقتهم. هذا بالإضافة إلى الكلمات الأخيرة لفالك ريختر، التي تأتي على ألسنة هؤلاء الشباب الثمانية في نهاية العرض، والتي لم تكن عبارة عن جواب وإنما سؤال: هل ستتأسف النجوم على غيابنا عندما لم نعد نسكن على هذه الأرض؟ وهذا ما جسدته، بشكل استعاري وجمالي رائع، مصممة السينوغرافيا (كاترين هوفمان)، من خلال توفيرها أرضية ذات متوازيٍ كبير مملوء بالرغوة للعب الممثلين، يحاولون الوقوف عليها بصعوبة. بلا شك، أن الأمر لم يكن سهلا، سيما ان هذا المتوازي يتحرك طوال الوقت، لدرجة أنهم لم يعودوا يثبتون بمكان، لعدم توازنه المهدد، وشعورهم، الذي ينتقل إلينا بفعل العدوى، بهروب الأرض من تحت أقدامهم وأقدامنا في نفس الوقت. هذه صورة لأوربا أيضا. وهذا هو عمل (أنا أوربا).

ينصب (فالك ريختر) في هذا العمل فخا، يبدو انه يتغذى على الكارثة، إلى درجة القول: ” علينا التفكير بما بعد الكارثة”، دون اقتراح شيء، ولا حتى إجابات فنية. لا سيما إن قول، مثل: “علينا التفكير بما بعد الكارثة”، أمر خطير، لأن التفكير بالأمر يعني القبول به. وبالتالي، هل يجب علينا الإقرار بتدميرنا للأرض التي رحبت بنا واستقبلتنا؟ وهل يجب التوقف عن القتال من أجل ما يجمعنا؟

كانت أوربا فيما مضى تطمح في دخول التاريخ باعتبارها مدينة فاضلة، وتعيش عصرها الذهبي كقارة خالية من الحروب، حيث توفر فرص العمل، وفتح الحدود الذي يسمح بحرية الحركة للمواطنين والسلع والأفكار، في مجتمع مبني على احترام حقوق الإنسان. لكن هذه المجموعة المسرحية، جاءت لتعيد رسم ملامح الحلم الأوربي في حدث مضيء (هابيننك happening)، حضرّ فيه الدراماتورج الألماني (فالك ريختر)، لغة الكذب، بكشفه الغطاء عن الوجه الآخر لأوربا، المنخرطة للأسف، في وعود متناقضة تكمن في أفعالها وسياساتها، من خلال لغة مسرحية احتجاجية، وقائمة جرد طويلة تتخللها موسيقى الراب، والمواقف والشعر، والحب، والرغبات، والمخاوف، والقلق والهويات المختلفة، وصعود أقصى اليمين، والتمزق الاجتماعي (كم من العرب والسود في قاعة الأوديون؟ يسأل احد الممثلين وهو يبتسم)… هذه هي أوربا التي ابتكرها ريختر على المسرح. ولتحقيق هذه الملاحظات الساحقة والصاعقة، كان لابد من الاعتماد على أمزجة وذهنيات هذا الجيل الجديد، واستثمار التزاماته، وطاقته الكامنة في أصواته وأجساده.

على العكس تماما، مما فعل في مسرحية (أنا فاسبندر) التي قدمها عام 2015 على مسرح الكولين، والتي تتحدث من خلال نصوص وأفلام وشخصية الألماني فاسبندر، عن واقعنا الحالي، حيث اللاجئون السوريون والعراقيون والأفارقة الهاربون من جحيم الحرب وهم يضعون أقدامهم في وحل أوطان جديدة. نازحون يطلبون النجدة بعد ان نجوا بقدرة قادر، من أفواه اسماك البحر. ففي ظل هذا اللجوء الجماعي، اكتسبت الفاشية حصة كبيرة في السوق الانتخابية في جميع أنحاء أوربا. وكبر حجم الكراهية للآخر، وتضخمت الانعزالية، وباتت الأنانية اكثر وضوحا. يطرح عرض (أنا فاسبندر) للمؤلف والمخرج الألماني (فيلك ريختر) وبإخراج مشترك مع المخرج والممثل الفرنسي (ستانيسلاس نوردي)، من خلال عنوانه المضلل، أسئلة معاصرة بالمعنى الدقيق للكلمة، لاسيما أن الأخبار التي تحيط بأيامنا لا تنشر سوى الموت. وقد تمكن (فالك ريختر) في هذا العمل، من تكوين نموذج مواسٍ له حيوية متحررة، هرع على نقله، من خلال لغة نقدية، مضادة للتآكل، لا تقتصر على المشاعر الفورية فقط، حيث بات الطرح في (أنا فاسبندر)، مشكوكا به اكثر فأكثر، ولم يخرج عن الاطار التحليلي الذي يعتمد على تخيل صعود النازية باستمرار (أو ما يحل محلها)، كما لو أن عودة النازية أفق لابد منه.

وأثناء مختلف اللوحات والأوقات، نصطدم بكليشيهات الخطب ذات الجانب الواحد، والعولمة، والشعور بالذنب بسبب الوصول المقبل للوحش القذر، الذي يطارد بعض العقول غير القادرة عن التخلص من هاجس النازية. لقد كان هذا العرض نوعا من الصدمة، لأنه يتحدث عن هذا الذي نعيشه اليوم في أوربا، في فرنسا وألمانيا: صعود القوميين، وتفشي اليمين المتطرف، وهجمات باريس، والاحتجاجات حول قانون الزواج للجميع، والاغتصابات التي وقعت في مدينة كولون الألمانية في احتفالات رأس السنة، وأزمة اللاجئين … كل شيء فيه كان يتطرق له العرض بطريقة المواجهة، في جو قريب من الانهيار والانفجار وتحت شكل تظاهرة. وهذا النوع من المسرحة، في رأينا، ينسف الأحكام المسبقة واليقين، ويفرقع الإنشاءات السياسة والإعلامية، في محاولة منه لفك رموز العالم الذي يحيطنا، وتحليل مخاوفنا. انه المسرح الذي يتداخل فيه الشخصي والسياسي مثل شعار النضال الذي لابد منه.

في حين أن عمل (أنا أوربا)، يبحث عن مستقبل ليس كذلك، وفي ماض لم يعد معاشا. لذلك، وبسبب عيوب وأخطاء الماضي التي لا يمكن لها ان تمر اليوم بسهولة، يحاول (فالك ريختر) إضاءة أعيننا، ويشد أسماعنا حول هذه المادة الوثائقية التي قام باستنطاقها الممثلون في البداية والتي لم يحرروا انفسهم منها بالكامل. والسؤال الذي يمكن طرحه، هنا: كيف يمكن للمرء أن يحرر نفسه ويتغلب عليها من خلال سرد قصة عن حياته الشخصية؟ وربما كان يمكن العثور على جواب آخر: في قصة أكبر يكتبها فالك ريختر نفسه، للممثلين المتعاونين معه، كأداة للبحث عن الواقع، تتجاوز شهادتهم الخاصة وسيرهم الذاتية. ولكن يبدو ان هذا ليس بيت القصيد، لا بالنسبة له ولا لفريق عمله.

—————————————————————————————–
المصدر : موقع مهرجان القاهره للمسرح التجريبي – مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني