“مخاوف” مسرحية تزاوج بين الحميمي والوثائقي والقانوني

 

“مخاوف” مسرحية تمزج بين المسرح الوثائقي الواسع وبين الحميمي، من خلال حكاية واحد ممن سُجنوا ظلما في غوانتنامو ما بين 2002 و2009، ولا يعرف سوى بـ10005، وهو الرقم الذي ألصق به داخل سجنه، والمسرحية من تأليف هادي تِيّيت وإخراج سارة بيك.

“مخاوف” هي حكاية رجل، وحكاية أمّة بحالها عبر هذا الرجل الذي كانت أمُّه تنقل ملاحظاتها عن محاكمات ضحايا الماكرثية (نسبة إلى جوزيف ماكرثي) وكان رئيسا لإحدى اللجان الفرعية بمجلس الشيوخ الأميركي واتهم دون دليل عددا من موظفي الحكومة بكونهم عملاء للاتحاد السوفييتي، وكان يشاهد نقل محاكمات الجيش المتهم بالتخابر مع الشيوعيين.

حكاية شاب من طلبة الحقوق كان يجوب المسيسيبي وحيدا للدفاع عن العبيد السود ضد من يهددونهم بالموت ويسجنونهم بلا سبب، ولما بلغ الأربعين من عمره، صار يعتقد أن كثيرا من سجناء غوانتنامو أبرياء يُسامون التعذيب ظلما، وانتهى إلى رفع قضية ضد الرئيس بوش الابن أمام تسعة قضاة من المحكمة العليا، وكسبها.

تلتقي حكايته بحكاية لخضر بومدين، العربي الذي تم إيقافه في البوسنة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، واتهم بتخطيطه لعملية اغتيال لم تنفّذ، فسلمته السلطات البوسنية إلى رجال المخابرات الأميركية، ونقل إثرها دون تهمة محددة، ولا محاكمة، إلى غوانتنامو حيث قضى سبع سنوات دون أن يعرف أسباب إيقافه. ولما علم به المحامي قبل الدفاع عنه، انطلاقا من مبدأ قانوني كوني، لا تحترمه الدكتاتوريات لا محالة، وهو أن لكل إنسان الحق في التمتع بالدفاع، وأن من واجب كل منظومة تقوم على احترام القانون أن تضمن هذا الحق الأساس.

حول تقاطع مصائر الرجلين، السجين رقم 10005 ومحاميه ستيف أوليسكي، وعلى طريقة الصور الفسيفسائية، تنهض مسرحية “مخاوف” التي كتبها هادي تِيّيت وأخرجتها سارة بيك، على الربط بين أحداث تاريخية في علاقة بالولايات المتحدة، وفرنسا أيضا من خلال التذكير بالمظلمة الشهيرة التي تعرض لها الضابط اليهودي دريفوس، لتصوّر مرحلة ممتدة في التاريخ ذات دراماتورجيا متشظية، تزاوج بين سرديات متداخلة، ومقاطع ركحية حوارية، وخطابات مباشرة موجهة إلى الجمهور.

وتحوم المسرحية حول ثيمة الخوف الذي يسكن العالم، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، ويكون أحيانا سلاحا سياسيا في خدمة أمن الدولة أمام أعداء الخارج، والداخل أيضا زمن الحرب، وكذلك أمام الإرهاب استنادا إلى تحاليل توماس هوبز وماكيافيلي، فهي تدخل بيت المحامي، وتتدخل في دواليب السلطة، وترتد إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانهيار البرجين، ثم تنتقل إلى قضية دريفوس في فرنسا، لتعود إلى ضحايا الماكرثية.

المسرحية سردية ذات إيقاع سريع، تبين كيف يكون للخوف من القوة ما يدمر القوانين التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية

هذه الحكاية، التي تشبه الخرافة في تعرجاتها الزمنية، بين الماضي والحاضر، بين الحميمي والسياسي فيها نوع من الطموح إلى معالجة عواقب السياسة وأثرها على مصائر البشر، ما يولّد خوفا مقيما حتى في البلدان الديمقراطية، التي تراعي الفصل بين السلطات، ولكن تعدد المشاهد والارتدادات أفقدها خطا واضحا كان يمكن أن ترتكز عليه.

وحتى الديكور العصري المتعدد الأشكال، الذي يسمح بتحول الصالون الخاص إلى قاعة استنطاق، وبتغيير الممثلين أدوارهم تبعا لتغير المشاهد، جعل الأبطال يبدون وكأنهم يتقاسمون الخشبة نفسها، أكثر مما يشتركون في نفس القضية.

ورغم ذلك، تعتبر “مخاوف” محاولة جريئة من المؤلف هادي تِيّيت والمخرجة سارة بيك، فليس من السهل أن نعالج سياسة بلد ديمقراطي ومنظومته القضائية انطلاقا من مطبخ، ربما لأن المسرحية، بغض النظر عن الثيمة الكونية التي تطرحها، تبدأ بحكاية عائلية، حكاية ستيف أوليسكي، المحامي الفرنسي الأميركي اللامع، الذي يقرر الدفاع عمّن لا يمكن الدفاع عنه، أي لخضر بومدين، الاسم الحقيقي للسجين رقم 10005.

وتتوقف المسرحية طويلا عند شخصية المحامي وحبّه لزوجته التي لا تشاطره دينه، وهو يستعدّ للمرافعة في هذه القضية ضدّ الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش.

جاء الإخراج متوترا، مع ومضات بصرية موفقة تغطي أحيانا على بعض المواقف والخطابات الضعيفة نوعا ما، ولكن الإيجابي هو المزاوجة بين الحميمي والقانوني، وبما أن الحكاية تتكرر، فإن المخرجة تعمد إلى سبر نفسية أبطال المسرحية مع عمليات استرجاع لطفولة ستيف أوليسكي، فنكتشف أنه عرف من خلال أمه البرانويا الماكرثية ومطاردة الشيوعيين والمعتقلات اليابانية بعد “بيرل هاربر”، فالخوف هنا متعدد الأوجه، ولذلك جاء العنوان بصيغة الجمع.

واعتمد المؤلف والمخرجة على حكاية حقيقية، ووثائق كثيرة جمّعاها، وكذلك على لقاء مع لخضر بومدين ثم محاميه، إذ استطاعا الوصول إليهما ومقابلتهما والتحدث إليهما، واستخلصا من كل ذلك سردية ذات إيقاع سريع، ليبينا، كيف يكون للخوف من القوة ما يدمر القوانين التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية، ويقاضي أعداء وهميين، ويختار وجهة تسيء إلى إنسانية الإنسان، وهو ما يضع الديمقراطيات الغربية موضع الشبهات، حين تنزلق شيئا فشيئا نحو الاستبداد.

وخاتمة المسرحية تذكر كثيرا بالأسطر الأخيرة لـ”طاعون” ألبير كامو، حين كتب يقول على لسان أحد أبطاله “إن بكتيريا الطاعون لا تموت ولا تزول أبدا.. وقد يجيء يوم، تعْسًا للبشر وعبرةً، يوقظ فيه الطاعونُ الجرذانَ ويرسلهم إلى الموت في مدينة سعيدة”.

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني