محمد سيف نجيب حبيقة الحلقة الموؤودة في تاريخ المسرح العربي للدكتور محمد المديوني

صدر للاستاذ الباحث والناقد الدكتور محمد المديوني، كتاب “نجيب حبيقة الحلقة الموؤودة في تاريخ المسرح العربي”، عن الهيئة العربية للمسرح في الشارقة، ضمن سلسلة دراسات. ويتألف من 237 صفحة، يسلط فيه الضوء المديوني، على مدى أهمية الثغرات المنسية والعميقة التي تركها خلفه تاريخ المسرح في الوطن العربي، دون اشارة، وإن كانت موجودة هذه الأخيرة، فبشكل خجول، ولا تشفي الغليل العلمي. حلقات فارغة، ثاغرة، ناقصة، لم يبال بها أو تم تجاهلها، ربما عن قصد أو غير قصد، رغم اهميتها الكبيرة، ورسوخها القوي في تمفصلات تاريخنا المسرحي.
إن هذا الكتاب يجعلنا نشكك بالمسلمات التي اصبحت مع مرور الزمن مثل ثوابت مقدسة، يصعب لمسها أو الاقتراب منها، ولكن يوما بعد آخر، نكتشف ان هناك مغالطات كبيرة ارتكبت، واسماء عديدة حذفت او فرضت علينا وهي خالية من الوجود (مثل، قصة ريادة يعقوب صنوع للمسرح المصري الكاذبة، التي اكتشفت مؤخرا من قبل الدكتور سيد علي اسماعيل). وهذا الامر لا يشمل مسرحنا العربي فقط وإنما الغربي أيضا، الذي ظل موهوما ولفترة طويلة بالنظرية الشعرية لأرسطو، التي تم تفكيكها مؤخرا من قبل الاستاذة والباحثة المتخصة بالمسرح اللاتيني ” فلورانس دوبون “، في كتابها الموسوم (ارسطو أو مصاص دماء المسرح الغربي)، الذي تقول من خلاله بما معناه، إن أرسطو، قد اخترع مسرحا بلا خشبة، دون آلهة، دون موسيقى، وموجه للقراء فقط، ولم يبق من التراجيدية سوى النص الموجه في المقام الأول للقراء. في حين ان المأساة اليونانية كانت اولا وقبل كل شيء، أداءً طقسيا وجزء لا يتجزأ من سياق مسابقة موسيقية، وليس نوعا أدبيا.
ابتدأ مشروع المديوني هذا من الدرس الأكاديمي مع طلبته، ليصبح في النهاية كتابا يحمل حقائق تاريخية جديدة ومفاجئة، لا تقل أهمية عن غيرها من الحقائق المعروفة، ولكن للاسف قد تم تجاهلها. ولكن على الرغم من تقادم الزمن، ها هي تنبثق اليوم وتخرج إلى الضوء، في صورة كتاب يطعن بشكل مباشر بكل ما هو مسلم به من تاريخ مسرحي وافتراضي علمي في مسرحنا العربي. لا سيما ان كتابات محمد يوسف نجم ويعقوب لانداو، قد اطرت ونظمت عملية تفكيرنا بالمسرح العربي بالطريقة التي شاء لهما ان تكون، وجعلت الاكاديميين والممارسين للمسرح ، ينغمرون فيها، دون فحص ومساءلة ولا تشكيك لما جاء فيها من معلومات.
بدأت رحلة البحث والتقصي عند الدكتور محمد المديوني، انطلاقا من مقالة حول (فن التمثيل) صدرت في مجلة المشرق سنة 1899، أراد من خلالها أن يقف وطلبته على (المفاصل التي قامت على أساسها الممارسة العربية لهذا الفن وارتسمت من خلالها التنويعات التي عرفتها نتاجاته(صفحة 5)، وهذا ما قاده منهجيا، بدعوة طلبته بالعودة الى الوراء حيث المصادر، وإلى كتابي محمد يوسف نجم ويعقوب لانداو(المسرحية في الادب العربي الحديث ،studies in the Arab theatre et cinema)، اللذان أرخا للمسرح العربي ونشأته. وفي سياق ما اعتمده هذان الباحثان، اكتشفت، يقول المديوني، مقال نجيب حبيقة في قائمة المراجع المذيلة لكتاب محمد يوسف نجم، وفي البيبليوغرافيا التي اوردها يعقوب لاندوا في احد مقالاته، وبعد ذلك في كتابه (صفحة 9). إن تضارب واختلاف احالات الباحثين في اشارتهما لطبيعة نص نجيب حبيقة ( إن كان مقالا واحدا أو مجموعة مقالات) قد لفت انتباه المديوني وأثار لديه العديد من الأسئلة المحيرة، التي لا يمكن أن يجيب عليها سوى العثور على النص الأصلي. ولكن كيف السبيل إلى ذلك، والنص صادر في بيروت عام 1899؟. إذن، لا بد من ابتداء رحلة بحث وتنقيب في اروقة الارشيف وجرارات ذاكرته القديمة، وهذا الأمر كما نعلم، لم يكن سهلا او هينا كما هو الحال الآن بفضل المكتبات والمواقع الرقمية. وبعد العثور على مقال نجيب حبيقة (فن التمثيل)، والإطلاع عليه اكتشف المديوني سر الالتباس والغموض، في بحثي محمد يوسف نجم ويعقوب لاندوا، الكامن في عدم اطلاع هاذين الباحثين المعتمدين في كتابة تاريخ مسرحنا العربي، على المقال بحلقاته الستة، وهذا بحد ذاته، ما احدث للمديوني صدمتين معرفيتين، يمكن اختصارهما هنا: ( في تقصير الباحثين الجامعين معا واشتراكهما في التمويه المعرفي وإعطائهما معلومات تقريرية توهم بإطلاعهما عليه التي لا تترك للقارئ مجالا لاحتمالات خارجة عما أثبتاه). (صفحة 108). بالإضافة الى أن كلما ذكر اسم المؤلف (غالبا ما يكون في اطار كلام عام لا يعكس معرفة فعلية بما أنجز؛ وإن أشير إلى المقال فكثيرا ما يكون ذلك بصورة لا تدل على اطلاع فعلي على ما قام عليه؛ وإن عول على ما ورد فيه ضُمن شيءً من متنه في هذا المقال او ذاك فلا يذكر عنوان المقال ولا صاحبه)(صفحة 35). إن مظاهر الجهل والتجاهل لما ورد في مقال (فن الممثل) الذي تتوفر فيه كل سمات الريادة، استوقف المديوني وجعلته يطرح العديد من الاسئلة التي اثارت في شكلها ومضمونها، اكثر من اشكال حول مصداقية استنتاجاتهما، وزعت في نفسه اليقين (بأن حلقة اساسية من حلقات التاريخ للمسرح العربي قد طمس طمسا ليس غريبا عن الوأد)(9). بحيث صار يتعامل الدكتور المديوني مع هذا المقال عند حديثه عن مسارات المسرح العربي، باعتباره نصا من بين النصوص المؤسسة للمسرح العربي لا يقل (اهمية عن موقع نص الخطبة التي قام بها مارون النقاش عند عرض مسرحية البخيل سنة 1847، مؤكدا من خلال ذلك على ريادة مسرحية ثانية تلي ريادة النقاش) (10). وهذا بحد ذاته، خطب رائع وانتصار للأمانة العلمية التي كادت ان تطمر وتغيب لو لا رحلة البحث والتقصي عن الحقائق التي كان مسكوتا عنها. لا سيما أن الناظر(في هذا النص يقف على استيعاب لأهم مقومات الدراماتورجيا بمعناها الفرنسي وعلى معرفة بالأسس التي قامت عليها إنشائية التأليف المسرحي معرفةً لا يجد لها ما يضاهيها في عصره وفي عقود كثيرة لحقت به) (صفحة 11 ).

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *