محام بارع يحاكم المشاهدين في مسرحية ‘السقطة/عمار المأمون

المصدر/العرب/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

  • يشهد مسرح “داريوس ميلود” في باريس عرض “السقطة”، المقتبس عن الرواية الشهيرة التي تحمل العنوان ذاته للفرنسي ألبير كامو، لنرى أنفسنا خلال ساعة وعشرين دقيقة في حانة “مكسيكو سيتي” في المنطقة الحمراء بأمستردام، التي يصفها جان بابتيست كلامانس بأنها الدائرة الأخيرة من جحيم دانتي، الجحيم البرجوازي، لنجلس صامتين أمام اعترافاته وهلوساته، صعوده الاجتماعي ثم سقوطه نحو الهاوية.

تنطلق مسرحية “السقطة” للمخرج فينسينت أوفيه، والتي تعرض حاليا بمسرح “داريوس ميلود” الباريسي، من مشهد جان بابتيست كلامانس (قام بالدور جان ليسبرت) وهو يشرب أحد السوائل، محيّيا محدثه الخفيّ ومعرّفا بنفسه، ليبدأ بعدها مونولوغا طويلا يحاكم فيه نفسه ومن حوله، منتقدا مدينته ومهنته وخيالاته وموجات الكراهيّة التي تصيبه.

العرض يختزل الرواية الأصلية التي اقتبست منها المسرحية، وهي “السقطة” لألبير كامو، والتي أعاد العمل على نصها لتوائم العرض المسرحي كل من فرانسوا شوميت وكاثرين كامو، لكنه يحافظ على الإيقاع المتنوع لمونولوغ كلامانس.

أما فضاء العرض فشبه خال، حديث كلامانس هو الذي يتحكم في الإيقاع إلى جانب الدخول والخروج المتكرّر للممثل بما يشبه الانتقال بين مشهد وآخر، من فضاء “مكسيكو سيتي” إلى ضفة النهر، حيث يرفض عبور الجسر، ثم شقته حيث نراه منهارا، متمنيا لو كانت هناك فرصة أخرى، لعله حينها ينقذ الفتاة التي رمت بنفسها من الجسر، وهي التي ما زال صوتها حاضرا في رأسه، ليكون بذلك خلاصه وخلاصها.

نجلس في العرض مشدودين دوما إلى كلام كلامانس، نتابع بلاغته وحنكة اختياره للكلمات، هو محام بارع، يأسرنا بحديثه وحذلقته اللغويّة، يحاكم نفسه أولا، ثم يورطنا في هذه المحاكمة، لتتبدل الأدوار ويخضع “الآخر” لانتقاده، نحن وكلامانس في المرتبة ذاتها، لكنه الأشجع، تعجرفه يتيح له أن يكشف لنا كل أعذاره وحيله، هو أناني، عدمي، رافض للقيم.

وصوت كلامانس الذي نسمعه هو صوت الهزيمة، الدويّ الناتج عن السقوط الأخلاقي، أما الصمت فهو تقبل حقيقة أننا قد نكون أنذالا مثله، ربما البرد هو الذي منعه من إنقاذ الفتاة، لكن ما الذي يمنعنا من إنقاذ من حولنا، بل من إنقاذ أنفسنا.

كلامانس البارع في استخدام الحكايات والمراوغات وإعادة تصوير الحقيقة، يستخدم مهارته هذه للاعتراف، لا للخلاص، بل للفضح بوصفه انتصارا، هو القاضي والمذنب في الوقت ذاته، هو نتاج برجوازي لمجتمع قائم على المظاهر والحضور العلنيّ، فالصوت/العلن هو حياة كلامانس بكلّ عيوبه، ومن لا صوت لهم موتى، هم الفتاة التي انتحرت ولم يبق منها سوى صرختها وصوت جسدها المرتطم بالماء.

كلامانس يستخدم مهارته للاعتراف، لا للخلاص، بل للفضح بوصفه انتصارا، هو القاضي والمذنب في الوقت ذاته

أما كلامانس فهو الحيّ الوحيد بين الموجودين أمامه، هو من يشير إلى المذنب دون تردد، حتى لو كان هو نفسه، ساخرا من المقدس.

كلامانس لا يدّعي أنه مخلص ولا يريد التطهير، هو المذنب الذي رمى الحجر وصرخ قائلا إنّه “خطّاء”، انتقادا لمملكة السماء ولصيغة الاعتراف التي عادة ما يكون سريا، عبر العلنيّة، الفضائحيّة في بعض الأحيان أمام غرباء في حانة للسكارى، هي بارودي لتاريخ من المقدس، قائم على الصمت والتواضع والخد الذي ينتظر الصفعة الثانية.

بناء العرض بأكمله قائم على النص، على عبارات كامو اللاذعة وإحالاته الدينية والسياسية، وخيارات المخرج أوفيه لا تتعدى الإضاءة والتحكم فيها، بل يمكن طرح التساؤلات حول الممثل نفسه، إذ لا يبدو بالصورة التي يرسمها كامو في الرواية، بل نلاحظ بعض التفاصيل، التي لا يتضح ما إذا كانت خيارات إخراجيّة، أم هي نتيجة التعامل مع ما هو متوافر من معدّات في المسرح؟

ثياب جان ليسبرت الذي يجسد شخصية كلامانس ليست على مقاسه، الحركات البسيطة التي يؤديها كالسلام والمغادرة كأنه يحدث شخصا ما، نراها تختفي أحيانا، ليقف أمامنا ملقيا مونولوغه، هذا التفاوت في إيقاع الحركة وطبيعتها يجعلنا نتساءل إن كانت هذه حركات مجانيّة يؤديها الممثل، أم مجرد محاولات للحركة كي لا يبقى الممثل جامدا أمامنا؟ معتمدا على براعة النص المكتوب لشدّ المشاهدين، إذ بإمكانه أن يبقى واقفا دون حركة محافظا على تقنية إلقائه دون أن يتغيّر شيء من طبيعة العرض وتأثيره.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *