لا مسرح عظيم من دون الانفتاح على ثقافات العالم

المسرحي الإيطالي جانكارلو مورديني: العمل الفني الجميل كمذاق قطعة الحلوى اللذيذة.

لورنسا – للعام الرابع والثلاثين، على التوالي وبتصاعد نوعي متواصل، يعود مسرح ريفريدي في مدينة فلورنسا إلى جمهوره ببرنامج ضخم يضّم ما يربو على خمسين عملا مُقسّما على جدول زمني واسع يبدأ في العاشر من أكتوبر الحالي لينتهي في التاسع عشر من أبريل في العام المقبل، 189 يوما من العروض المسرحية التي تتضّن أعمالا كلاسيكية وتجريبية وعروضا للموسيقى والرقص.

ومن بين العروض أيضا نصوص مقتبسة من الروايات تمّت مسرَحَتُها، بالضبط كمسرحية “أنا اسمي سامية” المقتبس من رواية “لا تقل لي بأنّك خائف”، التي يروي فيها الكاتب الإيطالي جوزيبي كاتوتسيلا، قصة سامية، الفتاة الصومالية الشابة التي تعشق رياضة العدو، وتتدرّب برفقة صديق عمرها علي لبلوغ المرحلة التي تُتيح لها فرصة المشاركة في الأولمبياد المقبلة، ولكي تُحقق سامية هذا الحلم، تحوّله إلى مشروع لحياتها يدفعها إلى قطع مسافة ثمانية آلاف كيلومتر، وتعبر البحر المتوسّط من أجل بلوغ الساحل الشمالي للمتوسّط.

حضور عربي

جانكارلو مورديني- تصوير فيليبّو ميلاني
جانكارلو مورديني- تصوير فيليبّو ميلاني

“ليست اللغة العربية أو الأحداث التي تخص العرب وحكاياهم وقصصهم بغريبة عن هذه الخشبة إطلاقا، فقد شهدت برامج مسرحنا خلال السنوات الأخيرة عروضا كانت تتكلّم باللغة العربية أو روت حكايا عربية ومشرقيّة كُتبت في الأصل مسرحا، أو اقتُبِسَتْ من أعمال روائية عربية ومشرقية، ومن بينها مسرحية “أحلام بلا حدود” المقتبسة من نصّ “مأساة جيفارا” للشاعر الفلسطيني مُعين بسيسو، والتي قدّمتها في نوفمبر 2004 فرقة “مسرح العناد” بإخراج رائدة غزالة وأداء ممثلين فلسطينيّن.

هكذا يبدأ جانكارلو مورديني المدير الفني لمسرح ريفريدي في فلورنسا حديثه معنا عن البرنامج الضخم الذي قُدّم في المدينة وحضر حفل التقديم عدد كبير من الفنانين المشاركين في العروض، إضافة إلى ممثلي الصحف والقنوات التلفزيونية ومفوّض الثقافة مجلس محافظة فلورنسا تومّازو ساكّي، الذي أكّد على عزمه في “مواصلة جعل فلورنسا عاصمة للثقافة وملتقى للفنون والثقافات العالمية”.

ومسرح ريفريدي هو الثاني، من حيث النشاط المتواصل في مدينة فلورنسا، بعد مسرح المدينة التاريخي، مسرح “لا پيرغولا” العريق الذي يُعدّ أول صرح مسرحي كلاسيكي أوروبي شُيّد في في عام 1656.

إلاّ أن ما يُميّز مسرح ريفريدي عن مسرح لا پيرغولا. هو تحولّه إلى ما يُشبه “المسرح البديل”، الذي صار برنامجه في السنوات الـ34 الأخيرة، بمثابة التكميل الضروري لتقديم مشهد مسرحي متنوّع يضمّ، إلى جانب الكلاسيكي المُقدّم من قبل لا پيرغولا، كل ما يولد على الصعيد الأوروبي والعالمي من تجارب وتحديثات.

وقد اعتاد هذا المسرح أن يمنح برنامجه في كلّ عام عنوانا خاصا، والعنوان الذي اختاره المدير الفني لموسم 2019/2020 هو “المسرح الذي يُوقظك”. وإذا فإنّ ما يسعى إليه هذا البرنامج ليس تقديم العروض التي سترافق عيني المشاهد لتخلُد بين ذراعي الوسن، بل لتوقظ من سيشاهدها، لكن دون أن تخلق تلك العروض مصابين بالأرق أو بالسائرين نياما، ويقول جانكارلو مورديني: إن الهدف من هذا العنوان، الذي يتزامن مع الموسم الرابع والثلاثين لمسرحنا هو إبقاء الأذهان يقظة.

لكن، كيف يولد برنامج هذا المسرح، وكيف يتمّ اختيار الأعمال والعروض المُستضافة إلى جانب العروض المُنتجة من قبل فرقة “پوپي إِي فريزيدي” الدائمة التي يُديرها مورديني بصحبة رفيقه المخرج والكاتب آنجيلو سافيلّي؟ يُجيب جانكارلو مورديني على هذا السؤال بقوله: المغزى الكامن وراء هذا العنوان هو، كما أسلفت، إبقاء الأذهان يقظة إزاء ما يحدث حوالينا كبشرٍ وكمواطنين نعيش في عالم متحرّك ومتحوّل بتسارعٍ رهيب، وهذا يعني أن ينشغل الناس وأن يلتزموا بما هو ضروري لحياتنا كبشر، وأن يُعيدوا النظر ويتأمّلوا.

جانكارلو مورديني- تصوير فيليبّو ميلاني
لقطة من مسرحية “لقيطة إسطمبول”

نحن نسعى، يقول مورديني، إلى تحفيز أذهان الناس صوب التأمّل في الأشياء والأحداث، وبالذات في المُعاش اليومي الذي يُحيط بنا. كل هذا دون أن يعني بأنّ العروض التي نُقدّمها هنا هي بمثابة محاضرات في الخدمة المجتمعية.

وبالفعل فإنّ عروض مسرح ريفريدي في فلورنسا هي عروض تنطلق، بالدرجة الأساس ممّا كان بيرتولت بريخت يضعه في مقدّم المهام الأساسيّة للمسرح، أي “تحقيق المُتعة للمشاهد”.

أنا أُتابع برنامج هذا المسرح منذ ما يزيد على خمسة عشر موسما، وفي كلّ موسم تتزايد لديّ القناعة بأنّ الثنائي جانكارلو مورديني، وآنجيلو سافيلّي، يُشبه الباحثين عن الذهب، أو بالغطّاسين في لُجّة أعماق البحر بحثا عن اللؤلوء، فالمدير الفنّي مورديني، والمخرج والكاتب الثابت للفرقة سافيلّي، يقضيان السنة بطولها يبحثان في مهرجانات المسرح التي تُقام في إيطاليا وفي أوروبا عن “لُقَى” ثمينة يحملانها إلى جمهورهم الذي صار عبر السنين، كما يقول لنا مورديني في الحوار، يقظا وشفيف المذاق يُطالب دائما بالأفضل، وهذا، كما يُضيف مورديني، ما يزيدنا افتخارا وزهوا، بالذات عندما نتشارك مع جمهورنا مشاهدة العروض في مسرحنا، ونكتشف بأنّ ردود فعله ودرجات تقبّله لأعمال تتشابه مع ما شعرنا به، نحن أنفسنا، عندما شاهدنا العرض للمرّة الأولى وقررنا اختياره ضمن برنامج الموسم.

وكيف تتم عملية اختيار العروض لبرنامج الموسم؟

يعتبر جانكارلو مورديني هذا السؤال “مُعقّدا ومركّبا في آن”، ويُضيف بأنّ عملية الاختيار لا تخضع إلى قانون ثابت ووحيد، فعلى الرغم من الاختلافات الكامنة ما بين ما نُنتج نحن بأنفسنا خلال الموسم من عروض وما نستضيف، فإنّ الأعمال تمرّ، في كلا الحالتين عبر عمل طويل ومعقّد من البحث، وتمر الأعمال التي نُنتجها في مرحلة مخاض طويلة خلال الإعداد والتركيب والتدريب، مع تركيز خاص، خلال السنوات الأخيرة، على الدراماتورغيّا العالمية، عبر مؤلفين يتناولون الأمور ويتحدثون عنها ويُدلون فيها بدلوهم بشكل مختلف ومُغاير لما هو سائد؛ والخيط الأساسي الرابط ما بين هذه الاختيارات هو “المعاصرة” بكلّ ما تختزنه هذه الكلمة من معنى.

قطعة حلوى مع الحبيب

إيمانويل شميدت في مسرحية "السيّد إبراهيم وأزاهير القرآن"
إيمانويل شميدت في مسرحية “السيّد إبراهيم وأزاهير القرآن”

أمّا بصدد الأعمال والعروض التي يستضيفها مسرح ريفريدي كلّ عام فيقول جانكارلو مورديني بأنّ فريق الاختيار يتجّه في الأساس صوب الأعمال التي تخلب اللبّ منذ الوهلة الأولى للعرض، فإذا تمكّن عمل ما من جذب انتباهنا منذ المشاهد الأولى، فإنّ ذلك يعني بأنّه سيفعل الشيء ذاته مع جمهورنا في صالة ريفريدي، وهنا أتحدّث عن الأعمال التي تُدهشك، وتؤكد لك بأنّها تختزن على ما هو مُختلف ومُغاير، إضافة إلى ما تمتلكه من عناصر الجدّة التي تُشعرك بالحاجة إلى أن تتشارك فيها مع جمهورك، بالضبط كما يحلو لك أن تتشارك مع الحبيب أو الحبيبة قطعة الحلوى اللذيذة التي قُدّمت إليك.

وبالتأكيد، كما يقول مورديني، بأنّ ليس جميع الاختيارات حقّقت ما كنّا نرمي إليه من نجاحات، لكن عموما. وبشكل موضوعي، لم نُخطئ في الاختيارات كثيرا.

اللغة العربية تتردد

وحين أسأل جانكارلو مورديني، ما إذا كنّا سنستمع إلى اللغة العربية على خشبة مسرح ريفريدي الفلورنسي، عبر أحد العروض القادمة من بلد عربي، مشرقي أو من شمال أفريقيا، يُعيد المدير الفنّي لهذا المسرح إلى الأذهان المرّات التي استمع فيها مشاهدوهم إلى اللغة العربية، أو شاهد أحداثا وعروضا ذات صلة بالعالم العربي أو المشرق بكل عام، كالعرض الفلسطيني “أحلام بلا حدود”، أو عرض “السيّد إبراهيم وأزاهير القرآن” للكاتب والمخرج الفرنسي إيمانويل شميدت و”لقيطة إسطنبول” المقتبس من رواية بذات العنوان للكاتبة لتركية إليف شفق، والتي قُدّمت على خشبة مسرح ريفريدي لأكثر من 14 موسما، بمعدل أسبوعين أو ثلاثا في كلّ موسم.

ويقول: ليس لدينا ما هو مُبرمج في الوقت الراهن، وهناك ثمة أفكار نُناقشها، وبشكل مبدئي لا أستبعد أن نستضيف في اللاحق من الشهور عرضا ناطقا باللغة العربية، فشغفنا بما هو كوني ورغبتنا في الانفتاح على الثقافات الأخرى يُشكلان المكوّن الأساسي للحمض النووي لمسرحنا وفرقتنا، ونعتقد بأنّ هناك ضرورة بأن يستمتع جمهورنا الاعتيادي وجمهورنا الشاب بالذات بهذه العروض وأن يتعلّم شبابنا، الذين نُقيم لهم عروضا خاصّة بالتعاون مع إدارات المدارس، الكثير عن الثقافات الأخرى، وعن ثقافات وحياة الكثير من أقرانهم القادمين من مجتمعات وثقافات أخرى؛ نحن نعتقد بأنّ بإمكان المسرح أن يتحوّل إلى مدرسة للحياة، إضافة إلى كونه مكانا يُدخل البهجة والفرح إلى النفوس.

الحوار مع جانكارلو مورديني جرى في ذات اليوم الذي شيّع فيه المسرحيون العراقيون في بغداد عميدهم الراحل سامي عبدالحميد، أخبرته عن هذا الفنان الذي سبق وأن زار فلورنسا في منتصف التسعينات، بعد أن قدّم أحد عروضه في مدينة كونفيرسانو الجنوبيّة، وسألت جانكارلو مورديني عن إحساسه إزاء غياب قامة مثل سامي عبدالحميد وما يشعر به الآن، بعد أن عرّفته بهذا الفنّان الكبير، فقال “حين يموت شخص مثل سامي عبدالحميد، فإنّنا نكون، جميعُنا، أيتاما بمقدار ما، إذا لا فرق أن يكون ذلك الراحل من بلدي أو من أيّ مكان آخر، فحين يمضي شخص مثله، تنطفئ في مكان ما نجمة كانت تُفعّلُ الضياء، ومع هذا لا أعتقد بأنّ هؤلاء الكبار يموتون، فما تركوه ضخم وسيبقى طالما كان المسرح حيّا.

كلام جانكارلو مورديني يُذكّرني بما قاله صانع مدرسة الإخراج المسرحي الحديث جورجو سترهلر حين تُوفّي الكاتب الإيطالي الكبير إدواردو دي فيليبّو، فقد كتب سترهلر افتتاحية في جريدة “كورّييري ديلا سيرا” الإيطالية العريقة في اليوم التالي “مات إدواردو، فالمسرح العالمي فقير…”.

https://alarab.co.uk/

عرفان رشيد

كاتب عراقي

مشهد من مسرحية "أنا اسمي سامية"
مشهد من مسرحية “أنا اسمي سامية”

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش