كينيث برانا.. عشق المسرح ووقع في غرام السينما/أمير العمري

فيلم “ميت مرتين” من النوع البوليسي المثير قام فيه برانا بدور مفتش بوليس في لوس أنجلس تستنجد به امرأة تعاني من ضعف الذاكرة، تعاني من الكوابيس الليلية وترى جريمة وقعت في مكان ما منذ أربعين سنة، أي قبل أن تولد هي. ويستعين المفتش برجل من خبراء التحليل النفسي، يقوم باستدعاء الماضي وإحيائه لدى المرأة. وينقسم الفيلم منذ تلك اللحظة إلى قسمين: الأول يصور مجرى التحقيق العادي وجلسات التحليل النفسي، والثاني نرى فيه من خلال الأبيض والأسود، الجريمة التي وقعت في الماضي. وتقوم بدور المرأة إيما ثومبسون، زوجة برانا السابقة وشريكته في الكثير من أعمال المسرح والسينما قبل أن ينفصلا بالطلاق عام 1995. ويقوم نفس الممثلون بأداء الأدوار في الماضي والحاضر، وينتقل الفيلم من الماضي إلى الحاضر ثـم إلى لحـظات من المستقبل أيضا.

هناك من ناحية رومان شتراوس الموسيقار الألماني الذي قتل زوجته بالمقص ودفع حياته بالإعدام على الكرسي الكهربائي عقابا على جريمته البشعة، وهناك من ناحية أخرى مايك تشيرش المخبر الخاص الذي يتردد على كل الأماكن، ثم الصحفي آندي غارسيا الذي يحقق في الجريمة ويحاول الحصول على سبق صحافي لجريدته.

تأثير المواطن كين

ربما كانت هناك أجواء في الفيلم شبيهة بأفلام مثل “ربيكا” لهيتشكوك أو “منزل دكتور إدواردز”، لكن الحقيقة أن المخرج الذي ترك تأثيرا حقيقيا على كينيث برانا هو أورسون ويلز وفيلمه الشهير “المواطن كين”. لقد تأثر على نحو خاص بالبحث متعدد الأطراف في حادث واحد، البحث الذي يتناول الماضي في علاقته بالحاضر، وإعادة بناء الشخصية لمحاولة فهم تصرفاتها.

وعلى الرغم من كون الفيلم شديد التعقيد في بنائه بالنسبة إلى ما هو سائد من أفلام في الوقت الحالي، فقد حقق نجاحا كبيرا في عروضه بالولايات المتحدة. والطريف أنه عندما عرض الفيلم لأول مرة عرضا خاصا، انتفض أحد المنتجين من مقعده غاضبا في منتصف العرض وغادر القاعة متسائلا في استنكار: ما هذا الهراء؟ لكنه عاد فاعتذر بعد ما حققه الفيلم من أرباح!

كينيث برانا من مواليد عام 1960، ولد في مدينة بلفاست عاصمة إقليم أيرلندا الشمالية. كان والده صانع خزانات، وكان يعترض إقبال ابنه بلهفة على القراءة. وفى عام 1969، مع تدهور الأحوال السياسية وتصاعد العنف بين البروتستانت والكاثوليك في المدينة، غادرت الأسرة بلفاست إلى إنكلترا. وكان هذا من حسن حظ كينيث، حيث استقرت الأسرة في بلدة “ريدنغ”، وهي نفس البلدة الصغيرة التي سجن فيها أوسكار وايلد منذ زمن طويل والتي وصفها بقوله “الأفضل أن يراها المرء من القطار”.

عن الصراع الديني والطائفي في أيرلندا الشمالية يقول كينيث برانا “إنني أنتمي لأسرة بروتستانتية، ولكن كل علاقتي بالصراع في بلفاست، كانت تتمثل في قيامي بسرقة مسحوق الغسيل من الدكاكين المحترقة بفعل أعمال العنف. وعندما كنت أعود إلى البيت وكانت أمي تشاهد ما في يدي، كانت تجبرني على إعادته إلى الدكان. وبهذا انتهى نشاطي السياسي”!

في المسرح

كان برانا تلميذا مشاغبا ولكن لامع الذكاء. وسرعان ما اتجه إلى المسرح الذي كان بمثابة “الهروب الكبير” لديه كما وصفه فيما بعد. لكن لكي يصبح “برانا” ممثلا مسرحيا كان عليه أن يبذل جهدا كبيرا في التخلص من لكنته الأيرلندية الثقيلة. وسرعان ما تم قبوله في فرقة شكسبير الملكية المسرحية، ثم تمرد عليها وأسس فرقة مسرحية خاصة أطلق عليها “فرقة النهضة”.

ونمت معه رغبته في القيام بدور هنري الخامس. ولكن عندما عرض رغبته تلك على أحد المنتجين المسرحيين، قام الرجل بطرده على الفور. ويروي هو تفاصيل غريبة وممتعة في مذكّراته التي نشرها وهو لم يتجاوز بعد الثامنة والعشرين من عمره، وأطلق عليها ” البداية”.

عن سيناريو “ميت مرتين” يقول برانا “كان السيناريو مشجعا جدا فقد وجدت فيه كل الأجواء التي أحبها، الغموض والإثارة. والأهم أنه يروي قصة جيدة، وذلك هو جوهر براعة شكسبير”.

في الفيلم يقوم برانا بنفسه بأداء دور الموسيقار الألماني الذي اتهم بقتل زوجته عام 1947، والذي أعدم بناء على رغبته لإثبات حبه الشديد لزوجـته. أما مـفتش البوليس الذي يجد نـفسه في التـسعينات مـدفوعا للـبحث في الجريمة مرة أخرى، فإنه لا يسـتطيع أن يـقاوم شـعوره بالتـعاطف مع الرجل إلى أن يكتـشف الحقـيقة العـارية.. براءة الرجل من الجريمة!

تغيير الجلد مرتين

الغريب أن برانا كان عليه مرة أخرى لكي يقوم بالدور أن يغير من لهجته الإنكليزية الشكسبيرية هذه المرة، إلى اللهجة الأميركية التي تناسب شخصية مخبر أميركي مع ملاحظة أنه يقوم بدور القاتل الألماني والمخبر في نفس الوقت. ولهذا كان يتردد يوميا في العديد من المرات على دور السينما لمشاهدة الأفلام الأميركية الشعبية، ويعود إلى التدرب على النطق بالاستعانة بجهاز تسجيل.

ونجح برانا في اجتذاب ممثلين من الطراز الأول للعمل معه في الفيلم مثل آندي غارسيا وهانا شيجولا وروبين ويليامز. وقد أعرب عن سعادته بالعمل في هوليوود، لكنه قال لمن يشبّهونه بلورانس أوليفييه إنه ربما يشبه أوليفييه في طموحاته لتحقيق الحضور العالمي، غير أنه يختلف عن سلفه في كونه مقاتلا غير هيّن. ويقول إنه في اليوم الأول للتصوير أراد أن يثبت لصناع السينما في هوليوود أنه ليس على استعداد للخضوع لهم بأيّ ثمن، فتعمد أن يأتي متأخرا نصف ساعة عن موعد بدء التصوير.

مبارزة ذهنية

في عام 2007 أقدم كينيث برانا على مغامرة محفوفة بالمخاطر عندما قام بإخراج فيلم “سلوث” الذي سبق أن أخرجه جوزيف مانكفيتش عام 1972 وقام ببطولته ممثلان عملاقان (لا يوجد غيرهما في الفيلم) هما لورانس أوليفييه ومايكل كين. كان أوليفييه وقتها في الخامسة والستين، أما كين فلم يكن قد تجاوز الأربعين عاما. والفيلم الذي يقوم على مسرحية أنتوني شافر، عبارة عن مبارزة عقلية بين رجلين، الأول كاتب روايات بوليسية مشهور وثري، والثاني عشيق زوجة الكاتب وهو مصفف للشعر من طبقة أدنى. يستدرج الكاتب عشيق زوجته إلى قصره حيث يفرض عليه الاشتراك معه في جريمة هي أقرب إلى اللعبة، تقتضي أن يقوم باقتحام منزله وسرقة مجوهرات زوجته حتى يضمن لها وضعا اجتماعيا جيدا بعد أن يتزوّجها، ويضمن الكاتب الحصول على ثمن المجوهرات من شركة التأمين دون أدنى خسارة. ولكن اللعبة تقود إلى مزيد من التعقيدات ثم تفضي إلى مأساة.

كان “سلوث” (وهو اسم بطل روايات الكاتب البوليسية الذي يتمتع بذكاء يكفل له أن يتغلب على مفتشي الشرطة في عالم الخيال) فيلما يعتمد أساسا على التمثيل، وعلى جاذبية الممثلين اللذين قاما ببطولته، وكان يحفل -رغم محدودية المكان الذي تدور فيه الأحداث- بالكثير من الحيوية والحركة والإثارة أيضا. ولم يتصور أحد أن هناك الجديد الذي يمكن تقديمه في حالة إعادة إخراج النص نفسه للسينما، إلا أن برانا عاد إلى النص القديم، بعد أن تناوله الكاتب المسرحي المرموق الراحل هارولد بنتر، ليغير فيه كثيرا ويضفي عليه بصمته المعروفة في أعماله للمسرح والسينما، ويجعل المكان أي منزل الكاتب، يتمتع بكل مميزات المنازل الحديثة، بديكورات غريبة، ونظام للمراقبة عبر الشاشات والريموت كونترول الذي يفتح الأبواب ويزيح الستائر ويكشف عمّا يحدث في الخارج، وبعد تغييرات كثيرة في الحبكة نفسها بحيث يصبح الهاجس الجنسي والنزاع الطبقي هما الغالبان على تلك المبارزة الذهنية بين الرجلين. وقد أسند دور الكاتب إلى مايكل كين نفسه، أما دور عشيق الزوجة الذي سبق أن لعبه مايكل كين فقد قام به جود لو الذي أنتج الفيلم أيضا. والنتيجة أننا أمام فيلم مختلف تماما عن الفيلم القديم، رغم أن الأساس الدرامي الأصلي واحد. وقد نجح برانا وهو الممثل الذي يحسب حساب كل زاوية وتعبير وايماءة، في إضفاء الحيوية على الفيلم، واعتبر “سلوث” عملا مثاليا لبرانا يجمع بين ولعه بالمسرح، وحبه للسينما.

المصدر/ العرب

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *