“قلب بسيط” لفلوبير، البساطة في أجلى مظاهرها / أبو بكر العيادي

 

 

 

قصة “قلب بسيط” وردت على لسان راوٍ عليم يرسم صورة واقع منسي في ذلك العصر، ويحلل نفسية بطلته، وقد حولتها إيزابيل أندرياني إلى مروية بضمير المتكلم.

حتى منتصف شهر يوليو القادم، يحتضن مسرح الجيب بحي مونبرناس بباريس مسرحية “قلب بسيط” عن قصة لغوستاف فلوبير، بطلتها امرأة ريفية متواضعة ولكنها تنبض بالحياة والقيم الإنسانية العميقة.

“قلب بسيط” عنوان قصة نشرها فلوبير عام 1877 في كتاب بعنوان “ثلاث قصص”، وتروي سيرة امرأة من بسطاء الأرياف الفرنسية، وقد عُدّت تلك القصة قطعًا مع الأعمال الأدبية السابقة التي كانت تركز على شخصية المرأة البورجوازية ولا تذكر الريفيات البسيطات إلا عرضا، كخادمة تأتمر بأوامر أسيادها، أو كضحية تحرّش جنسي من النبلاء وأبنائهم، ولا تمنح من الحضور إلا ما يساعد على تنمية الحبكة. أما فلوبير، فقد توقف عند إحدى تلك النساء العاملات في بيوت الأكابر، وتجاوز مظهرها الخارجي وأعمالها اليومية ليسبر أغوار شخصية تطفح طيبة وإنسانية، رغم قسوة الحياة التي لم تنصفها.

أحبت البطلة فيليسيتي (وتعني الغبطة والسعادة) شابا كانت تحسبه الزوج المرتقب الذي سيخرجها من وضعها البائس، ولكنه تخلّى عنها واختار الزواج من عجوز ثرية كي يهرب من الخدمة العسكرية، فلم تجد بدّا من الاعتماد على نفسها، وكسب رزقها بساعديها منذ سن الثامنة عشرة في بيت السيدة أوبان، الأرملة البورجوازية المتسلطة. هناك، كانت فيليسيتي تجد الوقت لتحبو وَلدَي سيدتها بول وفرجيني وابن أخيها فيكتور عطفا ومحبة برغم أعمال البيت الشاقة. ولكنها كلما تعلقت بواحد منهم هجرها هو أيضا. فبول غادر البيت ليواصل دراسته في مدينة كان النورماندية. وفرجيني غادرت بعده البيت هي أيضا للدراسة في بلدة هونلفلور قبل أن يودي التهاب رئوي بحياتها. وفيكتور سافر إلى كوبا وقضى نحبه فيها عقب إصابته بالحمى الصفراء. لم يبق لها سوى “لولو” الببغاء الذي أهدي إليها كي تحول نحوه محبة لم تفارقها حتى ببلوغها الخمسين.

ورغم فقدانها السمع، وترديها إلى ما يشبه العزلة، ظلت تسمع صوت ببغائها، وتفرح به، وتخاطبه كلما سنحت فرصة، إلى أن عثرت عليه ذات فجر شتوي بارد جثة هامدة. استبد بها ألم أعجزها عن فراقه، فعملت بنصيحة سيدتها وحشَته بالقش لتواصل التحدث إليه وكأنه لم يفارق الحياة. ولما ماتت السيدة أوبان، وجدت نفسها وحيدة في بيت فسيح ما انفك يتداعى، فلم تعد تحلم، بعد أن أصيبت هي أيضا بالتهاب رئوي، سوى أن تزين به المرفع القائم في فناء البيت، خلال حفل “كوربوس كريستي”. وبينما كان الموكب الديني يطوف بالمدينة، كانت فيليسيتي تُحتضر، فيتراءى لها ببغاؤها “لولو” في هيئة ملاك قبل أن تلفظ أنفاسها.

نص يمكن اعتباره دفاعا عن وضعية المرأة الفقيرة
نص يمكن اعتباره دفاعا عن وضعية المرأة الفقيرة

القصة وردت على لسان راوٍ عليم يرسم صورة واقع منسي في ذلك العصر، ويحلل نفسية بطلته، وقد حولتها إيزابيل أندرياني إلى مروية بضمير المتكلم، تنهض بها هي نفسها لتتقمص دور فيليسيتي، في إخراج لكزافيي لومير حافظ على مواطن الوصل والفصل في القصة، ونسق الكلام في رتابته وتوتره، ولحظات السكوت والاستراحة، لكي يحوّل هذا النص السردي، ذا الوصف الكثيف، إلى منطوق تعبر قائلته عن أطوار متقلبة عاشتها في ذلك البيت النورماندي.

على الركح ثلاث مصاطب جعلت كل واحدة منها للدلالة على الغرفة أو المعبد أو ميدان اللعب، وبعض ما تحتاج إليه خادمة البيوت، وببغاء محشو بالقش. تتنقل البطلة بينها على وقع قبقابها الثقيل، في حركات سريعة تعبيرًا عن كثرة ما تُكلَّف به من أعمال، وتغيير لنبرات صوتها تقليدًا لمدام أوبان والببغاء لولو، فتملأ بحضورها الفضاء في تنوعه، وتفلح في التعبير عن أحاسيس تلك المرأة البسيطة في مظهرها، المتواضعة في تكوينها، لتنقل صورة صادقة عن جوهر الإنسان في طيبته، وقناعته بقدره. تقول “بول وفرجيني، هو عمره سبع سنوات، وهي أربع سنوات تقريبا، كانا يبدوان كأنهما قُدّا من معدن نفيس. كنت أحملهما على ظهري كالحصان، وكانت مدام أوبان تمنعني من تقبيلهما في كل لحظة، ما يشعرني بالامتهان والمذلة. ورغم ذلك كنت سعيدة”.

هو نص يمكن اعتباره دفاعا عن وضعية المرأة، الفقيرة بخاصة، وخلافا لمدام بوفاري التي كانت تريد أن تعيش علاقة حب لا تنتهي، تعالج قصة “قلب بسيط” أبسط ما في العلاقة مع الآخر، أن نعطي بغير حساب، ونجزل العطاء دون انتظار جزاء. فالبطلة هنا تمنح حبها ولا تنال غير القليل، حتى لكأنها قديسة معاصرة. تقول “مقابل مئة فرنك في السنة، كنت أطبخ، وأرتب البيت، وأخيط، وأكوي. كنت أحسِن كبحَ جماح حصان، وتسمين الدواجن، وإعداد الزبدة، وبقيت طول الوقت وفية لسيدتي، التي لم تكن امرأة حسنة المعشر”. وكأن الكاتب يصور من خلالها قسوة الحياة التي كانت تحياها الخادمات في نهاية القرن التاسع عشر. ولا يملك المتفرج إلا أن يتأثر تأثرا عميقا بهذه الشخصية التي ابتدعها فلوبير أو استمدها من الواقع وهو الذي كان رأس المدرسة الواقعية مع زولا والأخوين غونكور في ذلك الوقت، حين يستمع لنبرتها الصادقة التي تتراوح بين اللين والقوة، بين الدقة والإسهاب، دونما انسحاق، أو تذمر، أو استدرار للشفقة.

___________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني