قراءة  للمسرحية الأمازيغية «أودْم كْ تِسِّيتْ = «الوجه في المرآة» للمبدع المسرحي محمد حنصال

 لحسن ملواني ـ مجلة الفنون المسرحية
كانت المسرحية ولا تزال من الفنون الأدبية والإبداعية الشائقة، فهي زيادة على إمتاعها للجمهور فن من خلاله نقدم رؤانا نحو الواقع ونحو الإنسان توصيفا ونقدا. فهي في الأخير وعاء إبداعي لتجسيد طموحاتنا والتعبير عن أفراحنا وأتراحنا.
ولقد حظي جمهور قلعة مكونة بالتفرج على مسرحية أمازيغية ممتعة، ويتعلق الأمر بمسرحية «أودم ك تسيت» التي قام بتشخيصها المبدع محمد حنصال.
صاحب مسرحيات رائعة – حسب نقاد – ومنها مسرحية «داها» وهي من تأليفه وتشخيصه وإخراج الوردي التهامي بوشعيب، ومسرحية «يدير ياضنين» وهي من تأليفه وتشخيصه، وإخراج عمر بديوي.
والمسرحية التي نحن بصدد تقديم قراءة عابرة لها من تشخيصه وتأليفه أيضا، وقد أمتع الجمهور المتذوق لهذا الفن الممتع الجميل والمعبر عن مكامن النفس والمجتمع.
المسرحية تحت عنوان « الوجه في المرآة « وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء 29 نونبر 2011م بدار الثقافة قلعة مكونة.
موضوع وفنية المسرحية:
المسرحية متشعبة التيمات ولكنها في ذات الوقت متوحدة المنظور والمسار نحو نهاية تجعل المتفرج يقف على كثير من الجوانب المتعلقة بالذاكرة والتاريخ وقضايا اجتماعية كثيرة تحتاج إلى إعادة النظر استحضارا ومعالجة. وقد اتخذ فضاء المُعتقل البؤرة الفضائية التي انطلقت منها الأفعال والأحداث التي تعكس تأزم البطل في علاقته بذاته والفضاء المحتضن له، وبذلك سيعيش أزمة الاغتراب ويحاول الاختراق للحاجز المعرقل بغية الاتصال بعالمه الحميمي المرسوخ في ذاكرته والذي يأبى أن يصير من المنسي والمطموس، لذا يلجأ إلى مخيلته وسيلة تعيده إلى العالم الذي حرم من الاستمرار في العيش فيه بكل الدفء والحميمية التي فُطِرَ عليها كيانه…
في المسرحية سيعود ليعيش فترات عبر المتخيل في الوقت الذي سيجد نفسه مقيدا في ذات المكان الذي كان وما يزال معقله الأول والأخير.
اخترق أحداث المسرحية لجوء الممثل إلى المرآة/ الصورة كملاذ يستبطن ذكريات وأحداث تعششت في الذاكرة… فقد لجأ إلى الصورة بغية التواصل مع أمه التي يبدو أنها وعدته بأن تنسج له زربية لتُزوجه فتاة يهواها، الأمر الذي سيفتح المجال أمامه كي يعبر بعبارات شعرية عما يكنه من احترام وإجلال إزاء هذه الأم التي ترمز إلى كثير من المعطيات والقضايا التي لها علاقة بوجوده وكيانه…
وحينما سيعود إلى صورتها تتحول إلى مرآة سيرى فيها وجها بملامح غريبة مخيفة، إنه وجهه الذي تغير بفعل الاغتراب في عمق الُمعتقل سنوات، وبعد ذلك سيبدو متصالحا مع ما آل إليه وجهه لينخرط في استرجاعات لذكريات ووقائع متشابكة ستجعله يتساءل مرات عن قضايا تؤجج ذاته المُنهكة، ومنها هويته، آماله، تاريخه، تاريخ بلدته…
ولقد أبدى الممثل في كل نسيج المسرحية حالته النفسية المعرقلة بالعقاب والوعيد المعيق لتحقيق المأمول.
في المسرحية:
ـ انتقاد للواقع.
ـ وضع اليد على المفارقات الفاضحة.
– محاولة تجاوز الصادم نحو المبتغى.
– السخرية من الذات.
– السخرية من الواقع.
– انتقاد الوضع انتقادا يجلب إليه العقاب دوما.
– توجيهات للتأمل في الأخطاء قصد تصحيحها «لا بأس أن نرى أنفسنا في المرايا».
– تشخيصات هازلة وأخرى جادة.
– الارتباط بواقعين: واقع كائن وواقع مأمول مركون في الذاكرة.
بهذه السمات وغيرها تدخل المسرحية في إطار ما يسمى بالكوميديا السوداء التي تعتمد على انتقاد الواقع انتقادا كاريكاتوريا يجمع بين الفكاهي والتراجيدي حوارا وحركات وكلما من شأنه أن يوصل رسائل تحمل التنديد أكثر مما تحمل الترفيه وإثارة الضحك فحسب… إنها الكوميديا المستفزة للمشاعر والداعية إلى إعادة التفكير في الظروف المعيشة وذلك بتقديمها عارية خارج الأستار والأحجبة.
وقد قدم محمد حنصال مسرحيته باحترافية متميزة، ساعده في ذلك حسن موضعة مؤثثات الفضاء واستغلالها استغلال انتفاعيا وفنيا ضمن المقصدية التي يوجه إليها مسار أحداث المسرحية وهذه المؤثثات بعضها رامز وبعضها استعمل كأداة استيحائية لأحداث تم استحضارها مع التعبير عبرها عن رؤى واقعية وأخرى مأمولة، وبعضها استخدم استخداما مباشرا ومنها الدف والآلة الموسيقية « الكنبري» وبعضها رامز إلى التراث الأمازيغي مجسدا في مجسم تعلوه بعض الملابس المعروفة في الأعراس والحفلات الأمازيغية. وبهذه الصفة شكل فضاء أحداث المسرحية فضاء لأيقونات تحمل خلفيات ثقافية وإنسانية لها عمق في التراث ووجدان الإنسان الأمازيغي..
المؤثرات الصوتية طعمت لغة السيناريو، وتمخض عن ذلك إبداع لوحات وأحداث مؤثرة وعميقة الإيحاء والإلفات إلى بؤس حياة البطل، فهي مؤثرات متجانسة في اتجاه احتضان الحدث ومنحه الشحنة التأثيرية المأمولة، فالضوء الأحمر وغيره متوحدا مع أصوات يجسد بعضها الطلقات وبعضها وقع السياط على الظهور وبعضها الهدوء «القصير» المؤقت، يعطي للحدث إطاره الكامل والمناسب. أما الزمن في المسرحية فهو غير محدد، فالبطل يعيش الماضي في الحاضر ويعيش الحاضر في الماضي، وحتى أغفاءاته القصيرة لا تؤشر على أي زمن (الليل مثلا حيث الخلود إلى النوم) وإنما نعتبر زمن المسرحية هو كل الزمن المحيط بالبطل من الطفولة حتى حاضره حيث صار كهلا فقد كل شيء إلا ما رسخ في ذاكرته.
أما المؤثرات الصوتية فقد أضفى أكثرها طابعا تراجيديا على الجو العام للمسرحية: أصوات السوط على الأجساد، صرخات وتأوهات…
علاوة على الموسيقى الأمازيغية مرفقة بأغنيات قصيرة لها علاقة بمعاناة البطل كممثل لطبقة معينة.
المسرحية تميزت بسيناريو منح للغة تألقا رامزا ومباشرا في نفس الآن. فقد اتخذ فيها الحوار والخطاب طابعا هو في مجمله أقرب إلى الشعر منه إلى الكلام العادي المبتذل. أما بناء المسرحية فقد جاء دائريا بدأ بالمعاناة وانتهى بالشكوى، بدأ بالخروج من المعتقل عبر الخيال ليجد نفسه داخل المعتقل وجودا واقعيا، وبذلك يموت حلم البطل قبل أن يبدأ.
الإنارة مستحسنة حولت بعض المشاهد في المسرحيات إلى لوحات تشكيلية معبرة تدل على الانحراق العابر لجسد الممثل، وننوه إلى حسن التخلص من لقطة إلى أخرى، تخلص يتقاطع فيه كل من فعل الإنارة والخطاب والقسمات المظهرة للحزن أو للفرح وفق مقتضى السيناريو المعتمد.
وتبقى مسرحية «أودْم كْ تسِّيتْ» = «الوجه في المرآة» عملا إبداعيا يستحق التشيع والاقتداء، فهو عمل توفرت فيه كل العناصر الدرامية بامتياز: حبكة مناسبة، أحداث متصلة بشكل دائري فرضه موضوعها ونظرة مؤلفها، تشخيص احترافي يؤشر على خبرة التقمص والأداء للمطلوب، فكرة مبتكرة إبداعيا وموضُوعا…كل ذلك ساهم في جعل المسرحية تقدم ملمحا إبداعيا يعزز الإضافات المسرحية المغربية الجادة.
لقد تمكن المثل محمد حنصال بخبرته وقدراته المتميزة من أن يضع الجمهور أما الواقع بصورة فنية فيها إيحاءات تجعلك تعيد التفكير في الحاضر والآتي وفي التاريخ وغير ذلك. وبهذا، فمسرحيته مسرحية تستحق التشجيع فنيا وجماليا وأداء.
إن تجربة محمد حنصال في مسرحيته تجربة فريدة تستدعي التأمل في التراث الأمازيغي الذي يعج بتيمات وموضوعات صالحة لتركيب أعمال مسرحية درامية تشكل قيمة إضافية إبداعيا وجماليا إلى التراث الأدبي الإنساني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
مسرحية «أودْم كْ تِسِّيتْ» = «الوجه في المرآة»
تأليف وتشخيص محمد حنصال، إخراج: جلول أعرج.
حصلت على جوائز قيمة في مهرجانات وطنية ودولية.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *