فن الأداء.. خلاصة الفنون المعاصرة /د. مازن المعموري

ما يحدث في عالم الفن اليوم, لا ينفصل عن الحياة ومجريات الاحداث والوقائع اليومية والحروب والفعل السياسي والصراعات الكبرى في كل انحاء العالم, بمعنى اننا امام تحولات جذرية ليس على مستوى المفاهيم والادوات والتطبيقات النظرية والفلسفية حسب , بل امتد ذلك الى اجسادنا وحيواتنا وبصيرتنا نحو العالم الموجود بصفته المعرفية الممكنة تداوليا.

من هنا يمارس الفن تحولاته المعقدة تجاه ما نعيشه , فقد ظهر فن الاداء مبكرا في ظل أزمات وجودية قاسية تمر بها الحضارة الغربية ومنها الى العالم لكله , ليصبح نموذجا لخلاصة الفن البشري, فـ (الأداء) هو شكل من أشكال ممارسة الفنون التي يقدمها شخص أو عدة أشخاص يقومون بعمل أو عدة أعمال حركية في إطار زمني معين ومحدد وفي مكان محدد أو في مكان الجمهور العام مثل الشارع أو السوق وغيرها. وهذا يعني ان الاداء يستخدم ستراتيجيات مثل (RECITATION سرد شيء ما على الجمهور او قراءته/ IMPROVISATION الارتجال, تلك الخاصة المرتبطة بالمسرح والدراما ) اذ يستخدم بشكل بارع حبكة معينة أو شكل سردي ما, يؤديها الشخص أمام الجمهور في أي مكان عام أو خاص مثل القاعات ومهرجانات الفن .
مع إلقاء نظرة سريعة على المرجعيات الاولى للاداء نجد صوره الاولى ممتدة الى القرون الوسطى مع ظهور الشعراء الجوالين وشعراء الترابودور والغنائيين وكذلك الحفلات التنكرية التي ظهرت في عصر النهضة ولبس الأقنعة وما شابه, لكن الاهم من كل ذلك هو ظهور فن الاداء في بداية القرن العشرين مع فن الطليعة على يد الحركات الفنية مثل المستقبلية والدادائية والبنائية والسريالية والباوهاوس , وهي حركات تشكيلية على وجه الخصوص .شاركت مظاهر الحياة المتغيرة في اوربا على مستوى الفنون والحركات الفكرية ومزاولة الكثير من الفنانين اعمالهم في الشارع والاحتكاك بالناس بشكل مباشر من إثراء هذا الفن , كما ساهمت المحاضرات الفكرية والفلسفية في المقاهي والتظاهرات السياسية من دعم هذا الفن , واصبح الناس يمارسون آراءهم وأفكارهم في كل مكان دون حدود او تابوات , كما كانت مظاهر الترفيه مثل السيرك وحركات المسرح الطليعية التي تحث على مشاركة الجمهور والخروج من اسار مسرح العلبة وفلسفات العدمية والوجودية والدادائية وغيرها من الحركات على تصفية كينونة الفن من الزوائد الكلاسيكية وارتباطاته الطبيقية القديمة , من هنا , بدأ ما يسمى بفن الاداء بصفته شكلا مشروعا من أشكال التعبير الفني, إذ يمكن الاشارة الى (COLLOBORATION) حيث وظف الفنانون مجموعة من الأشكال الفنية لخلق أنماط جديدة من الأداء والأحداث التي يقودها الفنان, بمعنى ان هناك فنا عابرا للتخصصات بدأ بالظهور على المسرح الاجتماعي أولا وقبل كل شيء .
تدفق الفنانون الاوربيون الى أميركا في الفترة من 1930-1940, تلك الشخصيات المرتبطة بحركة الباوهاوس والسريالية , وساهمت في ظهور التجريدية التعبيرية في ضوء الرسم بالالوان الزيتية والمواد المختلفة وتفرعات تقنيات ما بعدها, وابتكار وسائط جديدة للتعبير الفني في الفترة من 1940-1950, حيث تم تطوير فن الاداء مع ظهور هيمنة فن الفوتوغراف والسينما وتمظهرات الرسم الحي في فضاء المدن والشوارع والاماكن العامة , كما ظهرت تحولات مهمة في الفترة 1950-1960 , ادت الى تصاعد الحراك الاجتماعي وتطور فن الاداء في ضوء حركة فناني ( فلوكزز / FLUXUS) الذين كرسوا ظاهرة طمس التمييز بين الفن والحياة اليومية, فلا غرابة بعد ذلك ان نجد متغيرات الحراك الاجتماعي والسياسي في مرحلة الستينات من القرن الماضي, وبروز ظاهرة تسليع الفن , وظهور حركات النسوية ونظريات ما بعد الاستعمار والنظرية النقدية الجديدة وغيرها من الاشكال الفكرية والفنية والثقافية قد ساهمت ايضا في دعم حركة فن الاداء في العالم الاميركي الجديد .
النقطة الاهم هي عام 1970, الذي يعد عام استخدام فن الاداء بشكل شائع ومقبول , وقد كان مرتبطا بالفن المفاهيمي آنذاك, لانه ركز على ابتكار الافكار وليس التحف الفنية, وكرسوا مفهوم الفن الزائل والسريع وحاربوا الارث المتحفي الخالد , واستبدلوا قاعة المتحف بالمكان المفتوح والتاكيد على ( المكان / الفضاء/ الموقع / التداخل الاجناسي ) .
ان ظهور فن الاداء عام 1970, ادى الى بروز اشكال مختلفة من الاداء السياسي في ظل الاضطرابات الاجتماعية منذ عام 1960, مثل ( فن الفعل / فن الشارع/ مسرح العصابات ) حيث سعى الفنان الى لفت الانتباه الى القضايا السياسية والاجتماعية باستخدام الهجاء والحوارات الاحتجاجية اعتمادا على الجسد, في ظل هيمنة الحركات النسوية والنقدية الجديدة في الفترة 1960-1970, التي اكدت على اعادة تقييم الجسد واكتشافه بشكل شخصي ومختلف وتفسير ماهية القيم التي ينتجها الجسد معرفيا , واثر ذلك على النشاط الجنسي والحرية الجنسية في تلك الفترة , وتفرعت الاشكال الى ظهور النحت الجامد والفن النسوي وغيرها .
استطاع فنان الاداء بواسطة الفديو والسينما والفوتوغراف, ان يكون اكثر تاثيرا في المجتمع, ففي عام 1980 تم دمج وسائل الاعلام والتكنولوجيا بفن الاداء بشكل واضح المعالم واصبحت الميديا جزءا اساسيا في العمل على هذا الفن السريع والمؤثر بقوة على الاخرين , كما أوضحت الناقدة النسوية المعروفة ( أميليا جونز Amelia Jones) في كتابها الموسوم ( فن الجسد ) طبعة 1998, من ان الجسد تمت إعادة تعريفه في مرحلة ما بعد الحداثة لما لهذه المرحلة من قدرة على تفتيت الثوابت الحداثية الخاصة بالجسد بصفته مؤسسة اجتماسياسية قارة وثابتة المعالم , مثلما فعل الفنان الغواتيمالي سانتياغو سييرا (Santiago Sierra ) حين قدم عرضا مؤثرا حول هجرة العمال الى نيويورك باقفاص كارتونية عبر البحر عام 2000, حيث تم إدخال العمال في صناديق الكرتون في ظل ظروف مختلفة. في هذه الحالة، بقي ستة عمال أربع ساعات يوميا لمدة ستة أسابيع داخل الصنادي, كما استفاد كل من  (بولين كمون ولويز والش/ Pauline Cummins / Louise Walsh ) عام 1992,على سبر أعماق الفيديو، وتركيب التصوير والصوت، من خلال إسقاط الأفواه على جسد الآخر, حيث تقول روزيلي غولدبيرغ ( أصبح عمل الفنان مرتكزا على جسده , وجود الفنان قائم على فن العيش في مفاهيم الواقع من خلال الصورة والتركيب والفديو) .

المصدر/ المدى

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *