عين على المسرح – مهرجان فرحات يامون للمسرح في دورته السادسة والعشرين كـــومـــا صراع السلطة وانعاش لذاكرة منسية ….والمجنون نحت إبداعيّ ما بعد الدرامية – بــقــلــم : عـبـاسـيـة مــدونـي- سـيـدي بـلـعـبـاس- الــجـزائــر

في ظل فعاليات مهرجان فرحات يامون للمسرح في دورته السادسة والعشرين ، وفي محور  ” المسرح والتراث” احتضن ركح دار الثقافة ” محمد غازي” عديد التجارب المسرحية التي عانقت  توجّه محور الدورة ، كما كانت العروض المسرحية حاضرة بقوّة أمام جمهور متعطّش للفن الرابع ، لا سيّما وأنّ جربة جزيرة الأحلام باتت تعانق هذا العرس المسرحي كتقليد سنوي ذا أبعاد وتوجهات واضحة الأسس والمعالم .

فرقة كواليس من تيط مليل المغرب ، من بين الفرق المسرحية العربية المشاركة بهذا المهرجان ، الفرقة  التي تحمّلت أعباء السفر دونما أيّ دعم من أية جهة رسمية تذكر على مستوى المغرب الشقيق ، أصرّت  على أن تشارك جزيرة الأحلام حلمها المسرحي العربي في هته الدورة ، لتؤكّد أن جسر الإبداع يمتدّ وأن العطاء متواصل ولو أغلقت كل الأبواب في وجه الفنانين بخاصة وان كانوا شبابا ذوي طاقات واعدة وبارزة ، فرقة كواليس نشّطت مهرجان فرحات يامون للمسرح بعرض الشارع الموسوم

 

 

بـ” باش جاي …باش داير “ الذي صنع الفرجة أمام جمهور جربة ، لتشارك بعرضها الثاني على  مستوى ركح دار الثقافة بعرض آخر تحت مسمى ” كـــومــا” الذي تقاسم أدواره ثلاثة شخصيات رئيسة في شخص الأب ” بوعبيد” مع الممثل الشاب ” حميد الحو”   والشقيقين المتصارعين في شخص ” أنس فويتح” و” عبد العالي زوهيري” .ث

الثلاثي الذي صنع الفرجة ، وجمع بين التراث في حقل القوّال الذي اتّخذ طابع الحلايقي وجاءت معظم أغانيه حوارات ألمّت بتيمة العرض ، ناهيك عن حوار الشخصيتين المتصارعتين حول سلطة لم تتبين ملامحها بعد في ظل الصمت والعبثية والقمع ، جاء العرض ملامسا لقضايا متعدّدة الجوانب لاسيّما في أبعادها السياسية لا سيما البعد الإنساني الواضح المعالم .

” كوما” بمفهومها العام غرفة الإنعاش ، حملت المتلقي إلى تلكم الغرفة ليعايش جوّ الاغتراب الذاتي والبحث عن منفذ للخلاص بين خطّين رفيعين من الواقع والمجهول ، جاءت حبكته محكمة الطرح في بعدها الدرامي والتيمة المتناولة والتي انطلق فيها المؤلف والمخرج ” عبد الفتاح عشيق” من قضية الأب المجنّد تجنيدا إجباريا ، تاركا وراءه عائلة تعايش المجهول بفضاء منعزل وقذر ، ساعيا لتمرير رسالته الإنسانية بين ما يعانيه الأب المغترب طوعا لا إرادة ، وبين أخوين يتشاحنان عن شئ غير مفهوم ذا أساس سلطوي .

  العرض عرّى الواقع بلمسة جادّة ، وقد حمل المتلقي على الخروج بكذا تساؤل حيث نبش دواخلنا نفسيا وحاور عقولنا ذهنيا ، وفي بساطته اتسعت رقعة رؤاه سواء من حيث البناء الركحي أو الدرامي ، وحملنا على عدّة إشكاليات واستفهامات تمسّ هذا الواقع الذي نحياه وما يعتريه من سلطوية وجبروت ، وان كان الصراع بين شقيقين في رقعة واضحة فما بالنا بالسلطة المستثرية بالمجتمعات بخاصة وان كانت متسلّطة وتمارس سوط القمع والجبروت ، قمع الحريات وجبروت الكراسي المنفوخة التي أساسها المحسوبية والحقرة .

الإضاءة هي الأخرى كانت ذات ايحاءات رمزية بارزة عمّقت فينا كمتلقين عديد القراءات من كذا جانب ، الإضاءة على الجانبين والتي تمركز في وسطها ثالوث مظلم جامع لعديد الأطراف المتنافرة ، وكأنه يحاكي شخوصا أخرى آن لها أن تقتحم بقعة الظلام تلكم لتنيرها بإرادتها ، بصوتها ، بأحقيتها في العيش الكريم بمنأى عن السلطة الفاشلة ، ثالوث لابدّ له أن يشع نورا بمجابهته للمحسوبية ، للبيروقراطية ، لقمع الحريات والمبادرات الفاعلة .

العرض ” كوما” الحامل لإسقاطات تربوية تعلوها الأبعاد السياسية ، غذّى صراع الشقيقين ، ليتصاعد رويدا ، رويدا ، كحال الأمم التي تعايش القمع الجبري ، وراحت السلطة الممارسة عليها داخليا أو خارجيا تحمل بين طياتها شتى النتائج السلبية أين تنسف المبادئ ، تنحلّ الأخلاق ، يستثري القبح والعفن مكان الجمال والإنسانية ، ضعف يتغذّى لا إراديا ليتحول إلى قوة وسلطة محطّمة لا فاعلة ، هنا لابدّ من المجابهة ورفع التحديات ، هنا آن لصوت الحرية أن يصدح ، وآن لشتى العوامل أن تتلاقى لتحارب الفساد في شتى صوره .

كــومــا … غرفة إنعاش تخيّرنا بين التسليم بما لنا وعلينا ، وبين تحلّينا بالإرادة والجرأة لنتخطى عتبة حصار مفروض لا إراديا ، تلكم هي كوما التي قطعت الجو ، البر والبخر فقط لتقدّم لوحة إنسانية لجمهور جربة الوفيّ للمسرح والمتعطش للفن .

أمّا عرض” المجنون” لفرقة التياترو تونس  ، والمخرج ” توفيق الجبالي” جاءت مقتبسة عن رواية المجنون للمبدع ” جبران خليل جبران” المحمّل بالرمزية الصارخة ، الصوت الصادح بالإنسانية المحارب للقمع ، للتسلط والجبروت في عالم موبوء ، هكذا أراد ” الجبالي” لعرضه أن يرفرف بكذا جناح بركح دار الثقافة ” محمد غازي” ضمن العرس  المسرحي العربي لمهرجان فرحات يامون للمسرح في دورة سنة 2017 ، أين استمدّ من إرث جبران المعتّق بالجنون بصمة خاصة به وبجنونه الركحي ، لنتساءل بدورنا : ” كيف صار مجنونا …؟ ” أو كما يقول جبران في نصه ” هذه قصتي لكل من يود أن يعرف كيف صرت مجنونا ..؟”

نقل لنا ” الجبالي” حكمته الموازية لجنون ” جبران” بشكل طيّع ، ويبسط لنا نظرة ” خليل” المعتّقة بالحكمة ، بالتواضع ، لنعانق وهج الحياة ببهجة وقبس نور مشعّ بالألق والبساطة ، من تلكم الزاوية حلق المخرج والمقتبس في تجسيد عرضه المسرحي بثلاثة إناث عانقن وهج الحياة كأطياف متناثرة ، صادحة وغير مكتملة باحثة عن مرفأ ، عن متنفّس أو عن ملجأ لإتمام تغريدة الوجود بين ضوء الشموع .

المجنون منحوتة الجسد والفكر ، منحوتة الذاكرة والذكرى ، تأثيث لفعل ما بعد الدرامية ، في رسم معالم الحياة والحرية ،

الغربة ، الفهم والبحث دوما عن السبيل ، سبيل للانعتاق ، للتحرر ولملامسة الصفاء ، ففي الجنون ملامسة للحرية والنجاة معا.

لقد منحنا عرض ” المجنون ” أبعادا ما بعد الدرامية ، وما بعد الحداثية ، حتى نستوعب اللعبة الركحية  المفعمة بالجنون ، بالغرابة والمشهدية التي ترفعنا إلى مستوى الهذيان ، فلم يكن ” جبران ” الذي نقرأه  في الكتب فحسب ، بل كان ” المجنون” مشهدا ركحيا صاغه المخرج ليلهم المتفرج منطلقا من غربته في قلب العتمة ، بأسلوب تعبيري صارخ بكذا انتماء .

ما اتّسم به العرض الجدية والجرأة في الطرح مسايرة لمفهوم الجنون في شكله التمردّي ، متوازيا مع ما يحدث في الوقت الآنيّ والراهن ، بلغة الأبيض والأسود ، بين النور والظلام ، بين أصوات الممثلين وأصواتهم لتكون بمثابة السّند أو المرتكَز في العمل المسرحي ، لتضاء في تلكم العتمة شمعة وتحاكي الجسد وتلامس الوجدان والروح وتستفزّ العقل وذهن المتلقي، ليكون بين اللغة والصمت خيط فاصل إيذانا بالجنون اللذيذ الحامل للدهشة ، للغموض ، للحركة محمّلين بالهذيان .

” المجنون” لوحة فنية نحتها الممثلون بلمسة مخرج فنان وبصمة حداثيّ متذوق للفن الرابع ، اتّخذ من العتمة نبراسا لتوجهه ، ومن الأبيض والأسود لغته الرمزية الساحرة ، ومن تقنياته منبرا لإرساء الدهشة وتطويع هذا الجنون ، لم تأت لوحاته ملغّمة بالتعقيد بل جاءت رمزية صادحة بالسحر والجمال ، عانق العبث والسخرية ، لامس التحدي والإيقاع  الداخلي والخارجي في الصوت ، في الحركة ، في الأداء ، في التشخيص والتجسيد الركحي ، مواجهة لغة ” جبران” بلمسته التعبيرية على المسرح .

المجنون مساءلة للواقع ، للحرية ، لما نريد وما نبغي ، مساءلة للحركة ، للصوت ، للجمالية في بعدها الدرامي وما بعده ، فمن تربّص بالآخر ؟ هل المخرج تربّص بكتابة جبران ؟ أم الممثل تربّص بنا بإعجازه الواضح على الخشبة وهو يعانق طيف الجنون  ؟

أم نحن كمتلقين شغوقين تربّصنا بالمشهدية الركحية  مذهولين ، مشدوهين لجنون الكتابة الركحية …؟

هو ” المجنون” سواء كان ” جبران ” أو ” توفيق الجبالي” الذي حوّل أدبية وسحر جبران الى مشهدية ركحية آسرة ، نابضة ، ملغّمة بالاندماج ، بالانصهار ، وبمقارعة النص كتابة أو عرضا حيّا يحملنا على الجنون الداخلي واستثارة معالم هذياننا بأناقة

الإبداع .

 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *