عين على المسرح العربي – التشارك في التجسيد الدرامي مرجعيات المسرح العراقي القديم – العراق

اذا افترضنا ان معرفة المستقبل تنطلق من الماضي بترتيب من الحاضر لتأسيس منطلقات هذا الوعي باستقدامه الماضي بوعي الحاضر الذي يمثل فكرة التغذية الراجعة للحضارة وما انتجت من معارف، فإن السؤال هو: هل ان فعل الحضارة مقتصر على ذات الزمن الذي انتجها، ام انها تنتج في زمن لتكون حاضرة في زمن آخر، وتكون لها القدرة على التعاطي معه؟ ذلك (( ان الشعوب لا تستعيد وعيها الا في تراثها ))(1). من هذه المقولة نحاول ان نستقرئ وعيناً المسرحي من خلال الحفر في تراثنا القديم الذي انتج لنا اشكالاً مسرحية ما تزال مثار جدل فكري مفاده ان الوعي العراقي لم يعرف المسرح اذ انقسم ازاءه فريقين، فريق يؤيد ان العراقين قد عرفوا المسرح، بينما الفريق الآخر ينفي ذلك. وفي هذه الجدلية اذا ما ثبت ان احد الفريقين مصيب لايعني ان هذا الوعي يشكو نقصاً في مدركاته المعرفية والحضارية ، لأن الفكر العراقي القديم له مرتكزات فنية تشكل معطيات وعيه الدرامي الذي تؤكده الحقائق الفكرية والمادية لهذا الوعي. وعلى هذا نقول إن العراقيين حدسوا الوجود وعلاقاته بفكر ثاقب، اذ ادركوا ان ما ينتج من تبدلات في حركة الطبيعة تؤثر في مسارات حياته لايمانهم المطلق (بوجود قوى خفية وحية تحرك مختلف الظواهر الكونية، مثل: السماء، والشمس، والرياح، والامطار، والمياه، والنبات .. التي ردوها الى مبدأ الحيوية ).(2) وهذه القوى قرنوها في ما بعد على شكل آلهة لها مميزات خاصة، فكانت لهم آلهة للشمس، واخرى للقمر، وثالثة للمطر … وهكذا ، اذ قرنوا كل ظاهرة كونية ( بإله )، ولكي يحققوا شيئاً من الاتصال المباشر بينهم وبين آلهتهم جعلوا لها مشابهات ارضية من خلال مبدأ التشبيه، اذ شبهوا آلهتهم بالبشر، و اعطوها بُعد التشارك معهم في كل الصفات: في انها تأكل وتتزوج وتتخاصم، غير انها تختلف عنهم في انها تتمتع (بصفة الخلود)، بينما مآل الانسان (الموت). وهذا ما جعل الخلود سر ديمومة الوجود عند العراقيين، ما يؤكد ان العقل العراقي لم يكن عقلاً عشوائياً . وعليه يمكن القول ان كل ما نتج عن الحضارة العراقية كان بوعي متأمل لمظاهر الوجود ومحاولة تفسير لمتغيرات الطبيعة ومسسببات هذا التغير ، فأنتج الطقوس التي شكلت ابعاده الفكرية، وعنها امتاز بتقاليد خاصة فكانت اساطيره تناقش جدلية الموت والحياة والنظام وهو يستنطقها بوعي، الدرامي مؤسساً بذلك مرجعياته التي نشأت بفعل القراءت الاولى لمركبات الوجود الكوني من ارض – سماء – هدوء n موت حياة – ليل – نهار – تقلبات في الطبيعة … وغير ذلك . فكان التخيل لطبيعة هذا الوجود ومسبباته ان يكون وراءه فكر ما ،وهذا الفكر الانساني آمن ان هناك آلهة وراء كل ما يحدث في الوجود من حزن وفرح،و…. ، و لكي تكون الالهة مع الذات الانسانية ، عليها ان تبحث عن الوسائل التي تكون وسيطا يحمل الالهة على أن تكون داعمة له على وفق شروط تحدد بها الادوار لكل منهما ، خصوصاً وان هذه الذات كانت ترى الطبيعة منقسمة بين المأساة والفرح.. ففي ذات الوقت الذي قرنت فيه الحزن بثورة الطبيعة ( الالهة )، انهالت عليه بتدمير كل ما انجز من زراعة وبناء سدود وخزن … وغير ذلك ، وقرنت الفرح بفسحة الزمن الذي تمنحه اياه الطبيعة ليعيد ترتيب حياته ، فكان له طقس خاص لكل فعل من افعال الطبيعة حاول من خلاله ان يستفهم عن طبيعة العلاقة بينه وبين الطبيعة …. وهذا ما يدفعنا بأتجاه السؤال الآتي : هل ان الانسان العراقي القديم جسد علاقته الدرامية مع الطبيعة كتقليد طقسي لايعي ما يقدم ؟؟ ام ان فعاليته الدرامية تقليد ذو قصدية فنية ام منفعية دينية خالصة؟ كان لأثر الدهشة والخوف من مظاهر الطبيعة وقع في تفجير وعي الانسان ونقله من واقعه الغريزي الى وعي تأملي حفزه على ان يؤسس منظومة معارف (3) ، اذ تحولت منظومة المعارف هذه الى تقاليد روحية ( دينية ) اسطورية n فكرية – اخلاقية نتجت عنها اعراف وقوانين … شكلت، في ما بعد ثوابت مقدسة،(4) فكانت طقوسه وتقاليده تمثيل لصراعه المحتدم مع قوى الطبيعة التي كشفت عن وعيه الجمالي كمحاولة للاندماج مع العالم المعيش، والتحرر من حالة الخوف والتغريب. (5) وهذا الصراع هو ما دفع بالانسان العراقي القديم الى ايجاد الوسائل التي من شأنها ان تسوي العلاقة بينه وبين الطبيعة التي ارتقت الى وعي متقدم تجاه هذا الواقع، ولا سيما بعد اكتشافه اللغة التي كانت، وماتزال، وسيلة معرفية انتجت مفاهيمه التي ساهمت في نشوء وبلورة المظاهر الدرامية. (6) ان الوعي الدرامي تمثل في اول طقس تعبيري …. اي في اول اسطورة مقدسة حاكت الوجود الكوني.(7) لهذا يقول روجيه غارودي (( كان اسهام الفن في العقل الالهي ، هو انه اظهر كيف يستطيع الانسان ان يصبح انساناً )). (Cool ومن المؤكد ان الفن الدرامي التعبيري البدائي كان يبحث عن حقيقة نزوع الروح الفاضل الذي اتخذ منه معتقداً يطهره من خطاياه ويقربه من الاله، سواء كان معلوماً ام مجهولاً ام مفترضاً . ان كل ما ابدعه الوعي الفني مجرد تأملات تستقريء الواقع للكشف عن جوهر الوجود وعلائقه وقيمه وقوانينه. (9) ومن الملاحظ ان مرجعيات المسرح العراقي القديم تتداخل فيها الاسطورة والتاريخ، اذ نجد الاسطورة عند العراقين من الانماط المقدسة التي تمتاز بوجهين، ففي وجهها الاول خطاب ديني يقدس الآلهة وهو يسترضيها بتقديم القرابين والدعاء والترتيل تمجيداً لها، والثاني دنيوي فني مقدس يجسد مأساة غياب الآلهة عن الحياة كما في اسطورة التكوين، او الخليقة البابلية التي تتضمن جملة وقائع لها دلالاتها الادبية والاخلاقية والروحية والمعرفية التي اتخذ منها الانسان العراقي القديم معتقدا يبغي من ورائه تطهير النفس من خطايا الفوضى، اذ نجد التطهير الذي يبحث عنه هذا الانسان في وجهه الديني والدنيوي، كما يلاحظ في الاداء الدرامي والدعاء والترتيل لعودة الاله الى الحياة ليعم بعد ذلك الخير ويسود السلام … وهذا الشكل الدرامي الذي يجسده الاداء الدرامي يمثل العقل الانساني الذي يعي الخير بالعقل. وهذا الشكل الدرامي يمتاز بصفة تربوية واخلاقية ونفسية وفكرية وسلوكية.(10) فخطاب الاسطورة الدرامي مثلاً في اسطورة التكوين يعبر عن وجه الصراع من اجل الخلاص من رمزية الشر والتطهيرالذاتي للنفس البشرية التي ارتكبت الخطأ فكان مؤشراً حاضراً مادياً لصورة الفوضى، (11) ما يكشف عن ان النشاط المسرحي في العراق القديم اتسم بصفة التقليد التي تعاد دورياً في احتفالاته الدينية وطقوسه ما منح الواقع بعداً جمالياً في محاكاته للحقيقة، اذ كان يجدها في تحقق السلام، لهذا كانت منظومته المعرفية المتجسدة مسرحيا قد حاكت الوجود من خلال منظومة طقسية تأسست على وفق منظور ديني يعطي ملامح خاصة لطبيعة العلاقة بين الانسان وقوى الطبيعة ( الآلهة )، اذ كان الانسان يعتقد بأنها المحرك لمقدراته الحياتية، اذ كانت منظومته الفلسفية آنذاك منظومة قدرية تحركها عوامل الطبييعة ذات الصفة التكرارية، وكان لفعل التكرار وقع مميز لنشاطه المدني، ومنها التضمين الدرامي باداء مسرحي ، وهو يمازج بين الطقس والدين بمنظومة احتفالية تجسد ارادته القارة بتمجيد الآلهة حتى انه رسم محاكاته الدرامية على وفق هذا الاعتقاد فكانت اشكاله الدرامية البدائية ذات المقومات المسرحية ترتكز الى جدلية السلام الحياتي بمعنى ايجاد الكيفية على ارضاء الآلهة ، وبغير ذلك يعني الفوضى، لهذا كان النشاط المسرحي مؤطراً بطابع الاحتفال الطقسي ذي السمة التكرارية لتأكيد عدد من المعطيات التي تكشف عن طبيعة العلاقة بين : 1- السلطة والشعب 2- الانسان والطبيعة 3- فلسفة الفكر العراقي فلسفة نفعية n دنيوية هذه العلاقات كلها اسستها مفهومات دورة الطبيعة التي كان لها الاثر الواضح في المستوى الادائي والفكري للمسرح العراقي القديم ذي الطبيعة التكرارية، كما يبدو في طبيعة الاحتفال المسرحي الدَوْري الذي يحدد قبلاً مضمونه وشكله ( علاقة الانسان بالآلهة ). أما شكل العرض المسرحي آنذاك فكان يقدم في الفضاء الخارجي لبوابة عشتار على شكل دائرة ومركز هذه الدائرة هو: ( الالهة ) = (مركز السلطة ) ومحيط الدائرة (الشعب) = (الانسان ) ودوائر الصراع الدرامي هذه يظهرها التجسيد المسرحي في طقس ديني، ما يبدو ان الطقس المسرحي يقدم بدافعية استرضاء الآلهة وعودتها الى الحياة بالدعاء والترتيل والانشاد لتحقيق مبدأ منفعي في حماية ذاته من اخطار الطبيعة التي اسستها مفهوماتها (اسطورة التكوين او الخلق البابلي) فكرياً وسلوكياً على وفق المعتقدات الدينية للسومريين والبابلين المتمثل بمبدأ الحيوية التشبيه.. ومن هذين المبدأين نشأت فنون وادي الرافدين التي كانت على شكل اساطير وملاحم، كما في اسطورة الخليقة البابلية، والزواج المقدس، وملحمة كلكامش، ورثاء اور. وعند تأمل الطقوس الاحتفالية العراقية القديمة نجدها تضج بالمظاهر الدرامية ، وهي ترسم بها ملامح فرجة مسرحية يتشارك في عرضها كل من المؤدين والجمهور لما يمكن ان يحدث في حال خلو الوجود من الآلهة عندما تنتقل الى العالم السفلي سيكون الشر(اللصوص ) وجوداً حاضراً في تجسيد فلسفة القتل والنهب والسلب مما يضع الجمهور امام مسؤولية التشارك في التجسيد الدرامي، اذ ينقسم ازاء هذا الاختفاء الى ارادتين متصارعتين، الاولى (اللصوص) اذ يجسدون دورالشر ويظهرون في عربة تجرها خيول في اتجاهين متعاكسين ما يؤدي الى الفوضى واشاعة الرعب عند المواطنين ـ وهنا تحضر الارادة الثانية (الجمهور). وتمثل ارادة الخير (الفريق الآخر) للخلاص من اللصوص بالدعاء والترتيل لعودة الآلهة ليعم الهدوء والسلام وتستقيم الحياة من جديد. هذا البناء الدرامي لطبيعة المأساة الانسانية يفرز لنا بعداً فلسفياً / سياسياً وهو يرسم طبيعة الانظمة الحياتية في العراق القديم ( اذ لاتستقيم الحياة الا بشخص واحد فقط هو الاله )، ومن فلسفة مبدأ الحيوية والتشبيه تأسست مفاهيم الاداء الدرامي آنذاك، اذ عُرف مفاهيمياً ( ان شبيه الشيء يمثل الشيء نفسه بالقوة والفعل )، لهذا كان التجسيد الدرامي تمثيلاً مادياً لغياب الآلهة في ان يقوم احد الكهنة بتشبيه الآلهة، وكانت هذه الرؤية الكونية تجسد بأداء حركي يقدم له الراوي بأعلى دائرة العرض الدرامي بأداء صوتي مرتفع وذلك للمسافة الكبيرة الفاصلة بين المؤدين والجمهور، وهو يرتقي دكة مرتفعة ليصل الصوت الى اسماعهم.. ويصف التقديم المسرحي لحدث غياب الالهة عن الحياة. بعد ذلك يتحقق التطهير المسرحي عند المؤدين والمتلقين بوصف ما يقدم مسرحياً معني به الجميع . وعادة هذا الطقس الاحتفالي ذو الشكل المسرحي الذي يؤكده مبدأ الحيوية والتجديد لحياة الانسان المستعارة من حركية الطبيعة وحيوية تجديدها التكراراي ، لهذا كانت الاحتفالات تقام في شهر نيسان، شهر انبعاث الحياة من جديد . ومن هذا نستخلص ان المظاهر الدرامية في العراق القديم كانت ذات مرجعيات اسطورية مؤطرة بأبعاد فلسفية . وعليه نجد ان المسرح العراقي القديم ذو مرجعيات دينية تحمل مضامين تنظيمية للحياة، وهي تستعرض هذا النظام مسرحياً بمسارين : ( حضور الآلهة ) و ( غياب الآلهة ) الذين تنشئهما جدلية الصراع الانساني بين الحياة والموت ، ما يؤكد ان المسرح العراقي القديم كان يعرض مأساة الانسان من خلال هذه الجدلية التي تكون حاضرة في قيم الفوضى والسلام ، وهي تؤكد ان هناك ارادة مسرحية في عرض المأساة الانسانية وكيفيات علاقاتها الوجودية. ومن خلال هذه المرجعيات الدينية ذات الافق الاسطوري نستنتج ان المسرح العراقي القديم مسرح ديني، وان طبيعة محاكاته محاكاة قدرية .
الاحالات: ص45 اركون والجابري الشبكة العربية للابحاث والنشرط1 بيروت 2008 نايلة ابي بدر : التراث والمنهج بين -1 2 – فاضل عبد الواحد : عادات وتقاليد الشعوب القديمة ، بغداد ، 1979ينظرص108
3- منير حافظ : مظاهر الدراما الشعائرية ، الناشر للدراسات وانشر والتوزيع، سورية ، 2009 ص6
4- المصدر نفسه(ينظرص6 )
5- ينظر نفس المصدر ص 10 -11 ) 6- (ينظر نفس المصدر ص13 )
7- ينظر نفس المصدر ص18
8- نيتشة والاغريق ص18
9- صالح الحيدري المظاهر والشعائر ص26 10-) المصدر نفسه ص30 11- نفس المصدر ص44

——————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني – د. سافرة ناجي – الزمان

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *