(عين) الأداء التكنولوجي في مسرحية “ماراثون”* – العراق

تُعد (التكنولوجيا) من المصطلحات المعاصرة التي أصبحت أكثـر تداولاً في الآونة الأخيرة لدى الجميع بشتى أعمارهم ومستوياتهم ووعيهم ، ويمكن أن تحقق (التكنولوجيا) أغراضاً ذات قيمة عمليّة للمجتمع ، وخدمة للإنسان ورفاهيّته ، ولها الدور الأساس في تطور المجتمعات، أي أننا نحكم على المجتمع بالتطور والرقي إذا كان متقدماً تكنولوجياً .

برزت في النصف الثاني من القرن العشرين تحولات علمية في مجال (التكنولوجيا) أثرت بشكل مباشر في المجتمع ، ما جعلها تتداخل في شتى مجالات الحياة ، وهذا التحول قد انعكس بدوره على الفن بكل مشاربه ، الأمر الذي جعل الكثيرين يقفون موقفاً مؤيداً أو معارضاً في مواجهة التغيرات التي أصابت الفن في ذلك الوقت .

وعلى صعيد المسرح فقد تجسدت (التكنولوجيا) بطرق تقانية مرتبطة بالتشكيلات الصورية في العرض المسرحي ، إذ ترتبط تلك

الطرق بتصوير التقنيات المسرحية وتنفيذها من خلال الديكور والإضاءة والصوت والآلات والمخترعات والمعارف التكنولوجية الخاصة التي ترتبط بكل زمن ، وقد توالت استخدامات التكنولوجيا وصولاً إلى المسرح المعاصر عبر تجارب مسرحية مهمة ، ابرزها تجارب : آرتو ، وبسكاتور ، ومايرهولد ، وبرخت . كما شهد المسرح العربي المعاصر ومنه العراقي انتقالات جوهرية في ميدان (التكنولوجيا) ، من خلال بلورة هذا المفهوم على صعيد البنى الفكرية والتطبيقية لجملة من النتاجات المسرحية التي قدر لها أن تكون أنموذجاً متفرداً من حيث الصياغة المسرحية ، والبحث عن الدلالات المعرفية التي يلجأ إليها  المخرجون في اشتغالاتهم الفاعلة على مستوى الشكل والمضمون .

ومن هنا تكمن أهمية الأداء التكنولوجي ، كونه نقلة في ذهنية المسرحيين من الكتّاب والمخرجين والتقانيين ، كما أنه تفعيل لذائقة جمالية مستهلكة لعل بعضها يقف راكداً عند القديم ، فالعلم يرفض الوقوف إزاء المنجزات البشرية ، فهو مشروع لتحطيم الثوابت في عملية الإبداع ، وأن هدف كل تجربة مسرحية البحث المستمر والواعي في التقنية الفنية المتعارف عليها كسلطة خطاب مسرحي تقليدي ، من أجل تجاوزها والعثور على منهج مسرحي يساعد بالضرورة على إحلال عناصر جديدة في الشكل والمضمون تلائم روح العصر .

تستمد مسرحية (مارثون) موضوعها بشكل واضح وجوهري من خلال الأحداث والتطورات التي مر بها المجتمع العراقي ودراسة الأبعاد المرتبطة بالإنسان الراهن حينذاك ، فالمتن الحكائي يتحدث عن وجود شخصيتين (الكاتب ، المجنون) ليقذف بهما المؤلف وسط عالم متغير وسريع ، عالم يؤمن بالتكنولوجيا ودورها في تغيير المجتمعات وتطورها .

ابتعد المخرج عن الحدث التقليدي المتصاعد ، إذ يقحم أحداثاً سريعة وحوارات كثيرة وأفكاراً متشابكة ، موظفاً ذلك باستخدام الوسائط المتعددة التي تمثلت بـ(خيال الظل ، التمثيل الصامت ، السينما ، الداتو شو ، الفيس بوك ، الانميشن ، الديجيتال ، صفارات الاسعاف) ، كأنه يقول : إن العالم سريع ، وإنّ التكنولوجيا لها دورها في حراك العالم بسرعة . وبهذا يرتبط مع (المستقبليين) الذين تبنوا الحركة والسرعة ووظفوها في أشعارهم ومسرحياتهم ولوحاتهم ، إذ أرادوا أن يطيحوا بالمتاحف التي عدّوها أماكن عامة تنام فيها إلى الأبد إلى جانب كائنات مكروهة ومجهولة ، وانطلاقاً من هذا الموقف إزاء تراث الماضي ، ومن الدعوة إلى الثورة على السلفية ، مقابل الإشارة بمعالم الحياة الحديثة والتمسك بها ، فراحوا يضاعفون النداءات الصاخبة والمثيرة بغية التأثير على هذا الوسط ، على أن حركتهم لم تبق دون اثر ، فقد كانت لأفكارهم ولآمالهم ردود فعل لم تكن جديرة بالقدر الذي كانوا يريدون أن يجعلوا الناس يعتقدون به. 

ترجع اهمية استخدام الوسائط المتعددة على خشبة المسرح إلى أنها “تمثل الاطار العام الذي ينظم وسائط سينوغرافيا العرض بكل ما فيه من مناظر واضواء واسقاطات على نوافذ (شاشات) ذات تقنية متقدمة من خلال الحاسب الآلي . كما ان الوسائط المتعددة تتيح تنفيذ ما يعرف بالواقع الافتراضي الذي تبنى مناظره بناءً رقمياً وتتكون الوسائط المتعددة من العناصر الاتية : النصوص ، الرسم والصور ، الصوت ، الفيديو” .

اراد المخرج ان يمزج كل هذه التقنيات الحديثة وفق اداءٍ منسجمٍ بين الحوار والكملة المنطوقة ، وبين ما يقدم على الشاشة (الداتو شو) ، إضافة إلى القطع الديكورية التي كانت توظف مع الموسيقى لتكون بكلياتها صورة يدمج فيها الحدث بشكل فني رائع ، كما كان لتوظيف الاغاني الشعبية دور مهم في تجسيد المرجعية الثقافية التي انسجمت عكسياً مع ما يقدم على الشاشة في اشارات لعام 1979م مع ظهور تجمعات للشعب العراقي ترحب بمن أصبح رئيساً ، وهذا التاريخ يمثل نقطة تحول في تاريخ العراق المعاصر ، لكن المخرج كان ذكياً حينما جعل مع هذا الفيديو اغنية تعني العكس تماماً من هذه الفرحة التي أصبحت نقمة على المجتمع العراقي حتى يومنا هذا ، إذ لا نزال نعاني من السنوات التي حكم بها النظام السابق .

توزعت الاشتغالات التقنية وفق مستويات وانماط مختلفة ، وهذا الاختلاف قد جاء منسجماً رغم صعوبته ، فإننا ندرك بأن السينما دائماً تسرق الممثل على خشبة المسرح ، ولأن الصورة الرقمية دائماً تكون أقوى فعلاً على خشبة المسرح ، لكننا في عرض (مارثون) وجدنا أن الممثل له حضوره الفعال من خلال أداء الممثلّين (منتظر سعدون ، أزهر إبراهيم) إضافة إلى الممثل (مهند حسين) ، وهذا التوازن الجمالي بين المسرح والسينما يحسب إلى كادر العرض.

أخيراً استطاع عرض (مارثون) أن يثير الدهشة لدى المتلقي باستخدامه الوسائط المتعددة من جهة ، والتناول الفكري للمجتمع العراقي بشكل مغاير من جهة أخرى ، وفوق هذا وذاك أنه قد تميز في توظيفه التكنولوجي باستخداماته المتنوعة للعروض السينمائية والموسيقى والإضاءة .

(*) مسرحية (مارثون) : توليف وإخراج نور الدين مازن ، انتاج كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل، عرضت على المسرح الكبير ضمن المهرجان الجامعي الأول للمسرح الطلابي يوم الأحد الموافق 20/3/2016م ، وحصلت على جائزة أفضل إخراج والجائزة الأولى للمهرجان.

—————————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – د. عامر صباح المرزوك –  المدى 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *