عرض راقص يجعل من الدوران أساساً للانعتاق من قيود الجسد / عمار المأمون

عرض “جرادة” يسعى إلى الدمج بين الثقافة الشعبيّة المراكشية وتقاليد الرقص الغربيّة، إذ تتداخل حركات المتصوفة مع انضباط راقصي الباليه.

تحرّر الخشبة المسرحيّة شاغليها من أعراف الفضاءين الخاص والعام، بوصفها مساحة للانعتاق من إيقاع الإنتاج الاقتصاديّ والهيمنة السياسيّة، لينفلت الجسد من الخيوط الرمزيّة التي تضبط حركته وكيفية انتقاله، فيتصاعد المشي والركض والقفز حدّ الأقصى، لنرى أمامنا ركضاً حدّ الإغماء، وقفزاً حدّ التحليق، ويمتدّ ذلك نحو تكوين الجسّد رمزياً بصورة جديدة عبر الدوران والتمايل والهرولة للخلف، ما يحوّل الراقص إلى موضوعة فلسفيّة لاختبار الجسد نفسه كمُنتج سياسي علني، في سبيل إعادة فهم العلاقة مع الخارج المضبوط بكاميرات المراقبة والشرطة وتحديقة الآخرين.

يستضيف مركز جورج بامبيدو عرض “جرادة” الراقص، الذي يحمل توقيع المغربيّة بشرى ويزغوين التي صممت رقصاته بالتعاون مع أربعة عشر مؤدياً من الفرقة الوطنيّة النرويجيّة للرقص المعاصر، جاعلةً من الخشبة وإيقاع أغنية “الدقة المراكشيّة” فضاء للدوران اللامتناهي، دوران لا يتوقف طوال العرض، الذي تتنوع فيه حركات الراقصين بين سعي نحو المتعالي المثاليّ وبين انتقاد لأعراف الأرضيّ وضوابطه التي “تحرّك” أجسادنا وتخلق العداوة والاختلاف بين الأفراد.

يسعى العرض إلى الدمج بين الثقافة الشعبيّة المراكشية وتقاليد الرقص الغربيّة، إذ تتداخل حركات المتصوفة مع انضباط راقصي الباليه، لنشاهد أمامنا سعيا دائماً لتحرير الجسد من قيوده الرمزيّة، ولا نقصد فقط تلك المرتبطة بتاريخ الرقص، بل التي تحضر أيضاً في الأعياد والأفراح والجلسات الصوفيّة، فالدوران الذي يتبناه العرض يُصبح تدريجياً ركضاً وهرولةً وقفزاً على أربع، ليفقد الراقصون انضباطهم متصادمين ومتدافعين، وهم يرددون عبارات يوميّة مبتذلة، وكأننا أمام محاولة لمساءلة آداب وأعراف اللياقة واللباقة الجسديّة، تلك التي يتبناها الفرد سواء كان على خشبة المسرح أو في عيد شعبي أو يمشي في الشارع.

يقتبس العرض عناصر من فضاءات مختلفة شعبية وكلاسيكية، ويحررها من سياقاتها، يتركها “تتحرك” عبر الزمن ليولد لها سياقاً جديداً

يتيح لنا ما نشاهده إعادة التفكير في سلوكياتنا اليوميّة، إذ يستعيد العرض مواقف مختلفة تفترض منا حركة ما، أو صوتا ما، ليقوم بعدها الراقصون بإعادة تكوينها دوراناً.

وهذا ما نراه مثلاً في الثياب التي تتطاير على الخشبة ويتناقلها المؤدون، هم يرمونها مراراً في الهواء ويتخلصون منها، كأن لا حقيقة إلا في الحركة وإيقاع الجسد الذي يبحث بين سكون وسكون عن لحظة يندفع فيها دون أي قيد نحو ما لا نعلمه، وكأن ما يهم هو لحظة الانفلات ذاتها، تلك التي تنصاع فيها الحركة إلى الرغبة الذاتيّة والهوى، كمن يقفز من على الرصيف ضاحكاً بينه وبين نفسه لأن أحداً لم يره، ولأنه سمح لنفسه بأن يقوم بما هو عادة محط الاستغراب أو سخرية الآخرين.

يراهن العرض على الزمن بوصفه وليد الحركة، إذ يقتبس العرض عناصر من فضاءات مختلفة شعبية وكلاسيكية، ويحررها من سياقاتها، يتركها “تتحرك” عبر الزمن ليولد لها سياقاً جديداً، كأن تتحول تدريجياً جلسة صوفيّة إلى مجرد دوران عشوائيّ لا نهائي لا يضبطه إيقاع الموسيقى، بل أنفاس الراقصين وتعبهم.

إثر ذلك يتحول الزمن إلى مساحة للاكتشاف، ويصبح التكرار وسيلة لرصد العيوب، فلا إعادة طبق الأصل، فهناك دوماً ومع كل إعادة تحريف بسيط وانزياح عن الأصل، لنرى أنفسنا نهاية أمام حركة جديدة، سببها تراكم عيوب وانحرافات أدّت مثلاً إلى دوران لا يشبه الدوران التقليديّ، وركضٍ ومشيٍ مختلفين عما نعرفه، كمن يحاول أن يلتقط يده التي تهرب منه في حركة دائريّة، أو من يحاول التقاط كل ثياب الناس وارتداءها مهرولاً، فالتكرار هنا يختلف عن ذاك الصوفي، هو لا يسعى لتقمص صورة الكُليّ المثاليّة التي لا تتغير، بل هو مراكمة لانزياحات وانحرافات تتغير إثرها طبيعة الحركة، فلا نهاية مثالية، بل سعي دائم لا يتوقف.

يمكن تحميل “الحركة” العرض معاني لا نهائيّة، خصوصاً الدوائر، سواء كانت انعتاقاً صوفياً أو انعكاساً لميكانيكيّة العصر، ويمكن أيضاً مراكمة اقتباسات وأساليب لقراءة العرض كلّ منها يجعل الدائرة و”كمالها” مركزاً له، بل ويمكن مناقشة وهمية مفهوم الحرية المثالي الذي يحاول العرض الوصول إليه، لكن يمكن تلخيص كل ذلك بما قالته مصممة العرض في لقاء معها، فهي تبحث عن وسيلة لتفسير “اللانهائيّ” بوسائل متعددة، عبر الاعتماد على ما يقدمه كل راقص والخبرة التي يمتلكها، إلى جانب توظيف الإنهاك لا بوصفه نوعاً من التعب، بل جزءا من الدوران بوصفه العنصر الأساسي للوجود.

___________

المصدر / العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *