طقوس الأبيض”.. مسرحية سورية عن بطون تدفع وقبور تبلع / لمى طيارة

المصدر / العرب / نشر محمد سامي موقع الخشبة

المخرج هاشم غزال استطاع أن يخلق في مسرحيته “طقوس الأبيض”، دلالات جديدة على خشبة المسرح تدور حول ماهية الحياة والموت وأيضا الولادة والقبر.

قُدّم على خشبتي “مسرح الحمراء”، في كل من محافظتي اللاذقية ودمشق العرض المسرحي “طقوس الأبيض”، وهي الخطوة التي بات يقوم بها المسرح القومي في سوريا مؤخرا، بنقل العروض المسرحية بين المحافظات، الأمر الذي يسمح للجمهور والمسرحيين السوريين بتبادل تلك التجارب.

عرضت مؤخرا على خشبتي “مسرح الحمراء”، في محافظتي اللاذقية ودمشق مسرحية “طقوس الأبيض”، للمخرج هاشم غزال ومن تأليف محمود أبوالعباس، وهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها الاستناد مسرحيا إلى نصوص من تأليف أبوالعباس، كما أنها ليست المرة الأولى التي يقدّم فيها عرض “طقوس الأبيض”، فلقد سبق وأن قُدّم هذا النص في الشارقة ضمن فعاليات مهرجان المسرح الخليجي في العام 2014، ونشر النص لاحقا عن دائرة الثقافة في الشارقة في العام 2017، ضمن سلسلة نصوص مسرحية، تحت عنوان “طقوس الأبيض ومسرحيات أخرى”.

ورغم مرور سنوات على كتابة النص المسرحي، بدا في العرضين الأخيرين صالحا لكل زمان، لأنه يدور حول ماهية الحياة والموت، الولادة والقبر، وكيف لا وقد أصبحت المقابر مكانا للولادة والموت معا.

وتدور أحداث المسرحية في المقبرة، حول حفار للقبور وزوجته القابلة، اللذين يعانيان قساوة الفقد لأطفالهما، ورغم ذلك، كل منهما يمثل جانبا مختلفا جدا من هذه الحياة، فحفار القبور نموذج للموت، والقابلة، النموذج الآخر للإقبال على الحياة، وهما إلى جانب ذلك، لديهما الحس الفلسفي لتفسير وتبرير كل ما يحصل لهما، فقدانهما لأطفالهما تحديدا، أو لما يحصل للآخرين من حولهما، ولديهما دوما الحلول والحجج الوافية.

وعلى الجانب الآخر من الحكاية، هناك ثلاث سيدات حوامل، في طريقهن إلى القابلة، وكل منهن تستعجل الولادة لأسبابها الخاصة، فالأولى تريدها قبل أوانها، لأنها لا تضمن لنفسها الحياة أو حتى الانتظار لرؤية ذلك الطفل بين يديها، إذ تقول في المسرحية “أريده قبل اكتماله، فما الضمانة أن يمد العمر لشهرين قادمين كي أراه”.

أما الثانية، فتريد أن تشهد القابلة على حملها الكاذب، الذي زرعته في خيالاتها ثم في بطنها، وهي التي تقول “رغم علمي بأني لست حاملا، لكني كنت أعلل نفسي بوهم الحمل كنت أفرح وأمارس لذة أن أكون أما”، حيث استحال مع هذا الوهم اللذيذ، إقناع الزوج لاحقا بأنها الشريفة التي لم تخنه يوما، وهو الرجل المسافر والعقيم أولا وأخيرا، الذي يستغل حبها ويحتفظ بحريتها، من منطلق الإسراف في الملذات، كما يقول الحفار “إننا نسرف في ملذاتنا ونعتبرها حقنا ويجوز لنا ما لا يجوز لها، فمنا من يزور قبر زوجته بعد أن تموت لا لشوق في نفسه.. بل ليتأكد أنها لن تعود إلى الحياة مرة أخرى”.

وهناك الحامل الثالثة، التي قرّرت الرحيل بعيدا بعد أن أصبحت المغادرة الحل الأمثل وسط حالة الخوف التي تعم الأرجاء، فأرادت أن تتخلص من جنينها، العقبة الوحيدة التي ستمنعها من الرحيل، إذ تقول للقابلة “لا وقت عندي، تعالي، وخلصيني.. أريد أن أسافر بعيدا عن هذه الأرض التي أذاقتنا الأمرين، كل من أعرفهم غادروا.. فلماذا بقائي؟”.

إنها الحياة كما هي على سجيتها، البعض يشتهي الطفل والآخر يتمناه وهما أو ميتا، البعض مهمته الحياة والآخر مهمته دفن الموتى، إنها بطونٌ تدفع وقبورٌ تبلع، والمذهل في الأمر، أن كل هذا يدور في أربع وعشرين ساعة كأنه الحلم، بطن تريد وليدا في شهره السابع، ورجل يملأ بطن زوجته شكا وهما وواحدة تريد الهرب من حياة إلى أخرى، فوقعت في فخ الموت.

ورغم أن العرض المسرحي كان أمينا إلى حد كبير في نقل النص الأصلي إلى الخشبة، إلاّ أنه لم يستطع المحافظة على روح ذلك النص وإيقاعه الدرامي الذي يفرض بسلاسة الانتقال من مكان إلى آخر، كما أنه وبالعودة إلى النص الأصلي يتضح أن المخرج قام بحذف الكثير من مقاطع النص الشعرية والصوفية، أو حتى الدينية، واستبدلها بعبور سريع لراقصين أو مؤدين صوتيا، كما حذف كل المقاطع التي تضم المجاميع وحواراتها، التي أرادها نص المؤلف إغناء للعرض وتعميقا للحالة النفسية التي تلاحق أبطال العمل، وربما يكون الاستغناء عنها اضطراريا، لأسباب إنتاجية بحتة، أو فنية، وربما وجد المخرج فيها إضافة لا ضرر من الاستغناء عنها، لتبقى كل الاحتمالات واردة.

ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن المخرج استطاع رغم كل ما سبق أن يخلق دلالات جديدة على الخشبة، على قلتها أغنت النص، وذلك حين قرر الحفار وزوجته القابلة تبني طفل السيدة التي فارقت الحياة، فحوّل جزءا من هذه المقبرة إلى مكان صالح للحياة، فالتابوت ملاذ الحفار، الذي كان يرتمي فيه طيلة زمن العرض، ويجري المباحثات عليه، تحوّل إلى مقعد ستدبّ فيه الحياة لاحقا، كما أن أداء الممثلين وملابسهم وحركتهم على الخشبة كانت على مستوى عال جدا من حيث الإحساس، وهو أمر جاء لصالح المخرج ولصالح العرض بمجمله الذي جسّد بطولته كل من رغداء جديد، مجد يونس أحمد، وسام مهنا، مصطفى جانودي، قيس زريقة، رهام التزة، نبال شريقة، وفاء غزال، عمار أشقر، نور الصباح غزال وكيتي عمار.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *