أسلبة الأداء في «سكان الطابق الأرضي» وإعادة تشكيل أفق انتظار المتفرج – د. الزهرة براهيم

 

أسلبة الأداء في «سكان الطابق الأرضي» وإعادة تشكيل أفق انتظار المتفرج – د. الزهرة براهيم
قدمت فرقة الريف من دولة البحرين مسرحيتها «سكان الطابق الأرضي» في مهرجان المسرح الأردني خلال دورته السادسة والعشرين، من إعداد وسينوغرافيا وإخراج هاشم العلوي، وإضاءة ماجد نور الدين، ومن تمثيل إبراهيم البيراوي، ونوف سبت، وأحمد سعيد وريم ونوس، وتعود الإضاءة إلى ماجد نور الدين.
وحسب المخرج هاشم العلوي فإنه اعتمد بشكل كبير على نص «لعبة الموت» أو كما تسمى في ترجمات أخرى «لعبة القتل» للكاتب يوجين يونسكو، وفي محاولة لتطويع النص أكثر، استخدمت حوارات قصيرة جدًا من نص «صندوق الرمل للكاتب نفسه، بالإضافة إلى نص قصير جدًا لشاعر بحريني اسمه مهدي سلمان» (محادثة مع المخرج).

وفي تنوير نحو الخيط الموصل لملاحقة احتمالات المعنى في العرض، يصرح المخرج أن «الفكرة الرئيسة في العمل هي من وحي نص يوجين يونسكو الذي يمر عبر حالات كثير من الموت الذي ينتشر في المدينة كنتاج لوباء ما، ولا تُعْرَف ماهية هذا الوباء ولا أسبابه» (نفسه). وما من شك أن إمساكنا على معطى بهذه الخصوصية، يمنح قارئ المنجَز الركحي خيطا رفيعا لمقاربة خطاب المسرحية في أبعادها الفكرية ذات المنحى الفلسفي، وفي أبعادها الجمالية المستلهمة من واحد أو متعدد الأنساق التنظيرية التي استرفد منها هذه التجربه المسرحية رؤاها وأدواتها، كما أن تفكيك الخطاب القائم على توليفة مركبة يضعنا وجهًا لوجه أمام خيارات بعينها لفهم التناصات القائمة بين نصي يونسكو من جهة، ونص مهدي سلمان، من جهة ثانية، بما يشكل منظور مُعِدِّ النص -الذي هو نفسه مخرج العرض- وبما يثير من أسئلة حول منتقَياته الجمالية في عرض يحول قضية الإنسان المطلقة وهي الموت.

تُشعرنا مساحة اللعب، في المسرح الدائري بالمسرح الملكي بالعاصمة الأردنية عمان، المتفرج، منذ ولوجنا مساحة الجمهور، أن هذا الفراغ الذي يمنحنا انطباعًا بالارتياح يخبئ في بياضه الخلفي -الذي تتوسطه قطعة واحدة من الديكور، وهي عبارة عن صندوق غريب- شيئًا مريبًا يُنبئ بحدوث أمر ما.
لا مراء أن العرض شد أنفاسنا منذ البداية حتى النهاية، ولم يكن لحواسنا مجال أن يفلت منها زمام تركيزها ولو لثانية، لأن الأداء المؤسلبThe stylised performance المرتكز أساسًا على تشكيلات كوريغرافية مركبة لا يكاد يمهل البصر والسمع للالتقاط، ثم تجميع طاقة المؤدين المتفجرة في تناغم رهيب عبر حركاتهم وإشاراتهم وإيماءاتهم وشهيقهم وزفيرهم… من أجل تنظيم اشتغالات الخيال ليبني متصوراته حول توصيف عوالم «سكان الطابق الأرضي»، في تصادمها وعنفها ويأسها مقابل تعلقها بخيوط أمل واهية في للحياة وللحب ولما يحتمل وجوده من أشياء جميلة لدى سكان الطوابق العلوية بعيدًا عن الظلمة والرطوبة والهشاشة والامحاء الذي ينخر كيانات هي في الأصل لا كيانات… أشباح أو ظلال أو ذكرى لشكل كائن وُجد بالفعل مكرها للرقص على إيقاع الحياة والموت… الموت والحياة… إن أفق انتظار المتفرج يمر عبر متوالية نقض وبناء، وقد تواصل سيروراتها حتى بعد انتهاء العرض ومغادرة بناية المسرح…
يصعب وضع اليد على خيط ناظم لفكرة العرض التي تتشذَّرُ بلا رحمة حتى لتصل مطاردة المعنى إلى التيه والعمه، ولا ريب أن تشييد التركيبة الدرامية اختارت هذه الترسيمة القائمة على التقابل، وعلى البناء المفاجئ والنقض الفوري للحالات والمواقف إلى درجة تختلط التفاصيل وتتداخل المنظورات. ويمكن القول إن هذا الاختيار قد يشكل مجازفة بالخطاب أو اللاخطاب الذي يفترض أن يتضمنه عرض مسرحي يعرف طبيعة جمهوره ومستويات التلقي لديه.
بالعودة إلى «صندوق الأسرار» أو«صندوق العجب» الذي شغَّله المخرج-السينوغراف برمزية عالية، فإن مبدأ الاقتصاد السيميائي للعلامات الذي يلح عليه كير إيلام، ضاعف المستويات الاستعارية في العرض، بما يشحن انتظارات المتفرج وهو يعيد تشكيل لوحات الأداء بتأويلات لا حد لانزياحاتها.
وكأن الممثلين جاؤونا للتو من مختبرات جيرزي غروتوفسكي، أو من معهد أوجينيو باربا، حيث لا شيء سوى تمرينات الجسد واستغوار طاقاته ومُقَدَّراته من عنف الحركة وخفتها ومرونتها إلى رجَّة الصوت ونبرته وطبقاته… فما زال العرق المتصبب من أجساد نوف وريم وأحمد وإبراهيم، والحرارة المشتعلة في أنفاسهم يستحق عودة هادئة للتأمل وتفكيك مفردات منجزهم الركحي الذي يعدنا، بالنظر إلى مؤهلات مخرجه الشاب هاشم العلوي، بتحديات أكبر للتجريب المبدِع.
المصدر: د. الزهرة براهيم – باحثة مسرحية مغربية
https://www.alayam.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش