رائد المسرح الشعرى – بهاء جاهين

 

كشاعر إحيائي, ظلت محاكاة النماذج الكلاسيكية الكبرى شُغل شوقى الشاغل, فى شعره المسرحيّ كما فى شعره الغنائي. وبنفس البراعة, استطاع شوقى فى الحالتين أن يأتى بشعر له مذاقه الخاص وشخصيته الفنية التى تحمل بصمة شوقى رغم أنه محاكاة, ولا يقلّ من حيث القيمة الشعرية عن الأصل الذى يحاكيه, بل ربما تفوّق فى بعض الحالات.

فكما عارض شوقى الحُصرى القيروانى صاحب «يا ليلُ الصبُّ متى غدهُ» فأبدع فى محاكاة قال مطلعها: «مضناك جفاه مرقدُهُ/ وبكاه ورحّم عُوّدهُ».. فإنه فى مسرحيته «مجنون ليلي» يستحضر روح شعر قيس بن الملوّحَ, فيأتى بلؤلؤة لا تقل عن لآلئ قيس, فيها من روح الشاعر العذريّ, لكنها لؤلؤة أصلية وليست تقليداً. وقراء شوقى ومحبوه لا يمكن أن ينسوا – على سبيل المثال – المونولوج الشعرى الدرامى الذى يفتتح به قيس حضوره على خشبة المسرح, حين أنطقه شوقى بصيغته الخاصة من شعر المجنون, فجاء بشوقيات أصيلة مستوحاة من روح قيس بن الملوح:

سجا الليلُ حتى هاج لى الشعرَ والهوي

وما البيدُ إلا الليلُ والشعرُ والحُبُّ

ملأتُ سماء البيدِ عشقاً وأرضَها

وحُمِّلتُ وحدى ذلك العشقَ يا ربُّ

أَلَمَّ على أبيات ليلَى بيَ الهوي

وما غير أشواقى دليلٌ ولا ركْبُ

وباتت خيامى خطوةً من خيامها

فلم يشفِنى منها جوارٌ ولا قُربُ

إذا طاف قلبى حولها جُنَّ شوقُهُ

كذلك يُطغى الغُلّةَ المنهلُ العذبُ

وكما نسج على منواله الشعرى الخاص مديحَه النبوى الشهير «نهج البُردة», الذى يسير على نهج الكلاسيكية الكبرى فى هذا المضمار وهى «بُردة البوصيري», فى الشوقية التى تبدأ بهذا المطلع المبُدع المدهش: ريمٌ على القاع بين البان والعلمِ/ أحَلّ سفْك دمى فى الأشهر الحُرُمِ.. نجدُ شوقى فى مسرحيته «مصرع كليوباترا» يستهدى بإحدى كلاسيكيات المسرح الشعرى العالمى التى عالجت نفس الموضوع, وهى «أنطونيو وكليوباترا» لويليام شكسبير, فلا تبدو قامته الشعرية ولا المسرحية متضائلةً إلى جانب أعظم شاعر مسرحى فى التاريخ, ولا تحس وأنت تقرأ «مصرع كليوباترا» – وكنتَ قرأتَ العملَ الأقدم الذى عالج نفس الموضوع – أنك بإزاء تقليد متواضع القيمة لمسرحية شكسبير. فأصالة شوقى تنقذه دائما,ً رغم أنه شاعر إحيائى تقوم فلسفته الفنية على استلهام نماذج الشعر العظيم, سواء فى المسرح أو فى مجال القصيدة الغنائية.

كتب شوقى معظم أعماله المسرحية بين عامى 1927 و1932 [عام وفاته]. وهو دائماً يستوحى فى مسرحه إما تاريخ مصر والعرب, أو التراث الشعرى العربى القديم. تنتمى للحالة الأولى – إلى جانب «مصرع كليوباترا» – مسرحياته «قمبيز» و«أميرة الأندلس» ؛ وللفئة الثانية – بالإضافة لمجنون ليلى – مسرحية «عنترة».

ويقول د. محمد مندور عن مسرحيات شوقى التاريخية إنها تستوحى دائماً مراحل انكسار قومي, فمثلاً مصرع كليوباترا تصف زوال استقلال مصر فى نهاية العصر البطلمى ووقوعها فى يد الرومان؛ وتؤرخ مسرحية «قمبيز» لوقوعها فى يد الفرس, بينما تتناول «أميرة الأندلس» انهيار حكم أمراء الطوائف فى إسبانيا. وربما كان هذا المزاج القاتم له ما يبرره, إذ كتب شوقى أعماله المسرحية ومصر تحت الاحتلال الإنجليزي.

أما آخر ما كتب شوقى للمسرح وهو «الست هدى», فهى مسرحية فريدة لا ينطبق عليها أيٌّ مما قلنا وقال غيرنا عن مسرح شوقى الشعري. فهى مسرحية كوميدية, تدور أحداثها فى حى الحنفى المجاور للسيدة زينب فى القاهرة التى عرفها وعاش فيها شوقي. وشخصياتها من عامة المصريين المنتمين للطبقة الوسطي, وموضوعها مغامرات سيدة مزواجة تزوجت عشر مرات, من أزواج كلهم طامعون فى مالها, إذ تمتلك ثلاثين فداناً؛ والمقلب الذى أخذه زوجها العاشر, الذى اكتشف بعد أن ماتت – أخيراً – أنها وهبت ووقفت كل ما تمتلك لآخرين. المسرحية ملهاة ظريفة؛ أما أكثر ما فيها إثارة للضحك, أن أحداثها اليومية العادية, وثرثرات النساء فيها, والمشاجرات الزوجية, كلها مكتوبة شعراً عمودياً كلاسيكياً, بلغة لا تخلو من فصاحة شوقى المعتادة وجزالة الشعر القديم, رغم أن شوقى طعّمها ببعض المفردات المستمدة من لغة الحديث اليومى! وما أكثر الحيل الفنية فى جعبة المبدع العظيم!

 

http://www.ahram.org.eg

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *