دراما الوجع الإنساني بلا رتوش/ناجية السميري

ثمانية ركاب يتزاحمون في اتجاه مركب، يقف عليها «ريّس» يكنى «اللص»، حركاتهم تنم عن خوف وأصواتهم تتعجل الرحيل إلى الضفة الأخرى، لحظات فقط يملي إثرها «الريّس» أوامره: ممنوع استعمال الهاتف ولا سبيل إلى التراجع… ثلاثة تونسيين، شاب وفتاة ومثلي، ثلاثة أفارقة رجل وزوجته التي تحضن رضيعا،  سورية في حدود الخمسين ولبنانية شابة…مجموعة لاجئين يفرّقهم الحدّ الجغرافي، وتجمعهم معاناة إنسانية عميقة، يتقاسمون تجربة/ مغامرة الهروب والحلم. الهروب من بلاد نخرتها الحرب والسياسة أو ربما من مجتمع ظالم لا يمنح فرصا متكافئة للعيش الكريم، والحلم بواقع لا يسحقهم ولا يكسر نفسياتهم المتعبة المعطوبة.
في الرّحلة تتلاصق الأجساد وتتعالى الأمواج كما لو أنها تعلن رفضها تقدّم هذا القارب الذي تخيّم عليه رائحة الخوف والموت…رحلة قال «الريّس» أنها تدوم أربع ساعات تبدو بطول الدهر، بوح واشتباكات وخلافات تمنحها فرصة التعرف على أبطال الرحلة، مثلي يترك البلاد هاربا من إصرار العائلة على تزويجه، وجويدة المكافحة يوميا في السوق مع المنحرفين لتنفق على أسرتها، أما بيرم فهو يصر على اجتياز البحر رغم فشله في ثلاث محاولات سابقة، الشابة اللبنانية مزقت جواز سفرها وأحرقت أصابعها منتحلة الجنسية السورية أصحاب الأولوية في اللجوء إلى كندا حيث تحلم بدراسة الرقص، الزوجان الإفريقيان يحلمان بأرض تعامل البشر انطلاقا من مبدإ المساواة وتحافظ على حرمتهم الجسدية، المرأة السورية والتي ينادونها «العمة» لا رغبة لها في العيش في إيطاليا التي يعتبرها الفارون إليها جنتهم الموعودة بل هي تخوض مغامرة الموت بحثا عن ابنها لإعادته إلى سوريا التي تؤمن أنها ستعود كما كانت ولا تعلم أنه سبقها في رحلة على نفس المركب وقضى نحبه مع أكثر من أربعين مهاجرا، حقيقة تأتي على لسان «اللص» الريس الجشع في لحظة إنسانية فارقة يعترف خلالها ببشاعة الكوابيس التي تهاجمه وتمنعه من النوم تتجسد أمام عينيه كل ليلة في صورة خوف ضحاياه وجثثهم المتراكمة ورائحة الجيف التي تملأ المركب والبحر… كلّ يحكي مأساته التي هي في الواقع مأساة مجتمع بأكمله وبلد يدافع عن مشروعية الحلم وحقه في الحياة.
تقوم عاصفة مفاجئة ويتعالى صياح الركّاب، يمتلئ القارب بمياه البحر وتنطلق المعركة من أجل البقاء… هنا تتعرّى الشخصيات وتتجلّى صراعات الذات الإنسانية بين معاناتها وكفاحها وأنانيّتها وتشبّثها بالحياة… ما أشبه مصائر الراكبين بمصير المركب الذي تتلاعب به الأمواج، مركب يحمل ثقلا فوق طاقته ويوشك على الإنهيار.
تسير الأحداث بنسق درامي يتصاعد تدريجيا ويبلغ ذروته مع كل بوح يأتي على لسان إحدى شخصيات العمل، تحكي كما لو أنها تتقيأ ماضيها في اللج المالح حيث الليل يزداد سوادا مع تقدم المركب وضياعه في المحيط… هناك حيث الماء يمحو كل شيء إلا الخوف.
«الشقف» هو العنوان و(رادو) العنوان الفرنسي ويعني «الطوف» أو ليس «الطوف» سوى رحلة الإنسان الأبدية بين الحياة والموت؟ رحلة أولئك اللاجئين من الموت لمواجهة رحلة أخرى… تنتهي المسرحية بضوء يسلّط على المركب وصوت المروحية يدوي فوق رؤوس الركاب الذين يهرعون منتشرين في زوايا المركب أو في عمق البحر.
هذه تفاصيل مسرحية «الشقف» التي افتتحت مساء الجمعة 18 نوفمبر فعاليات الدورة الثامنة عشرة لأيام قرطاج المسرحية بقاعة «الريو» بحضور ضيوف من جنسيات مختلفة فنانون ومثقفون ومسرحيون وإعلاميون جاؤوا لمواكبة هذا العرض الأول لعمل من إنتاج مسرح الحمراء والمركز العربي الافريقي وMTSpace كندا بالاشتراك مع أيام قرطاج المسرحية…دراماتوجيا وكتابة سيرين قنون ومجــدي أبو مطـــر وسعاد بن سليمان وإخراج مجدي أبو مطر وجمع عددا من خريجي المركز العربي الإفريقي للتكوين والبحوث المسرحية.
«الشقف» مشروع حَلمَ به الراحل عزالدين قنون قبل وفاته وأراده عملا فنّيا يروي انطلاقا من مأساة المهاجرين غير الشرعيّين (العرب والأفارقة) الذين يعبرون البحر المتوسط في اتجاه أوروبا ويجسّد ما يعيشونه من معاناة في بلدانهم تدفعهم إلى خوض مغامرة هجرة الموت كما يطرح ما يواجهه الإنسان بصفة عامّة من صراعات داخليّة تتأرجح بين الحياة والموت والحلم والواقع والبحث عن الذات.
«الشقف» عمل يستجيب للأهداف التي تأسست من أجلها أيام قرطاج المسرحية حيث جاء بإمضاء أسماء تونسية وعربية وإفريقية حملت أوجاع الإنسان وأحلامه وهمومه وتطلعات واقعه وماضيه، عمل يكرّم الإنسان ويدافع عن كرامته.
«الشقف» عمل يمكن أن نصبغ عليه أكثر من صفة فهو تجسيد لحلم الراحل عز الدين قنون، وتكريم المهرجان لروحه المبدعة، وهو أيضا هدية الإبنة للأب، سيرين قنون التي حملت لواء مسرح الحمراء من بعده، وهو أيضا تجسيد لاستمرارية الجيل الشاب الذي تربى أمام عيني الراحل على خشبة مسرح سكنه وسكن في رحابه.
كل الذين عرفوا عز الدين قنون وشاهدوا أعماله وتابعوا مساء الجمعة مسرحية «الشقف»/حلمه الأخير من المؤكد أنهم أحسوا بروحه تخيّم على تفاصيل هذا العمل بكل ما جاء فيه من جمالية الطرح والأداء وعمق النص وبلاغة الحوار، عمل أبدع فريق التمثيل في تجسيد شخصياته إلى حدّ الدهشة، كلّ تفوق على نفسه في استحضار الألم وتلبس الشخصية بما تطلبه من أدوات، على امتداد ساعة وربع تقتضي الأحداث أن يتواجدوا بنفس الدائرة (مجسم المركب) وهو ما تطلب قدرة جسدية وقوة حضور لشد المتلقي حتى آخر نفس… مسرحية رغم كم الوجع الإنساني الذي حملته شكّلت عنوانا عريضا في هذه الدورة التي أعلنت عن انطلاقتها كأجمل ما يكون المسرح.

المصدر/ اليوم

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *