(دراسة مقارنة) الأبعاد الجوهرية للقضية الفلسطينية في مسرح شكسبير وباكثير والمدني/ هايل المذابي

 

 

الأبعاد الجوهرية للقضية الفلسطينية في: مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) ومسرحية باكثير ( شايلوك الجديد)  ومسرحية المدني (حنبعل )

( دراسة مقارنة )*

 

هايل علي المذابي

 

مقدمة

 

 

تستند هذه الدراسة المقارنة بين مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير، ومسرحية (شايلوك الجديد ) لعلي أحمد باكثير، ومسرحية (حنبعل) لتوفيق أحمد المدني، على أساس موضوعي هو ” القضية الفلسطينية ” وتتناول الأبعاد الجوهرية لها في هذه المسرحيات.

 

والدراسة المقارنة بين (تاجر البندقية) و(شايلوك الجديد) ذات علاقة مؤثر ومتأثر، وناقل ومنقول عنه، ودال ومدلول، وهي حين نضم مسرحية (حنبعل) إلى المسرحيتين على أساس تساوي (حنبعل) مع (تاجر البندقية) و(شايلوك الجديد) في استخدامها للقناع أو للاستعارة التاريخية بعيداً عن علاقة التأثر والتأثير فنبين نقاط الالتقاء بينها وهو البعد الجوهري لـ ” القضية الفلسطينية ” كمدلولٍ لدال هو لؤم اليهود وغدرهم وخيانتهم وأطماعهم المرتبطة برغبة الإنتقام، وكذلك الجماعة الوظيفية للشخصية اليهودية.

 

وتهدف الدراسة إلى البعد الإنساني والجوهري للقضية الفلسطينية ويتجسد هذا من خلال إبراز التقارب بين الغايات القصوى التي رمت إليها المسرحيات كقضايا قومية والتي تتباين من حيث وسائل التعبير واللغة بيد أنها تتآلف من حيث الغاية على أساس أن الأدب المقارن هو في الأصل تاريخ للعلاقات المتبادلة بين الآداب وللصلات والمشابهات المتجاوزة للحدود اللغوية والجغرافية والمعرفية.

 

 

 

مهاد

 

إن الأبعاد الجوهرية للقضية الفلسطينية في مسرحية تاجر البندقية لا تتضح ولا تتكشف إلا من خلال ما توضحه مسرحية شايلوك الجديد مثلما تتجلى في الإشارة للؤم اليهود وغدرهم وخيانتهم في مسرحية حنبعل، والأدب عموماً حين يستخدم الأقنعة التاريخية يستخدمها لخدمة قضية يتبنى إيضاحها والتحذير من مغبات التهاون معها وتعاظم خطرها، وافتراض الحلول لها، فيكون القناع منفذاً للبوح عما يعجز الواقع على استساغته أو الانتباه له من خلال الأشكال الأدبية الأخرى.

 

حين نتساءل لماذا يتوارى الكاتب خلف قناع تاريخي ؟ سنجد بلا ريب أنه يفعل هذا من أجل التعبير عن حادثة أو لطرح وجهة نظر، وعليه فمن حقه أن ينسب إلى هذه الشخصيات التاريخية التي كانت رميماً  ( من الأقوال والأفعال ما لم يسجله التاريخ وما لا يتعارض مع وقائعه المعروفة لكي يبرز معالم تلك الشخصية كما يدركها هو وكما يريد أن ينقلها على المشاهد بتفسير جديد ورؤية متفردة، يلتفت إلى بعض الوقائع دون بعض من ناحية، ويضيف وقائع مبتكرة من ناحية ثانية تؤكد هذا التفسير وتلك الرؤية) (1)، ذلك أن الغاية من استحضار التاريخ هو توافقه مع رؤيته الفكرية للنص وتلائمه مع مقتضى الحال، أما تتبع الأحداث وتمحيص جزئيات التاريخ فمن اختصاص المؤرخين لا المبدعين.

 

واستعارة الهياكل أو استخدام الأقنعة يسوغ للكاتب النفاذ – من خلال  التعدد في الأبعاد ما بين الماضي والحاضر والعام والخاص والرمز والمرموز له – إلى رؤية معاصرة، عن طريق الإيحاء بالتماثل بين هذه الظروف، وكل ظروف تشبهها في أي بيئة أخرى، فالآخرون ما هم إلا نحن ولكن في صورٍ مختلفة، وعليه ففهم الحاضر لن يتم  إلا من خلال الماضي وتقويم ما يقع اليوم قياساً على ما وقع بالأمس، ونستطيع أن نؤكد هذا بهذه المسرحيات الثلاث التي نتناولها في هذه الدراسة، إذ أن القضية الإنسانية واحدة في الماضي كــ (تاجر البندقية ) وفي الحاضر بشكل خاص وامتداد متكيف مع الرؤية المعاصرة في ( شايلوك الجديد) وعام وإنساني في ( حنبعل )، ونجد أن الاستحضار للتاريخ وشخوصه لم يكن لذاتها، فالتاريخ في هذه المسرحيات ( ليس تاريخاً وكفى بل هو الحاضر من خلال الماضي، وهو الماضي مفسراً بمنطق الحاضر، ومن ثمة تكتسب الأحداث والشخصيات في مثل هذا اللون الدرامي معاني رمزية لا يعجز المتلقي عن ربطها بالواقع ومعطياته ) (2) .

 

إن تناول مثل هذه الموضوعات التاريخية واستعارتها كأقنعة وكمنافذ للبوح، حتى ولو كانت بعيدة الصلة عن تاريخ العرب والمسلمين، له تفسير وتعليل آخر(3) وهو أن هذه الموضوعات والقوالب قد تناولتها أقلام عديدة في ثقافات ولغات مختلفة، فأضحت معروفة عالمياً، وعليه فإن تناولها بتصورات جديدة تعيد صياغة العالم فيها، وتحملها أبعاداً تتوافق وثقافة الكاتب وأمته ما من شأنه تسهيل استيعابها لدى المتلقي وفهمها واستساغتها إلى حد كبير، فتبدو مألوفة كخبز الذرة، فيكون تأثر المتلقي بهذه الصياغة الجديدة مقترناً بألفة القالب، فتترسخ في الذهن فكرتها بما فيها من قضايا تبناها الكاتب مرتبطة بمعتقدات أمته تحمل هويتها الثقافية، ومن دون أن يكون الكاتب تقريرياً فيها، بل يظهر فناناً أنيق الأحرف مجود السبك ذكي المقصد، مستساغ الفكرة ومقبولها، وأيضاً صاحب رسالة عظيمة.

 

وتؤكد هذه المسرحيات أن الماضي أشبه بقاعدة انطلاق لمعالجة مشكلة من مشكلات العصر الراهنة، فالذي حدث في الماضي له علاقة وتأثير في الحاضر والمستقبل على أساس أن الماضي هو الأب الشرعي – إن جاز التعبير – للحاضر، وإنسان اليوم بفكرهِ وخبراتهِ، هو ثمرة أفكار وتجارب الإنسان منذ الخليقة.

ونبدأ المقارنة بين هذه المسرحيات ومحاولة اكتشاف نقاط الإلتقاء فيها المتعلقة بالأبعاد الجوهرية للقضية الفلسطينية  بالتعرض  للمناسبات التاريخية لكتابتها..

 

مناسبة مسرحية تاجر البندقية :

تمت كتابة هذه المسرحية ما بين عامي 1596 و 1598. أي في عهد الملكة إليزابيث , آخر ملوك إنجلترا من آل تيودور. وفي هذا العصر كان إجلاء اليهود من اوروبا في أوجه، لما أحدثوه من مشاكل شعبوية داخل اوروبا. وفي ظل هذا الوضع تم أمر جميع اليهود بالبقاء في ملاجئ محددة ضمن الدولة البريطانية، وأن يضع جميعهم قبعاتٍ حمراء على رؤوسهم في حال خروجهم إلى العلن، لكي يُعرفوا بأنهم يهود. بلغ الاضطهاد أن يتم حجزهم في هذه الملاجئ, بينما يُجبر اليهود على دفع أُجرة النصارى , سجّانيهم، مقابل ما يقومون به من حراستهم.

وقد كانت البندقية مدينةً استثماريةً تجاريةً بامتياز. لذا اهتمت بالاستثمار الأجنبي في اراضيها, سواءً من اليهود أم غيرهم, ما جعل السلطة هناك, تُقر مبدأ الربا المحرم في النصرانية, لكي تُنعش اقتصادها أكثر فأكثر. ما جعلها موطناً للعديد من المستثمرين اليهود.

وفي هذه الأثناء حدثت الحادثة التي قلبت الرأي العام في انجلترا واوروبا, باتجاه كراهيةٍ أكثر ضد اليهود. كانت هذه الحادثة هي محاكمة “رودريجو لوبيز”، وهو طبيب الملكة اليزابيث، وهو يهودي الأصل, أعلن نصرانيته. تم اتهامه بالخيانة العظمى, وتدبير مكيدةٍ تُفضي إلى دس السم في طعام الملكة اليزابيث. وكانت النتيجة بكل تأكيد، الإعدام.

حدثت هذه الحادثة عام 1594, ما جعلها قضية رأي عام في ذلك الوقت. وألهمت قصة لوبيز العديد من الكتاب أمثال كريستوفر مارلو, والذي ألّف كتابه “يهودي مالطا”، وويليام شكسبير في مسرحيته “تاجر البندقية” أو “يهودي البندقية”.

وكانت صورة اليهودي في المسرحيتين سوداء مُظلمة.

 

  • مناسبة مسرحية شايلوك الجديد :

يقول باكثير في كتابه فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية أنه قبل أن يكتب مسرحية شيلوك الجديد سنة 1945 كان يتابع باهتمام ما يكتب عن فلسطين في الصحف والكتب العالمية وما يقال عنها في إذاعات وتصريحات زعماء الغرب إلى أن حدث ذات يوم أن وقعت عيناه على خبر يفيد أن الزعيم الصهيوني جابوتنسكي خطب مرة في مجلس العموم البريطاني فضرب المنضدة بيده وهو يقول أعطونا رطل اللحم لن ننزل أبدا عن رطل اللحم مشيرا بذلك إلى الوطن القومي لليهود الذي تضمنه وعد بلفور، ووجد باكثير في هذه العبارة ضالته المنشودة، وقال لنفسه في ذلك الحين هذه الكلمة حجة على الصهيونية لا لها، وسأتخذها كفكرة أساسية لمسرحيتي، وبالفعل وجد في مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) الهيكل الذي يمكن أن يكسوه لحما عربيا، فإذا به ينطق بالنبوءة ويصرخ بالحقيقة قبل وقوعها.(4)

وقد نشرت مسرحية شيلوك الجديد عام 1945 وهي مسرحيتان في كتاب واحد الأولى بعنوان المشكلة والثانية بعنوان الحل وكانت هذه المسرحية نتيجة طبيعية لاهتمامه العميق بمأساة العرب والمسلمين التي أخذت بمجامع قلبه وأسرت لبه لسنوات طوال وقد ترجم باكثير مسرحيته السياسية المهمة شيلوك الجديد إلى اللغة الإنجليزية.

– وهكذا نجد الحس السياسي لباكثير يقوده إلى التنبؤ بنكبة فلسطين قبل حدوثها بثلاث سنوات وتمثل هذا في مسرحيته (شيلوك الجديد) التي كتبها سنة 1944م تنبأ فيها بأن الحل الوحيد أمام العرب هو فرض الحصار الاقتصادي على هذه الدولة الدخيلة حتى تختنق وتموت.

ويعلل باكثير عدم تحقق هذا الجزء من نبوءته بقوله: (.. لأن الحصار الاقتصادي الذي فرضه العرب لم يكن محكماً كما ينبغي، إذ توجد فيه فجوات من حدود بعض الدول العربية التي يأتمر حكامها بأوامر الاستعمار والصهيونية).

 

  • مناسبة مسرحية حنبعل :

نشأ المسرح الجزائري في العشرينات من القرن الماضي في ظلال الحركة الوطنية، رافقته خصيصة المقاومة، وطبعت مسيرته، وتشرب من ينابيعها، وامتزج بتطلعاتها المقاومة للاستعمار، وتناغمت هذه النشأة مع حضور بارز للقضية الفلسطينية، احتلتها منذ البدايات التكوينية له، فكان منذ البداية مسرحا مناهضا لكل أشكال الاستعباد و الاستغلال، وتأثر المسرح الجزائري  كثيرا بتجربة المقاومة و الثورة على الاستعمار، فكان مسرحا تحرريا مناصرا لقضايا التحرر في العالم، فلم يقتصر على ما يبتغيه هو من تحرر، بل استغل كل سانحة للإشارة إلى القضية الفلسطينية، من قريب أو من بعيد، فجاءت الكثير من الاعمال المسرحية لتؤكد هذا، وكانت على رأسها مسرحية “حنبعل ” للكاتب ( المدني، أحمد توفيق ). وقد كتبت هذه المسرحية وقدمت على الركح سنة 1949م عقب حدوث نكبة فلسطين  1948م.

 

 

 

إن استحضار هذه المناسبات للمسرحيات يقودنا إلى فكرة جوهرية مشتركة وهي ” القضية الفلسطينية ” كمدلول يدل عليه دال مشترك في المسرحيات وهو أطماع اليهود التي ليس لها حدود والمرتبطة برغبة الانتقام التي تسكنهم ثم الأمر الآخر وهو الشخصية اليهودية والجماعة الوظيفية وسنتناولهما كلاً على حدة.

 

أولاً / الشخصية اليهودية والأطماع المرتبطة برغبة الانتقام :

كان شكسبير دقيقا في استقراء شخصية اليهودي في مستهل العصور الحديثة وكيفية تمكن شايلوك من اقتناص الفرصة لتفريغ احقاده وينفس عن كراهيته القديمة وضغينته الحبيسة عاكسا عبر شخصية ـ شايلوك ـ المشاعر العامة في مجتمعه وعصره إزاء شخصية اليهودي كانز الاموال والمرابي الجشع والذي يمثل نموذجاً لليهودي الثري الذي هو في أعلى الهرم الاجتماعي يستغل حاجة البرجوازيين والبرجوازيين الصغار الى المال وهذه هي الصورة العامة للمرابي اليهودي في المجتمعات اليهودية فيقرضهم مقابل فوائد ورهونات و صكوك وضمانات تصل الى حد اقتطاع جزء من لحم اجسادهم اذا لم يستطيعوا الوفاء بالدين ويوضح شكسبير للقراء أن حقد اليهودي وتعطشه للدم والثأر والانتقام اكبر بكثير من تعلقه بالمال.

وشخصية اليهودي في العصور الوسطى كانت تمثل للأوربيين ازعاجا شديدا بسبب صفاته المقيتة وشخصية اليهودي في القصص والحكايات والخرافات الشعبية شيئا يجلب العار وقد حيكت حول شخصية اليهودي مختلف الاساطير التي اجمعت على ابراز صفات البخل والغدر وتعطشه لسفك الدماء والحاق الاذى بالآخرين والتخريب والدمار. وظهر ذلك بوضوح في اسطورة اليهودي الشبح الذي يتصيد مع كلابه الفلاحين والبسطاء بين فترة وأخرى في غابات اوروبا فقد جعله الفرنسيون يقطن في غابة فونتين بلو و في الغابة السوداء بجرمانيا وفي غابة وندسور الانجليزية وهو شبح يظهر بين الحين والآخر ليسبب الموت للحيوانات والوباء والأمراض للناس الذين اطلقوا عليه اسماء متعددة مثل ( يوتاديوس) أو ما يعني قاتل الإله باللاتينية.. وتوجت شخصية اليهودي هذه في الاسطورة الايطالية النمساوية عما يسمى بألفية الصقيع وهي اسطورة تحكي لنا عن كيفية ضمور صناعة النبيذ في المناطق الجنوبية من جبال الألب بسبب الرياح الباردة التي سببها ظهوره و استمرت لمدة ألف عام وهي اسطورة ترمز الى ان ظهور اليهودي في أي مكان مثله مثل البرد القارس لمدة ألف عام يقتل كل حي ولا يترك خلفه إلا الخراب والدمار، وهي أساطير تعكس في رمزيتها إلى جانب عشرات غيرها الكيان المغلق لليهودي ودوره التخريبي في ممارسة الربا، بحيث جعل منه في الذاكرة الشعبية لأمم القارة الاوروبية شبحا متوحشا وموتا باردا وهي صورة يسهل توظيفها السياسي مع كل تأويل بسيط لأحداث هي بحد ذاتها عادية وطبيعية.

 

أما فكرة باكثير في مسرحية شيلوك الجديد هي أنه لا يمكن أن تقوم لليهود دولة في فلسطين  العربية دون أن يسيل الدم من الشرق العربي كله وذلك مثل رطل اللحم الذي اشترطه المرابي شيلوك في مسرحية شكسبير تاجر البندقية على أنطونيو شرط أن لا يسيل دمه ويموت وكما أن القوانين الإنسانية تمنع شيلوك من تحقيق هذا الشرط رغم موافقة انطونيو عليه وتوقيعه صك العقد فإنه أيضا يستحيل تنفيذ وعد بلفور في مسرحية باكثير لسببين أولهما أنه يخالف القوانين الإنسانية بإقراره إبادة شعب بأكمله لحساب أقلية إرهابية وثانيهما أنه وعد أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق والخلاف بين شكسبير وباكثير في عمليهما أن انطونيو يملك أن يكتب الصك على نفسه.

والموضوع بهذا الشكل استعاره باكثير من شكسبير واعتمد فيه على أوجه التشابه بين القضيتين بوجه عام وفي بعض التفصيلات وتنتهي مسرحية باكثير ببطلان دعاوي الصهيونية كما بطلت دعاوي المرابي شيلوك في مسرحية شكسبير وهنا يتضح البعد الجوهري للقضية الفلسطينية.(5)

على أنه يجدر بنا أن نذكر أن باكثير أعطى لقضية فلسطين اهتماماً بالغاً لاعتباره إياها قضية العرب والمسلمين في كل مكان. وكان الناقد سيد قطب أول من تنبه لأهمية الرؤية السياسية في مسرح باكثير وكتب مقالاً في مجلة (الرسالة) في 21 يناير 1946م عدد 655 يقول فيه: (مسرحية – شيلوك الجديد – عمل أدبي يجيء في إبانه ليلقي على قضية فلسطين ضوءً منيراً كشافاً وليصورها على حقيقتها التاريخية والواقعية وليرسم الحل الناجح لها، وهو الحل الذي اهتدت إليه الجامعة العربية بعد شهر من ظهور المسرحية وحسب المؤلف – وهو فرد – أن يلتقي في تفكيره مع أبرز رجال الجامعة العربية في حل قضية فلسطين).

 

وانتقالاً إلى مسرحية حنبعل والتي كانت من طلائع الأعمال المسرحية الجزائرية وجاءت للتعبير عن الشعور الوطني المندد بموقف اليهود الداعم للاستعمار الفرنسي للجزائر، والشعور القومي تجاه نكبة فلسطين سنة 1948م وفيه اشترك المدني مع باكثير ومن قبله شكسبير في مسرحيتيهما أي (التنديد بموقف اليهود والتعبير عن لؤمهم وغدرهم وأطماعهم )، ونسوق كمثال على تلك الأطماع ورغبة الانتقام التي لم ولن ولا تتغير لا بتغير زمان أو مكان هذا المقطع من المسرحية تأكيداً على هذه الفكرة الجوهرية المشتركة حيث ينبه البطل ( حنبعل ) الملك ( انطيخوس ) ملك سوريا إلى خطر اليهود و دسائسهم فينصحه قائلا:

( حنبعل : لكن لا تنسوا يا مولاي أن خطرا هائلا يترقبكم من جهة الجنوب. فاليهود هناك يتربصون بكم الدوائر، و إنهم لأصحاب مطامع ليس لها حد، ثم إنهم لا ينسون تأديبك لمملكة يهوذا، و بطشك بجندها. فإذا ما بلغتهم أنباء هذه الهزيمة، بادروا إلى الانتقاض، و لم يتورعوا عن مهاجمة المملكة من خلف، فأرسلوا بفرقة القائد عصام التي تحرس بلاد الشام، لتضرب أوتادها بأرض يهوذا، و اعلموا أنه لا راحة لبلاد الشام و بلاد العرب معا، إلا متى وقع التخلص من مملكة يهوذا، التي تقف حجر عثرة في الطريق، و تفصل البلاد شطرين.)(6)

 

ثانياً / الشخصية اليهودية والجماعة الوظيفية :

 

باسترجاع المشاهد السابقة في المسرحيات الثلاث واستحضار مناسباتها التاريخية، نجد أن الأدوار ذاتها للشخصية اليهودية تتكرر إما مختزلة أو مفصلة وكذلك الوظيفة المنوطة بها مع فوارق زمنية وتحولات ثقافية راعت متغيرات العصر ومزاجه، ويتبدى لنا من كل ذلك أن اليهود مثلوا ما تمليه عليهم صفتهم الوظيفية كأفراد في جماعة وظيفية اختزلت إنسانيتهم في الأدوار والوظائف التي يؤدونها فأضحوا كائنات ذات بُعدٍ واحد.

ولدى شكسبير كانوا يمثلون دور الأفراد في الجماعة الوظيفية الذين يبحثون عن كيان ” دولة ” لأجل احتوائهم واحتواء ما يقومون به من أدوار في سبيل توسع هذه الدولة، فكانت الوظائف المنوطة بهم وظائف اقتصادية لكنها توضح نوعية الاقتصاد الذي قد تقوم عليه مثل هذه الدولة ” الاقتصاد الربوي ” وهي وظيفة صارت تمثلها جماعة وظيفية في إطار كيان ودولة في مسرحية باكثير ” شايلوك الجديد” ونجدها أيضا ذاتها في سياقات ” حنبعل ” للمدني.

وقد استند الدكتور عبد الوهاب المسيري في وضعه لمصطلح الجماعات الوظيفية(7) إلى مصطلحات قريبة من علم الاجتماع، كوصف لمجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات الإنسانية، من خارجها في معظم الأحيان، أو تجندها من بين الأقليات الأثنية أو الدينية الموجودة فيها، للقيام بوظائف في الأغلب هامشية ومنحطة ودموية وارتزاقية، يحتكرونها ويتفردون بخبراتها جيلاً بعد جيل وتستحيل رؤيتهم لأنفسهم إلا من خلالها، كوظيفة يكتمل بها وجودهم وتتحقق بها ذواتهم بعيداً من أن يكون لإنسانيتهم أدنى حظ في ذلك.(8)

 

ونجد أن الوعي بهذه الجماعة الوظيفية كان حاضراً في المسرحيات الثلاث لدى شكسبير في تاجر البندقية ولدى باكثير في شايلوك الجديد ولدى المدني في حنبعل، وإنطلاقاً من شخصية شايلوك نجد أنها رمزت إلى النظام القائم على الاقتصاد الربوي لدى التجار اليهود في عصر شكسبير ولدى المنظومة الصهيونية في شايلوك الجديد وحنبعل في العصر الحديث.

كما يمثل شايلوك نفسه في تاجر البندقية لحظة دفاعه عن حقوقه في المحكمة دور المحامي الذي يؤديه كوهين في مسرحية شايلوك الجديد في سبيل انتزاع الحقوق لفائدة التوسع الصهيوني وهذا دور في الجماعة الوظيفية، ونسوق هذا المونولوج من مسرحية تاجر البندقية لنرى تأدية شايلوك الذي اختزلت فيه أدوار كثيرة للشخصية اليهودية في الجماعة الوظيفية :

أليس لليهودي عينان وأذنان؟

أليست له حواس ومشاعر وعواطف كبقية البشر؟

إذا ضربتنا ألا نبكي؟

إذا أضحكتنا ألا نضحك؟

إذا قمت بتسميمنا ألا نموت؟

وإذا أسأت إلينا.. أليس من حقنا أن ننتقم؟…(9)

ثم مروراً بزيكناخ رمز الجماعة المسلحة الدموية لتصفية المعترضين على المشروع الصهيوني والمقاومين لمخططاته، إلى راشيل التي تلعب دور المرأة الجسد في لعبة الصراع – والحديث هنا عن مسرحية شايلوك الجديد لباكثير – وهو ذاته جاء ضمنياً في سياقات حنبعل للمدني.

وإجمالاً نجد أن القضية التي تبناها شكسبير في تاجر البندقية لم تكن سطحية، فما عرف عنه غير هذا تماماً وإلا فلما طالب اليهود جراء مسرحيته هذه بقانون عقاب معاداة السامية، إنه يقودنا بها إلى ما هو أعظم وأخطر إذ أن الصراع بين اليهودية والمسيحية ظل ثابتاً عبر سنين طويلة وحتى اللحظة، فكانت القضية حاضرة في ذهن شكسبير وهو يكتب مسرحيته لحظة بلحظة، مثلما أوجبت القضية الفلسطينية وعززت من صراع العرب مع اليهود.

لقد كان مفهوم الجماعة الوظيفية لدى شكسبير مختزلاً بالكثير من  أدوارهِ في شخصية شايلوك مثلما توزعت هذه الأدوار في شايلوك الجديد لباكثير واختزلتها حنبعل في سطورها.

 

إن سائر المفاهيم التواصلية من وجهة نظر الجماعة الوظيفية تأخذ معناها من طبيعة المهمة المنوطة بالجماعة ذاتها حتى إن مفهوم “المكافأة” الذي يعتبر مفهوما تحفيزيا في أيِّ عمل إنساني من أجل المواصلة والتقدم، يصبح في تقاليد المجموعة الوظيفية مفهوما موسعا يبتدئ بـ”المال الحرام” الذي يسيل له لعاب الضعفاء، مرورا بـ”الجسد” الذي يتم تسليعه وحوسلته على حدِّ تعبير الدكتور المسيري (أي: تحويله إلى وسيلة) من خلال علاقة تعاقدية نفعية محايدة خالية من أي بعد عاطفي وإنساني، فلا مجال للغيرة أو الحب الحقيقي أو أي بعد أخلاقي؛ إذ لا مجال للصِّدق أو الإخلاص، فيتم التعامل مع المنتمي لهذه الجماعة الوظيفية “بوصفه مادة نافعة يتم التعامل معها بمقدار نفعها”(10)

إنَّه لا مجال للعواطف في عمل الشخصيات المنتمية لـ”الجماعة الوظيفية”؛ لأنَّ الأخلاق والعواطف قيم إنسانية ترفَع من معدلات انتماء الشخصية للمجتمع الإنساني وتزيد من تماسكه وانسجامه، في حين لا يطلب من عضو الجماعة الوظيفية إلا الالتزام الصارم بالوظيفية المحددة لها خالية من أي قيمة، وهذا الفصل بين الفعل والقيمة صلب الفلسفة العلمانية الصهيونية(11).

“ويتجاوز مفهوم الجماعة الوظيفية الجوانب الاقتصادية والاجتماعية المباشرة ليصل إلى الجوانب المعرفية وإلى رؤية الإنسان للكون”(12).

 

 

الخاتمة

 

ظلت القضية الفلسطينية حاضرة في ذهن ذلك الجيل الذي عاش عصور الاستعمار وعاناها والتي مر بها الوطن العربي، وعلى الرغم أن ذلك الجيل الذي عاش الاستعمار كان في أمس الحاجة إلى من يناصر قضيته التي يناضل من أجلها وهي (التحرر من الاستعمار) سوى أنه كان يعي مطلقاً بالخطر الصهيوني المحدق بفلسطين وبالعرب فلم يتوانى للحظة طيلة نضاله عن استحضار القضية الفلسطينية مستغلاً كل سانحة للإشارة إليها، كما كان وعيه كاملاً بموقف اليهود تجاه الاستعمار الذي طال الوطن العربي وعاناه، وباسترجاع للمشاهد السابقة في هذه الدراسة نخلص منها بهذه التوصيات أولها سؤال هام يهمنا طرحه وهو : مقارنةً بما قدمه السابقون في عصر الاحتلال التي عاناها العالم العربي تجاه القضية الفلسطينية في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة وعلى رأسها المسرح.. ماذا قدم جيل اليوم تجاه هذه القضية من خلال هذا الفن ؟

ونخلص من هذا باعتبار أن الإجابة معروفة إلى أهم توصية توصي بها هذه الدراسة وهي أن حاجة الوطن العربي القصوى إن كان هناك حاجة قصوى لربيع فهي حاجة لربيع فلسطيني عربي بامتياز للتحرر من ويلات اليهود وأطماعهم المرتبطة برغبات عميقة للانتقام ليس من العرب فقط ولكن من العالم أجمع..

 

 

 

 

 

 

هامش :

  • عبد القادر القط، من فنون الأدب (المسرحية)، دار النهضة العربية، ص 51.
  • محمد فتوح أحمد، في المسرح المصري المعاصر، مكتبة الشباب القاهرة 1985، ص 157.
  • عبر عن هذا باكثير في كلمة ألقاها في مهرجان الأدباء العرب السابع المنعقد في بغداد – إبريل عام 1969م بعنوان ( دور الأديب العربي في مواجهة الصهيونية والاستعمار).
  • علي أحمد باكثير، فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، القاهرة، مكتبة مصر، ط3، 1985م، ص44.
  • عقدت الأستاذة أناهيد حريري مقارنة أدبية مطولة بين مسرحيتي شيلوك الجديد لباكثير، وتاجر البندقية لشكسبير انظر: أناهيد حريري، عن مسرح علي أحمد باكثير، الرياض مكتبة الرشد 1429- 2008، ص 73- 144.
  • المدني, توفيق أحمد – مسرحية حنبعل
  • يراجع: المسيري: الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذج تفسيري جديد، القاهرة، دار الشروق، 2002م.
  • المسيري: دفاع عن الإنسان، دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، دار الشروق، ط2، 2006، ص11.
  • شكسبير، مسرحية تاجر البندقية، ص 60
  • المسيري: دفاع عن الإنسان، ص22.
  • للمزيد يراجع: ملكين يعقوب: اليهودية العلمانيَّة، ترجمة وتعليق أحمد كامل راوي، مراجعة عبدالوهاب وهب الله، مركز الدراسات الشرقية، القاهرة، 2003م.
  • المسيري: دفاع عن الإنسان، ص14.
  • * من كتاب “المسرح والإلتزام .. وقائع الملتقى العلمي للمسرح – مهرجان بيجاية للمسرح 2012)

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *