حياة غاليلي على الخشبة بعيدا عن صرامة العلم ومصطلحاته / أبو بكر العيادي

“غاليلي الميكانو” عنوان مسرحية ممتعة، تعرض على خشبة “الملكة البيضاء” بباريس، وتسرد بطريقة طريفة، بعيدة عن صرامة العلم ومصطلحاته، حياة رجل استطاع أن يُحدث قطيعة مع العالم القديم ونقلة نوعية لا في تاريخ العلوم وحده، بل في تاريخ الفكر الإنساني.

غاليلي الميكانو” عرض مسرحي من تأليف الإيطالي ماركو باوليني وإخراج غلوريا باريس، ينهض به ممثل وحيد هو جان أليبير، ويسرد الحياة المضطربة لغاليليو غاليلي (1564-1642) الفلكي والفيلسوف والفيزيائي الإيطالي، هذا العالم العبقري الذي اخترع المحرار والمنظار الفلكي، وجعل الفيزياء علما تجريبيا.

ولكن اسمه ارتبط بنشره نظرية عالم فلكي آخر هو البولندي كوبرنيكوس (1473-1543) عن مركزية الشمس واعتبار الأرض جرما يدور في فلكه، مثل أجرام أخرى كثيرة، ودفاعه عنها على أسس فيزيائية، حيث أثبت خطأ نظرية أرسطو حول الحركة باستعمال “التكنولوجيا الحديثة” التي ابتكرها أي التلسكوب، وتهافت النظريات اليونانية القديمة عن مركزية الأرض.

ورغم أن البابا أوربان الثامن أعجب ببراهين غاليلي على دوران الأرض حول الشمس، فإن الكنيسة واجهته بشدة، لأن ذلك يخالف تفسير فقهائها لبعض الآيات التوراتية، ولو أن بعض المؤرخين يعزون التشدّد إلى الصراع السياسي في ذلك الوقت، وهو صراع تزامن مع صعود البروتستانتية. وحوكم غاليلي أمام رجال الدين واضطر إلى التراجع والقول إن الأرض لا تدور حول الشمس، مضيفا وهو يوليهم ظهره: “ولكنها تدور!”.

هذا العرض الذي يقدم لأول مرة في فرنسا، وتحديدا على خشبة “الملكة البيضاء” الباريسي، يتوقف عند بداية ظهور الاستدلال العلمي في الغرب، بفضل غاليلي، فقد نشر كتابا عام 1632 بعنوان “حوار حول النظامين الرئيسيين للكون” نظر فيه إلى العالم كما رآه كوبرنيكوس من قبله فأدانته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وأجبرته على إنكار موقفه كما أسلفنا.

ولم تعتذر الكنيسة عن خطئها إلاّ عام 1992، حين اعترفت على لسان البابا يوحنّا بولس الثاني أن غاليلي قام بثورة عالمية غيرت رؤيتنا للعالم بشكل جذري، مثلما غيرت المعارف وتاريخ الأفكار، واستحق عن جدارة أن تنسب إليه النجوم الأربعة التي كان يشاهدها عام 1610 وتحمل اسم “الأقمار الغاليلية”، وظل على مدار أربعة قرون رمز المعرفة التي تتحدى الأصولية الدينية، والمسلّمات الدوغمائية.

وعلى ركح تنيره أعمدة كهرباء تتلألأ في أعلاها لمبات كالنجوم، يسرد جان أليبير ثورة غاليلي على أفكار أرسطو وبطليموس التي اتخذها الفقهاء الكاثوليكيون عقيدة، على غرار داريو فو في تكريس “مسرح السرد”، فقد عمد أليبير إلى توخي البساطة والطرافة لإضاءة مسيرة ذلك العالم، مثلما عمد إلى فواصل يتوجه خلالها مباشرة إلى الجمهور، على طريقة الحكواتي في الساحات العامة، فيروي كيف أعلن غاليلي لأبويه عزمَه التخلي عن دراسة الطب، واختيار الرياضيات، قائلا، وكأنه يقرب الصورة للجمهور “كما هي الحال اليوم حين يقول أحدهم أريد أن أصبح ممثلا”.

رغم جدية الموضوع وصرامته، استطاع الممثل أن يحوله إلى فرجة ممتعة، شأنه في ذلك شأن الحكواتي وهو يروي خرافاته

ذلك أن غاليلي سئم البلاغة والسكولاستية، ذلك التيار الذي كان يجمع بين الفلسفة اليونانية والفقه المسيحي الموروث عن آباء الكنيسة والذي لم تتغير برامجه على مدى أربعة قرون، فقد كان لا يرغب في أن يصبح خطيبا، بل ميكانو (تصغير ميكانيكي)، كي يصلح الآلات أو يصنعها بنفسه أو يخترع سواها. والسارد لا يكتفي بسرد تحولات غاليلي، بل يتوقف عند كتابه آنف الذكر، ويستشهد بيوهانس كيبلر (1571-1630) ونيكولاس كوبرنيكوس وكتابه “حول دوران الأجرام السماوية”، وخاصة مأساة جوردانو برونو (1548-1600) الفيلسوف الذي اعتنق هو أيضا نظرية كوبرنيكوس واتهم بالهرطقة وإنكار العقائد الكاثوليكية الأساسية، فحكمت عليه محاكم التفتيش الرومانية بالإعدام حرقا في الساحة العامة، فإذا ما أحس بأن ما يسرده ليس في متناول الجمهور كله، انتقل إلى ربط الماضي بالحاضر في استطرادات فكهة تتدارك شرود المتفرج وتعيده إلى المسرحية.

ورغم جدية الموضوع وصرامة جانبه العلمي، استطاع جان أليبير أن يحوله إلى لحظة فرجة ممتعة، تشد المتفرجين حدّ الانبهار، بفضل قدرته على الحكي وسرعة الانتقال من حال إلى حال، والحفاظ على ذلك الخيط الذي يشده بالمتفرجين، شأن الحكواتي وهو يروي خرافاته.

وما يمكن استخلاصه من هذا العرض الذي يتواصل حتى نهاية أكتوبر الجاري أن وجود العبقري في ظروف صعبة يمكن أن يشكل مشكلة، بالنسبة إلى الآخرين بخاصة، وأن غاليلي كان ينظر إلى الواقع كما هو، بحرية، رافضا فكرة إخضاعه لمعتقداته.

وكان بوسعه أن يمتدح بطليموس وأرسطو ويدرّس أعمال كوبرنيكوس كأخبار مستطرفة تروى للتندر، مثلما كان بإمكانه أن يغلّف الحقيقة فلا يُسرّ بها إلاّ لبعض الثقات من المتبصرين، ولكنه آثر المجازفة، ومتعة التفكير، وإشراك الراغبين في اكتشافاته، ولو أدى به الأمر إلى قبول الإهانة والتراجع عمّا يعرف أنه يقين، أملا في مواصلة أبحاثه في منفاه بأرشيتري قرب فلورنسا تحت الإقامة الجبرية.

ولعل الأهم من كل ذلك أن المسرحية يمكن إسقاطها على واقعنا الحالي، فغاليلي عاش في فترة تقودها اليقينيات الدينية، وتزمّت الفكر، ومحاربة العقل، تماما كالفترة التي نعيشها الآن، حيث يعادي الأصوليون الفكر، والرأي الآخر، ويعتقدون أن الله لم يهد سواهم، على رأي ابن رشد.

________________

المصدر : العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *