حوار الذوات في مونودراما ( القرية ) الكندية .. بقلم : يوسف الحمدان

حوار الذوات في مونودراما ( القرية ) الكندية ..

بقلم : يوسف الحمدان

تأتي مونودراما ( القرية ) الكندية لمخرجتها ديانا ميلوسوفيتش ومعدتها ومؤديتها تينا ميلو لتضفي على مهرجان الفجيرة الدولي الثاني للفنون روحا جديدة في تنوع اتجاهاته الفنية ، حيث كنا في هذه المونودراما أمام تجربة مسرحية جديدة تقترب في اتجاه شكلها العام نحو مسرح الكباريه ، حيث تتكيء الممثلة تينا في هذه التجربة على عرض حالتها الإنسانية والفنية في سياق استعراض ممكناتها الصوتية الغنائية وجسدها الراقص وازيائها المتعددة المتنوعة في فضاء يبدو في شكله العام دائريا تتوسطه آلة منظفة بخارية عمودية استثمرتها المؤدية تينا بوصفها مايكرفون وشاشة تلفزيونية في وسط عمق الخشبة تعرض من خلالها حالات متعددة لوجه المؤدية ذاتها .

إلا أن هذا الشكل الكباريهي ، يجري على عكس اتجاه فحواه الترفيهية المعهودة ، حيث يتحول إلى عالم لانسانة تطمح في تحقيق حلمها الفني في أن تصبح فنانة معروفة ومشهورة يشير إليها بالبنان كل من يعيش مجتمعها ووسطها ، ولكن كل هذا الطموح الحلم لا يتحقق .

ومن خلال هذه المحاولات المستميتة تأخذنا المؤدية تينا معها في رحلة البحث الشاقة عن دواخل ذاتها من خلال محاورتها البحثية لجسدها ولصوتها ولاحاسيسها ولوجهها .

ولقد استثمرت المؤدية تينا بحثها لجسدها منذ دخولها الخشبة ، حيث كانت تستعرض حالات متعددة لطريقة ظهورها الفني ، حالات تتراوح بين الثقة والتردد والحيرة بحثا عن صيغة أكثر اتساقا مع جسدها المرشح للظهور الفني المقبول من قبلها ومن قبل جمهورها ، إلا أن حالة القلق والشك اللذين يعتوران ثقتها بنفسها ويؤرقان دواخلها المتعددة المضطربة ، هي التي تسيطر في نهاية الأمر على كل المسارات الفنية التي تطمح في التغلب عليها ، وكلما ازداد الأمر اضطرابا وتوترا ، أوغلت المؤدية تينا في البحث في دواخلها أملا في تجاوز هذه الحالة .

ويتعدد هذا الجسد عبر ارتدائها لازياء تكتشف في نهاية الأمر أنها كلها لا تليق بجسدها أو أن جسدها ذاته لا يليق بها ، وكما لو أنها تبحث في دواخل هذا الجسد عن شخصية او شخصيات تلتئم مع ذاتها فلا تجدها ، فتتحول إلى أشبه بجلود تسلخها عن جسدها واحدة واحدة بحثا عن الذات المختبئة تحتها ، وينعكس هذا الجسد المنزوع عبر صورتها الحية العارية الأخرى التي تراوغها بين فينة وأخرى عبر المرأة الفيلمية التي تمارس قلقها بصمت كلما كف توترها المجسد في فضاء العرض .

ويستمر هذا البحث القلق المؤلم دون ثرثرة جسدية أو صوتية طافحة وغير متقنة في فضاء العرض ، فالصرخة لا تبدو في قلب المشهد ولا تطغى عليه إلا بعد محاولات مستميتة في البحث عن صوتها الذاتي المختنق والذي يتداخل بشكل يبدو أشبه بصوت الذبيحة أثناء النحر ، صوت متحشرج يائس ، إلا أن قدرة هذه الممثلة الهائلة في الخروج من حالة إلى أخرى ، تجعلها متمكنة من استعادة ذاتها من جديد لتبدأ رحلة أخرى لاكتشاف وجه آخر لذاتها لم تكتشفه بعد .

ولعل أحد الوجوه الأخرى لذاتها ، بل أهمها ، هو الوجه المجتمعي الذي يعزلها عن منطقة التواصل معه ، بل يدفعها لأن تختار كافة السبل من أجل القبول بها ، إلا أن كل تلك المحاولات لم تعد مجدية ، فتضطر لمحاورة كؤوس النبيذ التي تحتفي بخذلانها الاجتماعي وتواسي حالتها الفنية الذاتية كلما استبد بها اليأس ، لتصبح بالنسبة لها مجتمعا آخر أقرب لذاتها من المجتمع البشري المحيط بها ، بل لعل هذه الكؤوس قد اصبحت جمهور احتفالها في هذا الكباريه الذي استفرد بذواتها المتعددة .

كل هذه الحالات التعبيرية المركبة قدمتها الممثلة تينا باداء دقيق وغير مبالغ فيه ، لتصبح محاورة

لأحلام مجهضة ، ولتصبح هذه المؤدية ذوات تتعدد في جسد وتتفلت منه دون أن تعلن حضورها الظاهري الطافح عبره .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *