حرية التلقي وتأويل المعنى في مسرحية الأرامل / حسين السلمان

عرضت في بغداد على المسرح الوطني مسرحية الأرامل ضمن أيام مسرحية عراقية ( 23 ــ 27 آذار 2019) تأليف آرييل دورفمان وأخراج وفاء الطبوبي وتمثيل :نادرة التومي ، فاتن الشوايبي ، نادرة ساسي .

والمسرحية في الاصل هي رواية للكاتب التشيلي الارجنتيني الاصل آرييل دورفمان وقد أعدها الكاتب نفسه الى المسرح بذات الاسم .

عتبة النص           

في الفهم اللغوي الذي يؤكد على أن الارملة هي من مات زوجها، كما ورد في معجم المعاني الجامع  تعريف الارملة “أرملة التي مات زوجها .والجمع أرامل وأراملة والمؤنث أرملة والمذكر أرمل ” والتي فقدت والدهما فهي يتيمة أو تلقب “باللطيمة ” والتي فقدت أخيها فهي ثكلى .

وبعيدا عن مديات الفهم اللغوي  استطيع مجازا تجاوز الحالة هذه والذهاب الى الأنزياحات اللغوية فأقول وانطلاقا من خاصية المكان في المسرحية والذي هو ضفاف البحر وهي ضفاف رملية ، فأعود الى ذات المعجم لأجد أن ( أرمل المكان ) الذي يعني (أن المكان صار ذا رمل ) وهذا تأويل خاص بي يكفي للدلالة الكبيرة التي وردت في عتبة النص.وهنا استميح العذر للكاتب والمخرجة بالتمسك بالعنوان الجميل حيث يمكن القول ، بناء” على تأويلي ، أن الشخصيات أصبحن أرامل لأنهن فقدن وافتقرن الى من يستجيب لمطاليبهن ، وأن فقدان تلك المطاليب جعل منهم أراملا بحق .

دالة الفكر

كل تلك الرموز ،كل تلك الايماءات ، كل تلك الأيحاءات التي يغلي بها العرض المسرحي تذهب جميعها الى دلالات فكرية تكشف كل الضيم والقهر والاستلاب، وكل القمع والتخلف ، وكل الانحطاط المجتمعي الغارق في تعصبه وفهمه الضيق باتجاه المرأة التي أخضعوها الى واقع بليد لا يرحم ، لكن هناك شيء كامن في الداخل بدا يتفجر حيث هي ( المرأة )تريد استرداد حقوقها ، لذا هي ذاتها تبحث عن الرجال المفقودين ، لكنها في جوهر الأمر تبحث عن كيانها وعن وجودها عبر سلسلة من محاولات الرفض بطرق عديدة منها الرفض الصارم ، ومنها الدعوة للاتحاد والتجانس ، ومنها الاستهزاء والسخرية ، لكن الشاغل الأهم  ، والفعل المتجذر في النفوس المتعبة للنساء هو الحصول على الوطن والمواطنة . كل هذا يتجسد بنداءات تخرج من أرواحهن ، من أحاسيسهن ، من وجدانهن ضمن هذا الضياع الكبير الذي يحتويهن حيث البحر بكل غموضه وعمقه وخوفه ورهبته ،وحيث الرمال الهشة تحت اقدامهن كواقع راهن متهريء وفاسد ، وحيث السلاح المشرع في وجوههن وهو الجدار الأصم الذي لا يسمع نداءات الأرواح المعذبة ولا يسمح لحركة الصوت الاحتجاجي الصادر من أرواحهن ضد الظلم والطغيان . وتظل الصرخة الكبرى لنسق النص متجسدة بهذه العبارة المدهشة : (خذو البدون وأعطونا البلاد ..) .والشفرة النهائية تأتي على شكل دعوة محبة وتآخي ووحدة مشبعة بروح أنسانية نبيلة صادقة . جاء هذا عبر طريقة تقصي وبحث عن وطن ، وأن كان هذا البحث يتجسد عند حافة الحياة ..عند الضفاف ، وهو شكل مؤلم من الأنتظار أمام لا نهائية الصراع بذلك المدى الرهيب..هو (البحر ) الصارخ بالموت عبرأمواجه التي تثقب الأسماع ، هو صراع بين الماء (البحر) بكل ما يضمر من خوف وغموض ، وبكل ما فيه من عمق أسراره ، وبين اليابسة بكل ما تحمل من أحلام وأماني وتطلعات حتى وأن كانت عائمة في تلك الفراغات المذهلة التي تبدو الأشياء على غير طبيعتها من حيث الكتلة والحجم والوزن والشكل ، وهي عناصر كبيرة ساهمت في توطيد حركة الشخصيات والتصاعد العمودي للحدث.

 أنزياحات الاشتغال

من الشكل العام للعرض يمكن تلخيص الاشتغال الأخراجي عبر الانساق الكبرى التي شملت :

1 ــ المساحات الفراغية ( الوظيفة الكبرى للسينوغرافيا )

2 ــ البناء المشهدي البصري (دور خاص للأضاءة )

3 ــ مشهدية الحركة ( أعتماد اللوحة المسرحية مع استخدام غلق وفتح الاضاءة)

4 ــ تعويم المكان والزمان (مع وجود أشارات لبلد ولأحداث معاصرة )

5 ــ غياب الديكور

6ــ طغيان اللون ( تضاد لوني ، اسود مقابل أبيض )

7 ــ مباشرة الطرح والعرض

8 ــ الأنفتاح على لغة الجسد

أن كل سينوغرافيا العرض المسرحي للأرامل أعتمد على خاصية الاضاءة التي شكلت مجموعة من أبعاد مضافة ضمن حسابات غاية في الدقة . فهي ــ الأضاءة ــ   تتجسد كراوية مع الراويات النسوة ، ومرة تظهر على شكل خاصية تعبيرية حينما يتطلب الأمر التعبير عن كوامن الانسانية ودواخل مشاعر الشخصيات ، ومرة أخرى تتجلى كصورة جمالية تضيف دهشة ومتعة للعرض.

من هذه الفراغات يظهر أشتغال كبير للممثل في تعامله وتفاعله مع المكان. وقد ظهر جليا الترابط الحميمي بينهما على خشبة المسرح.أن هذا الترابط منح الممثل أمكانيات أوسع في حرية الحركة وضاغف من القدرة البلاغية للجسد في التعبير عما يكمن في داخله من مشاعر وأحاسيس جياشة  تريد أن تندلق خارجا بعيدا عن قضبان الاضطهاد والقهر والجوع ..

في تصوري أن نسق العرض الاخراجي يمنح الممثل قدرة كبيرة على التعايش عبر تخيل المكان الذي يمنحه معنى واسعا. ولقد جاء هذا من خلال  دلالات كثيرة أنتشرت على طول العرض ، فهي وصلت للمتلقي عبر الضوء والظل ( دور الاضاءة التفسيري ) ومرة أخرى جاءت متجسدة عبر الايقاع الحركي (حركة الممثل ، حركة الموضوع ) وظهرت من خلال الايقاع الصوتي ومن خلال ايماءات  مكثفة ، بل يأتي في أحيان عبر التجريد البصري في المشاهد او في اللوحات .فالمكان الذي لا يراه الممثل ، مثلما لا يراه المتلقي ، لكنه ضمن جدلية المسرح في التشخيص يتجسد المكان عبر الأداء الأبداعي للممثل الذي يجعل المتلقي يتفاعل بحيوية عالية مع التجسيد الرائع للممثلات .

كم هنا أستطاعت المخرجة عبر الممثل أن تضع حركة بصرية ممتلئة بأفعال تعبيرية عن الحالة النفسية والفكرية للعمل ، الذي تزامن مع صناعة محكمة لايقاعية متناسقة ما بين حركة الشخصيات وحركة الموضوع العام للمسرحية .فلقد كان المتن الحكائي مفيدا لمثل هكذا ايقاع الذي تجسد عبر الاعتماد على مركيبية المشاهد أو اللوحات البصرية التي منحت العمل خاصيات وسمات فنية وكذلك دفق قوي من الافكار الكامنة داخل تلك اللوحات ، مثلما فعل مايك بليكر في استخدام اللوحة التي عبرت عن قدرة فائقة في استخدام المفاهيم التي استطاعت ان تظهر رؤية مسرحية مغايرة منظور جديد ، وفي الحالتين جاء العرض عبر تركيبتين ( صناعية وتفكيكية ) وهي خلاصة أساس لعبثية العالم .وفي تصوري جاء كل هذا الابداع المتناهي في رسم جمالية المتعة في اساسيات ( الأخراج ، التمثيل ) من خلال ما صنعته العناصر التالية وهي الحركة ، اللغة ، الأشارة والتكنيك.

ومن مميزات هذا العرض الشيق هو منحه للمتلقي حرية كبيرة في تأويل المعنى والذهاب الى تفسيرات عديدة ، وربما يكون هنا المعنى أكثر من رأي أو أكثر من فكرة .فالعرض يمتلك خاصية جميلة وهي خلقه مرونة في مديات التفكير .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش