جندي هارب من الحرب يتحوّل إلى خنزير – محمد الحمامصي

مقاربة النصوص العالمية في المسرح العربي أمر متعدد الأوجه، فهناك من يحور فيها لتتناسب مع المشاهد العربي وهناك من يتركها كما هي، وهذا يحدده النص ذاته، إن كان قابلا للتحوير أو لا. وتبقى النصوص التي تحافظ على عوالمها كما هي تحديا كبيرا للمخرجين والسينغرافيين والممثلين العرب، لتقديم أداء يخرج من اللغة المحلية إلى العالمية.

قدم المخرج جمال ياقوت رؤية إخراجية مغايرة إلى حدّ بعيد لنص الكاتب الجنوب أفريقي أثول فوغارد “مكان الخنازير”، الذي سبق تقديمه مسرحيا برؤى متعددة، وذلك في عرضه “مكان مع الخنازير” الذي قدمه ضمن عروض الدورة الخامسة لمهرجان دبا للمسرح الثنائي الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة في الشارقة.

العرض يحكي قصة “بافل إيفانوفيتش” الذي فرّ من الحرب ظنا منه أنه تخلص من ويلاتها، لكنه ذهب إلى ويلات أشد وطأة حيث ذهب ليقيم بحظيرة الخنازير في منزله الذي يبدو أنه يقع في منطقة نائية، غير قادر على إعلان عودته والخروج إلى القرية ومواجهة أهلها، خاصة أن الجميع بمن فيهم قائد المدينة ظنوا أنه استشهد في الحرب ومن ثم يمثل نموذجا للجندي الذي ضحى بحياته من أجل وطنه.

افتتح العرض على ساحة حظيرة الخنازير في المنزل، وجدارين، أحدهما بعرض خشبة المسرح يمثل عدادا لتلك الأيام والشهور والسنوات التي قضاها بافل حبيس الحظيرة وهي عشر سنوات وستة أشهر، والآخر جانبي، ويستكمل عداد السنوات ويطل منها باب المنزل بشراعته ذات القضبان الحديدية الثلاثة، وهناك مدخل الحظيرة الذي يتناثر فيه القش، لتكون خشبة المسرح زنزانة تشبه إلى حد كبير زنزانة السجن التي اعتدنا رؤيتها في الأفلام المصرية خاصة، حتى مع وجود الزوجة “براسكوفيا” فهي بالنهاية تعيش داخلها.

الزنزانة أو حظيرة الخنازير شكلت حالة كابوسية انعكست على مجمل الحوار وحركة الممثلين محمد مرسي وآية بدر، وكان الأمر يزداد كابوسية مع أصوات الخنازير وتحول حائط الزنزانة الذي يحمل تعداد العشر سنوات والستة أشهر إلى شاشة مشوهة ترسل إشارات من ذاكرة عانت في ماضيها وتعاني في حاضرها، لنرى صراعا نفسيا وعصبيا مشوّشا يتبادله الفضاء المسرحي، ويتجلى في بافل بهلوساته واضطراباته، وأيضا زوجته التي أعلنت أنها سجينة هذا المكان ولا تخرج إلا للذهاب إلى المذبح لذبح الخنازير، ومن ثم كانت حائرة بين خياري بافل اللذين لا ثالث لهما خيار الاعتراف بأنه فر من الحرب وأنه حي، والذي ستترتب عليه فضيحة ومحاكمة عسكرية، وخيار البقاء داخل جدران حظيرة الخنازير. وكلا الخيارين مّر بالنسبة لكليهما.

رؤية مسرحية مجدِدة

سينوغرافيا العرض وفقا لذلك جاءت مفرداتها بسيطة وإشاراتها كاشفة عن منطلق العرض، وإن كانت في بعض المواقف لم تعمق التوتر الداخلي في شخصيتي العرض بافل وبراسكوفيا، خاصة على مستوى الإضاءة التي لم تخدم بشكل كبير حالات التحول التي كانا يدخلان فيها، أما الديكور ممثلا في الباب والكنبة التي لا تستطيع حمل أكثر من شخص للتمدد عليها وبصعوبة أيضا، والحائط وإن كان مفتوحا على الحظيرة وتارة يتحول إلى شاشة عرض، فإنهما أشارا بقوة إلى الزنزانة لتظل ماثلة كبطل دخل العرض.

الحوار في العرض على اختلاف أشكاله كان محكما وثريا في إشاراته، تتمتع لغته بالسلاسة وجملته بالوضوح والعمق دون تكلف، وهو ما دعم أداء الممثلين، ومكنهما من إيصال رسائل قوية دون افتعال أو انفعال زائد.

مطاردة الذاكرة لبافل في نومه ويقظته بدءا من الجوارب التي غزلتها له أمه وقسوة أبيه وصوت الرفيق وموسيقى الحرب جنبا إلى جنب أصوات الخنازير، خلقت مناخا شديد التوتر، بينما نجح الممثل محمد مرسي في أدائه لشخصية بافل وجسد الدور ببراعة، كما نجح بالبراعة ذاتها في تخفيفه بعض مفاصل العرض معتمدا على إسقاطات كوميدية لاذعة، ولو كان أداء الزوجة التي لعبت دورها الممثلة آية بدر منسجما ومتوافقا مع أداء بافل -محمد مرسي- لوصلت رسالة العرض بشكل أقوى بكثير مما رأينا.

الطاقة التعبيرية للممثلة آية بدر كانت ضعيفة، لذا لم يكن أداؤها معبرا عن زوجة تعيش سجنا جنبا إلى جنب مع زوجها لعشر سنوات وستة أشهر، لم يوح أداؤها بأنها زوجة خائفة من الفضيحة أو مقهورة بفعل القهر الذي يمارسه زوجها مع نفسه ومع الخنازير، حتى مشاعر خوفها وتوترها من أن يراها أهل القرية عندما ألبست بافل ثياب امرأة وأخذته إلى الحديقة، لم يتوافق تعبيريا مع شغف واحتفاء بافل بالطبيعة خارج حظيرة الخنازير.

لكن بالمجمل جاء العرض ممتعا واستطاع إرسال أكثر من رسالة، أهمها أن المواجهة الحقيقية التي قدمها، هي تلك التي يعيشها الإنسان في مناطق كثيرة من هذا العالم، وتتمثل في خياري الحرب أو السجن، وأن ثمن التحرر منهما باهظ جدا، وهو أن تتحول إلى خنزير سواء عشت داخل الحظيرة أو عشت خارجها، فبنهاية العرض فتح بافل الباب لخنازير حظيرته وخرج معها كواحد منها.. لتعلن زوجته “رجل غبي قرر أن يكون خنزيرا”.

محمد الحمامصي
(العرب)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش