“ثلاثية الانتقام” مسرحية تسائل الإرث الذكوري وتشرح مساوئه / أبو بكر العيادي

 

 

 

 

 

المخرج سيمون ستون استطاع في مسرحية “ثلاثية الانتقام” خلق دراما حديثة، بما تحويه من جنس ودم وجرائم ودموع، ولكن بقلب موازين القوى، حيث تبرز النساء في الصدارة.

بعد “ميديا” و”الأخوات الثلاث”، يواصل المخرج السويسري الأسترالي سيمون ستون الاهتمام بالمسرحيات الكلاسيكية التي تحتل فيها المرأة الدور المركزي، وتقديمها وفق رؤية فنية جديدة، تنزّلها في واقعنا الراهن، على غرار مسرحية “ثلاثية الانتقام” التي تعرض حاليا على خشبة الأوديون بباريس.

“ثلاثية الانتقام”، التي ألفها وأخرجها سيمون ستون، هي حكاية انتقام تحاك على مدى سنوات عديدة، تنشأ من مأساة عاطفية كان من جرائرها انحطاط رجل وسقوط أقربائه وعائلته كلها إلى الهاوية.

هذا الرجل، واسمه جان باتيست، هو مغتصِب وكاذب وعُصابيّ، اعتاد أن يمتهن النساء من حوله دون التفكير لحظة في مصائرهن، نسوة كان يعاشرهنّ راغبات أو راهبات، فيدفع لهنّ مقابلا حينا، ويصدهن ويعنفهن أحيانا أخرى، فالغاية هي إشباع نزواته والتنفيس عن ضيقه، دون أن يفكر لحظة أنهنّ سوف يقررن يوما التمرد عليه، والانتقام منه.

هذه الدراما المعاصرة استخلصها المسرحي السويسري الأسترالي سيمون ستون من ثلاثة أعمال كلاسيكية هي “تيتوس أندرونيكوس” لشكسبير، “والمستبدِل” لتوماس ميدلتون (1580-1627) و”خسارة أنها عاهرة” لجون فورد (1580-1640)، ونجد فيها ثيمة زنى المحارم التي تناولها فورد، والكذب السافر الذي عرض له ميدلتون، والعنف الحاضر في معظم مسرحيات شكسبير إلى جانب القوة التي يضفيها عادة على شخصياته النسائية. وكان ثلاثتهم قد ابتدعوا طريقة جديدة لتمثل العنف لا تزال آثارها بادية في التلفزيون والسينما، في شكل تراجيديات انتقام، يتقاسم الرجال والنساء بمقتضاها أدوارا تُعامَل فيها النساء كمجرمات أو ضحايا، فهنّ غالبا ما يكنّ تحت الهيمنة الذكورية بشكل أو بآخر، سلبيات معروضات لانتهاك الذكور، ويُنظر إلى محاولات تحررهنّ كتطاول على السلطة البطريركية ينبغي ردعه ومعاقبة من يُقدِمن عليه، وقد استفادت الدراما الإليزابيثية، بعرضها واستثمارها ذلك الوضع، مما يمكن أن تخلقه تلك الفتنة الملتبسة، التي تُعقد فيها رغائب الرجال ومخاوفهم، من أثر في نفوس الجمهور.

وسيمون ستون هنا لا يكتفي بمساءلة ذلك الإرث بل يشرّح بذاءته، وينقله على خشبات ثلاث في الوقت نفسه ليضعه تحت أنظار مجموعة من النساء يتولين الغوص في سراديب العنف الذكوري بأنواعه، ذلك أن ستون كتب نصه في ثلاثة فصول تدوم نحو أربع ساعات، وتعرض تباعا على بلاتوهات ثلاثة.

ثلاثة فضاءات مختلفة هي قاعة اجتماعات بوكالة أسفار، ومطعم فيتنامي، وغرفة فندق، وتَوزّع الجمهور على ثلاث مجموعات تتنقل من فضاء إلى آخر عند كل فاصل، لتجميع أحداث المسرحية وتتبع حبكتها.

حكاية انتقام تحاك على مدى سنوات عديدة
حكاية انتقام تحاك على مدى سنوات عديدة

وكان من نتيجة ذلك أن الممثلين لا ينفكون يتنقلون من خشبة إلى أخرى، ويؤدون المشاهد نفسَها ثلاث مرات متتالية في السهرة الواحدة، ما استوجب إيجاد ممرات تمكن الممثلات السبع والممثل الوحيد من التنقل بسرعة لتغيير الملابس في بضع ثوان، مع تغيير الأدوار، ولعل ذلك ما يفسر قلة الحوارات وتواتر الصمت في أكثر من موضع، وكأن المخرج يعطي فرصة للممثلات كي يسترجعن أنفاسهنّ.

ومع تنامي حكاية الانتقام تلك، تتبدى الثيمات الكبرى للتراجيديا الإليزابيثية، وأصدائها الإغريقية، ولو أن الآلهة والأبطال مستبعَدون في هذه الدراما العائلية، التي تصور طاغية يكره النساء، وأبا قاتل أطفال، وزوجة خائنة، ونسوة يطالبن بالثأر والانتقام، فتختلط الخيانة بالكذب والعار، وكأن المخرج/ المؤلف يريد أن يقدم للمتفرج مرآة تنعكس على صفحتها مظاهر انحطاط مجتمعه، الذي يظهر في هيئة سيّدٍ شبق، ونساء مغتصَبات، وعذارى معروضات للبيع، ويلمّح إلى تواتر الأمور عبر الأجيال، وألاّ شيء تغير منذ القدم من جهة علاقة الرجل بالمرأة، فالنساء، برغم التطور والمدنية، لم يتحررن من هيمنة الرجل، وأغلبهنّ لا يزال تحت سلطة الأب أو الزوج أو الأخ، حتى في البلدان المتقدمة.

ولما كانت القضية تخص المرأة في المقام الأول، فقد منحها ستون حرية القول وحق الثأر ممن يعتدون على حرمتها الجسدية، وغريمُهن هنا، ممثلا في جان باتيست، كرمز للذكر الذي فرض هيمنته على المرأة على مر الأزمان، وهنّ يتداولن على تذكيره بتجاوزاته، وغطرسته، وإهاناته لهنّ، والعمل على إذلالهنّ حتى وإن استجبن له، ولبّين نزواته، فلا شيء يرضيه، وكأن غايته ليست إشباع رغبة بقدر ما هي إذلال متواصل للمرأة، والحط من قيمتها.

خشبات ثلاث تعرض في الوقت نفسه مجموعة من النساء يتولين الغوص في سراديب العنف الذكوري بأنواعه

ومن خلال هذه العائلة الممزقة، يدعونا ستون إلى التفكير في تطور المجتمعات الغربية وإرثها، وتنتأ في الأذهان أسئلة: كيف تنشأ الكراهية والعنف؟ وهل نستطيع كبح نزواتنا؟ ومن الذي يحدد القواعد الاجتماعية ومعايير المشاعر العاطفية؟ هل يحق أن نعاقب المذنب دون المرور بالعدالة؟ هل يستطيع الغفران أن يمنح السلام والسكينة للضحايا؟ ثم كيف ننظر إلى الانتقام؟

استطاع سيمون ستون في مسرحية “ثلاثية الانتقام” التي تعرض حاليا على خشبة الأوديون بباريس خلق دراما حديثة، بما تحويه من جنس ودم وجرائم ودموع، ولكن بقلب موازين القوى، حيث تبرز النساء هنا في الصدارة (سبع ممثلات مقابل ممثل واحد)، يهجرن صورة الضعيفات المضطَهدات المسحوقات لينتقمن بلا شفقة أو رحمة من عنف الرجال، ولكن رغم اعتماده على ذلك الثالوث الكلاسيكي لتصوير العنف، فإن عرضه يوحي بالسيتكوم والمسلسلات المعاصرة أكثر مما يوحي بالصخب والعنف في المسرح الإليزابيثي.

_______________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش