تهشيمُ الفراغ الكوني بين تمثيل قاع الرؤية ومرئي المُعتم في مسرحية قاع للكاتب عمار نعمة جابر – د. زينب لوت

تهشيمُ الفراغ الكوني بين تمثيل قاع الرؤية ومرئي المُعتم في مسرحية قاع للكاتب عمار نعمة جابر – د. زينب لوت

توطئة:

مسرحية (قاع…) للكاتب العراقي (عمار نعمة جابر) التي تَوَاجَد إخراجها وتَمثِيلُها في العديد من الدُول العربية، وتعدد عرضها أكثر من مرة، لتكُون المسرحية الفائزة في جائزة الهيئة العالمية للمسرح (الأورودرام) لهذا العام 2020م.

ينتمي القاعُ للمكان الأعمق المحجوب والمتسع للحقيقة الخام للإنسان، تكوين صورة عارية للوجود الفكري والنفسي والسُلوكي دون ستائر الواقع أو ما نُمثِلُه كموجودات تتصرف حسب جوهرها الوجودي في المجتمع خلف الثقافة والحضارة والانسان على حد السواء أو الانتماءات التي نمجد حضورنا ضمنها.

يتدرجُ مفهوم القاع من نصوص تتناول هذا العمق اللامتناهي رواية(سماء بلا قاع) للأديبة التشكيلية (هانا أندرو نيكوفا) التي نالت جائزة (مجنيزيا ليتر) اخترت هذا النص منها تقاطعاً مع حالة الحجر أو حجز الروح التي يحتجزها جسد المريض في منصة المصير المعلوم الذي يحاول الانسان تفادي القدر ببعض من الأمل ” بعد ستة أسابيع يزداد عمري خمسة أعوام، بعد ستة أسابيع أشعر بالضيق، من رائحة قرحة الفراش، والمُطهرات، والحوائط الزجاجية وأبواب المستشفيات، ومن الوجوه ومن كوابيسي، أشعر بالضيق من صمتك”( هانا أندرو نيكوفا، سماء بلا قاع، تر: خالد البرتاجي، ط/1، الناشر ابن رشد، القاهرة، 2018م،ص.13)، تروي قصة بطلتها (اما) التي تعاني من مرض السرطان ولكنها تواصل ممارسة حياتها بالمتعة الّتي تخفي فيها أعراض المرض.

كما نجد في قاع آخر رواية المؤلف والمفكر السوداني (إيهاب بابكرعدلان) (1982)في طبعتها الثانية 2015م عنوانها (أسفل قاع المدينة) يتجه التحليل النسبي لمفهوم القاع الجانب المعتم في حياتنا أو المضيء بفاعلية وجودنا مع الذات وجها لوجه، لا يتصل القاع بالذاكرة لأنها تجلب الصور من الخارج وتحجزها في الذكريات، وإنما يتجه للشكل الزئبقي الظي يصفه مجردا:” سكانها ذو وجوه متعبة وميتة خارجون عن ذاكرة الدولة لفظتهم المدينة فأثروا المكوث في القاع”(رواية أسفل قاع المدينة، أوراق النشر و التوزيع، السودان، ط/2 ،2015ص.08) هذه الوجوه المنحدرة من شخصيات لفظتهم المدينة.

كذلك تتنامى المفاهيم الأولية للمسرحية حيث يسحبُ قاع المؤلف جماعة من المرضى المٌهملين في عرض البحر، يحتجزون من أجل الحجر الصحي لتنكشف وجوه دفينة تلقي بأوجاعها وتُهرول في اتجاه المجهول وبهذا تتجسد مكانة الفعل للدرامي وسط هدير الخطابات المهملة التي تعيد فلسفتها للواجهة وهناك يكون قاع بشري يتهشم أمام الورق وكأنها شخصيات أخرى تمزق حكايات القاص وتتفشى خارج حدود الكتابة ومخاضها.

مسرحية قاع:

تواجه مسرحية قاع خلية أزمة صحية كأفق عمودي (للقاص) داخل (الحجر الصحي) في سفينة خشبية وهدير البحر يرافق المشاهد ويصاحب المحكي الحواري بين الشخصيات من توصيف المكان كاستراتيجية توزيع الأدوار فوق الخشبة بين(السيدة) التي تلازمها حالات هيسترية بسبب فقدان حبيبها وزواجها مقابل المال وهروبها من العنف الذي يمارسه زوجها إلى فقدان صحتها العقلية تدريجياً، و(الفتاة) التي تعيد بناء الماضي الحضاري عبر (جَدِهَا) ومقولاته وحكمه، (القِسُ) المنحدر من أصول الدين وطقوس الدعاء لرفع الوباء أو حماية النفس البشرية، و(البدين) الذي يتقلب في سريره باحثاً عن النجاة والغذاء داخل السفينة ويعر(القاص) مكانة قصدية الرحلة المجهولة بين جدران تقضمها الجردان بعدما فتحت باب المكان، سرعان ما ستنهشُ ما تبقى وستنزل السفينة نحو قاع لا يحتمل الزمن والمكان ويدفن الماضي والحاضر وهنا أفق مفتوح للتاريخ حيث أنّ السومريين هم أول من تمكنوا من بناء السفن الضخمة، وصمموا خرائط البحار والمحيطات، وأتقنوا فن الملاحة، وقسموا التاريخ إلى قسمين ما قبل طوفان نوح وما بعده من الحضارة التي عاشها البشر، والمؤلف (عمار نعمة جابر) في المسرحية استخدم السفينة لشخصيات احتجزت لتَّعزٍل مجموعة من المرضى عن البشرية بسبب إصابتها بمرض الجرب المعدي وفي عزلتها تُدرك أنها شخصيات مهملة في عالم الفوضى والمحيط اللاإنساني الذي رماها في عرض البحر وسرعان ما يستودعها في قاع كأنها نكرة لا تعريف لوجودها ولا حاجة لتواجدها.

قاع مجرد في أفق الاتساع التشكيلي:

يتشكل هدير البحر في الفضاء التَّشكيلي من حيث الاتساع والامتداد والتّطوير والانتقال من مرحلة الحدث إلى التَّعاقب التّأثيري في الجمهور، وفي ظل صراع البقاء والبحث عن منفذ التّجسُّد والتّجسٍّيد مفارقة التكوين السلوكي للشخصيات الّذي تسحب المُتلقي نحو الهُدوء لاتخاذ الخطابات كرؤية نموذجية من هاجس القاع الّذي يسكن الجمهور.

المسرحية تسحب الذهن نحو ذوات الشخصيات لتستعين بصراخها وصوتها وحركتها خلف تلك الأنفاس المجاورة للنص المسرحي، في ثلاث معاني (الخشبة- الزمكان- التطور والنمو) من خلال مفهوم(جوليان هيلتون) فـ “المسرح (Stage)، لكلمة(Stage) معان ثلاثة تنطبق كلها على العرض المسرحي فالمعنى الأول-خشبة المسرح-مصطلح يشير إلى السطح الذي يتحرك عليه الممثل، والمعنى الثاني ‘مرحلة’ أيضا يشير إلى وحدة قياس زمنية أو مكانية غير محددة الطول، والمعنى الثالث –’مرحلة’ أيضا بالتحول أو النمو أو التّطور وحين تتحد المعاني الثلاثة تصبح خشبة المسرح المادية مقياساً مرنا لمرحلة معينة من مراحل النمو والتّطور في عقل دائب التّحويل والتّحول”(جوليان هيلتون، نظرية العرض المسرحي، تر: نهاد صليحة، دار هلا للنشر و التوزيع، ط/1 ، 2000 ، ص.34) الذي يجذب فيزيائية الجسد نحو حركة اللّغة المحاكية بالصوت ودرجته وحدته وضميره وألفاظه تحريك سُكونية الآخر(الجمهور) إلى علاقات تحويلية نحو فجوة قاع سحيق.

ما هو قاع المسرحية أو التمثيلية أو العرض؟ هذا العنوان بوجه الانكار دون التعريف انفلات المجرد كالخلية التي تضع النواة فتتسعُ بُنية مُتراكمة من الحَوَاس الإنسانية، من خلال القاع المجهول والمُمَوهُ والمُعتم، الصَّارخة منه أصوات تعلوا وتتلاشى كالحُطام الّذي يسكنُ الكاتب(القاص) حين يفقد موقعه الفني حين لا تنتج الأعمال الفنية قيمتها في وسط بشري فقد جمالية الحس، و(السيدة) الجميلة التي خربت الحياة وجهها الداخلي رغم الأنا التي تستخدمها في الخطاب: “أنا جميلة” وهي تحاول ترميم الخراب الداخلي الذي أضاف له تهشيم مرض الجرب الملامح الخارجية رغم محاولات التجميل ووضع المساحيق، أما (الفتاة) كانت الحامل للوعي والحكمة من خلال وجود جدها، بينما يمثل القس المستوى الورع، ويحفر (البدين) مستوى البساطة وللإنسان العادي الذي يعيش ترف الحياة من لقمة تلجم جوعه.

أما في المعنى الرخو القابل للتأويل، قاعٌ يتمثلُ عبر الذوات الفاعلة في الحوار بين شخصيات (القاص-البدين-الفتاة-القس-السيدة) تَنَوُعٌ اجتماعيٌ لنماذج العرض لأنه يحملنا لمستوى- استعراض النص – مثلما يستعرض الكاتب الانعكاس الواقعي ويثير المخيال الثقافي كبديل لمفهوم الإخراج وهذا ما نلامسه عبر عملية المشاهدة ومحاكاة المحاكاة ” وفي ظل هذا الافتراض تأكدت فكرة الفن كمحاكاة لهذه الحقيقة الموضوعية البالغة الدقة-أي أن الفن أصبح مرآة لهذا العالم الخارجي الموضوعي وأصبحت دقة المحاكاة هي الهدف المنشود وفي ظل مبدأ المحاكاة”(نهاد صليحة، المدارس المسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مهرجان القراءة للجميع،1994، ص.14) وتتعدد المرايا في المسرحية لتكون منكسرة تخدشُ جدلية السؤال لماذا اختار المؤلف (عمار نعمة جابر) الحجر الصحي كحالة عرض و السفينة والبحر وهوس القابعين خارج حرياتهم أو هاربين إلى الخواء؟ لكنه الفن بمقاييس الفنان ومفارقاته، أين تكون البدائل الأبستمولوجيا للمعرفة النظرية لكل ذات، فالقاص هو الرجل الذي يَحبِكُ أسوار الحجر الصحي في السفينة ويشكلُ الصفات والموصوفات وينسجُ الانتقال الزمني من رتابة المكوث في السفينة إلى أن تصفه الفتاة بقولها:” الفتاة : ( بغضب ) أية وجهه تعني؟ .. يبدو انك تنسى مكانك الذي أنت فيه ( تقترب من القاص ) أنت في غرفة للحجر الصحي يا سيدي ، في سفينة تسير في عرض البحر .. لا يعرف أحد منا أين تتجه ، ولا متى ترسوا .. أنت مقذوف في سلة مهملات هذه السفينة .. أنت في القاع .. أنت في عداد الأموات بالنسبة لمن في الأعلى ، يلقون لك كالكلاب فتات قصاعهم المليئة بالأطعمة ، وسيقطعون ذلك متى شاءوا .. ليس لأحد منا حول ولا قوة فيما نحن فيه … لكن .. لكن جدي كان يقول دائماً أنها سترسو يوماً ما … لابد لهذه السفينة من ميناء ترسو إليه .”( عمار نعمة جابر، مسرحية قاع، نادي.. الضحك، وزارة الثقافة العراقية، 2010، ص.13)

تتخبط حوارات الأمل بالنجاة وتساؤلات تتلاشى مع محورية الوجود، واضمحلال مصير انساني منفلت بلا حدود افتراضية للنجاة أو الأمل بالعودة، حيث يكون تعزيز قدرة المؤلف على ترميم الهوة باستنكار دائم، وانتقال مباشر لمؤثرات هدير البحر وهو صدى الصمت البشري.

جينالوجيا المكان:

يتركب المكان من البحر المسموع كصوت يتشكلُ في أذن الجمهور (هدير البحر) و سفينة خشبية تحملُ أجساد المحجورين صحياً، وأسِّرة تتوزع في مساحة العرض، ويقابلها باب سرعان ما ينفتح في قرب نهاية المسرحية بفعل الجرذان ليدركوا انهم أُهمِلُوا بعيدًا عن ديمومة الحياة “المكان غرفه حجر صحي في الطابق السفلي لسفينة في عرض البحر….”(مسرحية القاع، ص.03) أين يصور الضياع في منحدر قاع مغترب ويكون المكان أصوات تقيم حضورها وتمارس قضايا لغة إنسانية.

الزمن هو مكان فقط يحرك لجج استمراريته لا يُدرك الرُكاب الليل من النهار ولا عدد الأيام حيث تنجرف خلف أفق غير معروف لهذا يرتكز ملفوظ (قاع) نكرة تتبعه نقاط لا متناهي كما في هذا المشهد: ” القاص:( يحدق في المكان ) برابرة أولئك الذين فكروا بالحجر الصحي .. ليتهم ممن قضوا في غرفه كهذه لتحدق عيونهم بما فكروا به .. أربعة جدران وسقف ، وارض من خشب ..هذا هو كل شئ .. هذا هو ما بقي من دنيا الحجر الصحي ( يقف ) دنيا لا ليل فيها ولا نهار .. لا ندري كم من الأيام مرت على هذه الغرفة .. كم من الأيام مرت علينا ونحن في هذا المكان ( يتحرك ) لقد حفظت كل ذرة صغيرة في هذا المكان .. فهنا مسمار مكسور الرأس .. وهنا مسمار خشب .. وهنا رسم قلب لم يطعنه سهم ( كيوبيد) بل .. مرت عليه الأيام ، هو وصاحبه بين هذه الجدران ، ليموتوا على هذه الأرض اللعينة .. وليتها كانت أرضا حقيقية .. خشب كاذب ..”( عمار نعمة جابر، مسرحية قاع، نادي.. الضحك، وزارة الثقافة العراقية، 2010، ص.03) ويجلب ذلك الانتباه الدائم نحو الشخصية وقضاياها، وجدران السفينة تقبض أنفاسهم ثمَّ تبعث الأمل وتنغلق أمام الانتظار، رغم تمكنُ المؤلف إسقاط الممكنات من الفهم وتتأرجح الخطابات والأصوات بحرصها على كينونة الذات المنشطرة ألما وتأملاً تلك التَّأملات في الكائن بعدما تفقد الحياة توازنها حوله.

خلخلة الرؤية وتصاعد المشاهد البديلة:

وجود القاص في الحجر الصحي لم يكن أضافة للمشاهد او تنويع الشخصيات هو دور في غاية الأهمية، لأنه الدور الذي سيثير خلخلة المكان وإعادة هندسة الفكرة التي يديرها مؤلف النص في خطورتها الفنية والجمالية والفلسفية بحرية ودون امتثال للمنطق بل للصورة القابعة من منظور الخوف والسكينة والافتراض والانتظار الترقب وتتحرر أفكار الشخصيات وتعابيرهم المتحررة أمام كل انتماء وباختلاف العقائد يقبع الانسان خارج الأيديولوجيات أهم قوة للكون ولو في عرض البحر يُمكنُ المؤلف (عمار نعمة جابر) فيتحرك الهاجس الإنساني الّذي طالما انبعث من حريته الوجودية، أمام استمرار حجزها لرهان الخوف والتراجع احتراق وإحساس بطول مدة احتجازها رغبة المثول والحياة، وامتثال الرغبة الجامحة المرهونة بمدة زمنية تقتل حلما “تمثل حرية المسرح (…)في قدرته على خلخلة رؤيتنا الموروثة و المعتادة للعالم وهاى تحدي الأيديولوجية السائدة وقدرة الخلخلة لا تتعلق بإرادة الكاتب أو المخرج او الممثلين أو حتى الجمهور…

بل هي شرط مبدئي لوجود الظاهرة المسرحية وذلك لأن الظاهرة المسرحية ذاتها وليدة الخلخلة- فهي الابنة غير الشرعية لاي نظام اجتماعي إنها تولد دائما خارج النظام -إذ لم يحدث أبدا أن قرر إنجاب الظاهرة المسرحية فالأنظمة بطبيعتها تدرك ان المسرح قوة مناوئة”( نهاد صليحة، الحرية والمسرح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991،ص.29) خلف متاهات المعنى يهدم نظام الفكر الفني وتظهر المسرحية مفتوحة الأفق، كيف نرسم مقاربة بين الموت والحياة في صراع أرواح بشرية في الحجر الصحي ينتمون بوجودهم عرض البحر يصغون لهدير الموج ولباب يفتح لاستنطاق حالة المثول التدريجي نحو قاع مبهم تجرفه أحاسيس أمل يتلاشى أمام جرذان تعكس الفضاء القاحل للفناء.

—————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …