تراجيديا الزير سالم مازالت تتكرر إلى اليوم — نضال قوشحة #سوريا

ما تزال التراجيديات تستهوي الفنانين والمبدعين في شتى أرجاء العالم، فالتراجيديا ترافق البشر منذ فجر الوعي إلى اليوم، وستواصل مرافقتهم في حياتهم المشوبة بالتقلب تواريخهم التي يكتبها الدم والصراخ والحروب التي تلازم البشر وكأنها قدر.

دمشق – تقوم التراجيديا المسرحية على استحضار شخصية نبيلة تعاني مخاطر الألم والخوف والقسوة والحرمان، وعادة ما تملأ تفاصيل العرض المسرحي حينها مشاهد القتال والدماء.

عشرات القرون مرت منذ أن قعّد التراجيديا مؤسسوها كشكل فني، وهم الثلاثي اليوناني يوربيدوس وأسخيلوس وسوفوكليس، لكن مازال هذا الفن يحفل بالكثير من المتابعة والاهتمام، فظهرت عبر تاريخ المسرح العالمي الكثير من المسرحيات التراجيدية منها أوديب ملكا، أنتيغون، يوليوس قيصر، هاملت، ماكبث، روميو وجولييت وغيرها.

وكما في تلك المسرحيات الخالدة تحضر عوالم التراجيديا في ملحمة الزير سالم (أبو ليلى المهلهل) التي ذاع صيتها في العالم العربي، وتم تداولها شعرا وغناء عبر الكتب والمسامع منذ ما يقارب الألف وخمسمئة عام.

تدور أحداث الملحمة في شبه جزيرة العرب بين اليمن والشام مرورا بالحجاز ونجد ووصولا إلى العراق، عندما قام الملك حسان التبّع اليماني بغزو ديار الملك كليب من بني تغلب في الحجاز طلبا للزواج من جليلة الفتاة الحسناء التي أراد أن يأخذها عنوة في ليلة زفافها من زوجها كليب، والذي استطاع بحيلة ذكية قتله بمساعدة أصحابه ومن ثم الاستيلاء على عرشه، الأمر الذي دفع بشقيقته البسوس لطلب الثأر له وإيقاع المكيدة بين كليب قاتل شقيقها وجساس ابن عمه ودفع الأخير لقتله.

بعد هذه الحادثة احتدم الغضب بين تغلب وبكر واندلعت الحرب بينهما في ما عرف بحرب البسوس التي قادها الزير سالم شقيق كليب من تغلب ضد جساس بن مرة من بكر، وذهب ضحيتها عبر عشرات السنين آلاف القتلى.

العرض تلقف حالة الدراما المأساوية الموجودة في النص وصاغ منها مجموعة من الصراعات التي سارت تصاعديا

وتحضر في الملحمة قصة سالم الذي سمّاه شقيقه كليبا بالزير لأنه يجالس النساء ويلهو معهن، واسمه عديّ بن ربيعة، ويلقّب بأبي ليلى نسبة إلى ابنته الكبرى كونه لا ذكور له من صلبه. وهو الفارس الذي ترك الخمر واللهو طلبا لثأر شقيقه كليب. وفي المقابل نجد ابن عمه جساس بن مرة الطامح للملك والعرش. مكامن التشويق الدرامي موجودة بكل تفاصيلها في الحكاية فالتوتر بين شخصيتي كليب وجساس متواصل وكذلك حالة الخيلاء والغرور عند حسان النقع ملك اليمانية.

في استحضار للحالة الراهنة سوريّا وعربيّا يلج العرض المسرحي الذي قدمه طلاب السنة الرابعة في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عوالم سيرة بني بكر وتغلب والصراع الذي قام بين أبناء العمومة على العرش والرغبة في التحكم بالآخرين.

حسن عويتي، الفنان الشهير والمدرّس بالمعهد العالي للفنون المسرحية، قام بإعداد العرض عن نص الكاتب المصري ألفريد فرج الذي وضعه في أواخر ستينات القرن الماضي، ولكي يتيح الفرصة لجميع طلاب الدفعة البالغ عددهم أربعة عشر طالبا وطالبة استعان بالنص التلفزيوني الذي ألفه الكاتب السوري ممدوح عدوان حول حكاية الزير سالم عام 2000 وصار مسلسلا تلفزيونيا معروفا من إخراج حاتم علي.

وكعادة عروض التخرج حيث يسلتزم الأمر إعطاء أكبر مساحة ممكنة لجميع الطلاب لإبراز مقدراتهم كانت مدة العرض طويلة فقاربت الثلاث ساعات قدمت في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق.

تراجيديا من الماضي تستحضر الواقع السوري الراهن

تلقف العرض حالة الدراما المأساوية الموجودة في النص وصاغ منها مجموعة من الصراعات الدموية التي سارت في حالة تصاعدية حتى بلغت ذرى فيها الكثير من القسوة والعنف. فالصراع على العرش بين أبناء العمومة يظهر في أوضح تجلياته وكذلك روح الضغينة التي تجمع بين كليب وجساس ولاحقا بين سالم وجساس.

ولا تغيب محاور الحب عن العرض في عدة تقاطعات درامية تعيشها بعض شخوص المسرحية. وصولا إلى الفكرة النهائية للعرض التي تمثلت في شخصية الهجرس بن كليب، الذي وجد شقيقته المطالبة بثأر أبيها أخيرا، وهو الصوت الذي يؤمن بالعقل والهدوء في معالجة وقائع الأيام بل ويرفض مقابلة العنف بالعنف ويرفض حالة الثأر بالثأر ويمثل في العرض والحياة صوت الحكمة الذي لا يستهوي الكثيرين صداه.

في الشكل، قدم العرض حالة حيوية متدفقة فيها الكثير من الحركة، حتى أنه يتغلب على طول فترته الزمنية وقسوة أحداثه وتداخلها، فبنى صيغة متحركة شملت كل مفاصله، فظهرت لوحات كبيرة كانت عبارة عن شاشات بيضاء تم استخدامها لعكس ظلال الممثلين في تقديم المعارك كما كانت تتحرك بشكل دائري على المنصة لتعبّر عن حالة التكرار والإحاطة بشتى مفاصل الحياة حيث يستسلم لها الجميع.

وبالتوازي مع هذه اللوحات البيضاء ومن خلال فكرة لافتة قدمت مجموعة من اللوحات السوداء الشفافة الأصغر حجما التي ظهر الممثلون من ورائها بأجسادهم وأصواتهم وهم يقدمون الحالات الدرامية لشخوصهم، وكأنهم لوحات سوداء من الحياة كانت وما زالت تقدم إلى الآن. كل اللوحات في العرض كانت متحركة تحت قبة معدنية حملت دلالات الحصار النفسي والتكرار الزمني.

وقدّم العرض وسط ترحاب من جمهور المسرح الذي لم يلغ حماسه أن النص يتحدث عن تراجيديا عربية قديمة في عرض طويل زمنيا. شارك في تقديمه الطلاب الخريجون: إلين عيسى، إياد عيسى، آية محمود، حسن خليل، حسناء سالم، دُجانة عيسى، راما زين العابدين، ريموندا عبود، علاء زهرالدين، علي إسماعيل، كنان حاتم، ملهم بشر، يزن الريشاني، يوشع محمود.

وساهم فيه كل من أحمد حمودة، آدم الشامي، آية آغا، جول لباد، غيث الأدهمي، فارس جنيد، فوز عليا، كرم شنان، كنان كريدي، لانا الحلبي، ميخائيل صليبي.

وقدم سينوغرافيا العرض غيث المحمود وغيث مرزوقي، فيما كان تصميم الأزياء لسهى حيدر، والإضاءة لأوس رستم وجواد أبوكرم. أما الماكياج فمن إنجاز منوّر عقّاد.

نضال قوشحة

( العرب )

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش