تحولات الكتابة . – وارد بدر السالم

بوصلة المسرح العربي فقدت اتجاهاتها الصحيحة في زخم السرديات الروائية المتدفقة على الصعيد العربي.

أحد الأدباء كتب تغريدة أوضح فيها بما يعني من أن شعورا بالأسف يراوده كونه انغمر في كتابة النقد المسرحي شوطا طويلا من عمره، وانشغل بمتابعته قراءة وكتابة ومشاهدات لعروض كثيرة، حتى انتشلته الكتابة الروائية ليكون قريبا من الهاجس الإبداعي الجديد ومن معطيات اجتماعية وسياسية كثيرة، بعدما أخذ منه المسرح سنوات طويلة من دون أن يتقدم به كثيرا. في إشارة إلى أن المسرح تأليفا أو نقدا أو عروضا لم يعد يجتذب القراءة والمشاهدة، وأنّ فنونا أخرى استقطبت القارئ وأضحى التلقي العام يبحث عنها، بقصد الرواية التي استوطنت هذا العصر السردي بكل ما فيها من قوّة فنية وهي تتوغل في الحياة حتى أدق تفاصيلها وتكشف المخفي فيها والمستور والنائي منها، ذلك الذي لا تستطيع الفنون الأدبية الأخرى أن تلتقطه بسهولة.

هذا الاعتراف الشخصي والهاجس الفردي المعلن لهما ما يبررهما واقعيا في الحياة الثقافية التي أفرزت الكثير من المعطيات الأدبية، عندما توارت بعض الفنون ولم تعد تذكر كثيرا في الخطابات الثقافية، كالمسرح، بينما نجم الرواية عالميا هو الآخذ بالصعود والانتشار والكتابة والتجريب؛ ومع محاولات شبابية عربية كثيرة في منتديات جامعية وباجتهادات شخصية لتنمية المواهب المسرحية؛ إلا أنّ بث الروح في المسرح يبدو أمرا عسيرا في الوقت الحاضر، كما لو أن بوصلة المسرح العربي فقدت اتجاهاتها الصحيحة في زخم السرديات الروائية المتدفقة على الصعيد العربي في الأقل.

ولم يعد المسرح جاذبا أدبيا كما كان في السابق، وهذه ملاحظة تقريبية في انزواء المتلقي المسرحي وانسحابه إلى فنون أدبية وجمالية أخرى. لا بد للباحثين والمهتمين بالشأن المسرحي من الوقوف على أسبابه الحقيقية ومعالجته؛ فالمسرح نمط سردي حواري له جذر أصيل في التاريخ الأدبي العربي والعالمي.

ليس هناك ما يعيق تبادل الأدوار في الكتابة الأدبية من فن إلى آخر، فالأجناس الأدبية مفتوحة ومشاعة

مثل هذه التحولات في الكتابة من هذا الفن إلى غيره ليست نهائية وحاسمة بطبيعة الحال. وليست علامة ضعيفة يهرب فيها المبدع من نمط كتابة إلى غيره، لكن هنالك ما يستوجب هذا التغيير أحيانا. فالعقل البشري يستوعب هذه المساحة من التداخلات الاجتماعية والسياسية ولا يستوعب غيرها.

وهذا النمط التأليفي قادر على الاستجابة من دون غيره من أنماط الكتابة. كالرواية مثلا، لا لأن الرواية هي الأكثر تعبيرا عن إرهاصات الواقع – قد يكون هذا سببا – لكن بذرة الموهبة وجوهرها السري قد ينكشفان ويظهران في ظروف متأخرة تساعد على تنميتهما وإظهارهما حتى لو تأخر الوقت، لذلك نجد بعض الشعراء اتجهوا لكتابة الرواية عندما ضاق الشعر عليهم ولم يعد يستوعب تمظهرات الحياة الجديدة ولا إشكالياتها الكبيرة، وبالمثل نجد روائيين استهوتهم الكتابة الشعرية مع شيوع منافذ الإلكترونيات الجديدة وانتشارها مما ولّد علاقات أدبية وتبادل معرفة نوعيا. أي أنّ هذه الدوائر المفتوحة ساهمت في خلق شعور رومانسي سريع لا يمكن للرواية أن تكون منافسة له بسبب حجمها الطويل.

وبالتالي لا يوجد ما يعيق تبادل الأدوار في الكتابة الأدبية من فن إلى آخر. فالأجناس الأدبية مفتوحة ومشاعة، والمواهب الحقيقة قادرة على أن تتنقل من جنس أدبي إلى آخر. وتعني حتما في ما تعنيه القدرة الأدبية على الكتابة بأكثر من نوع أدبي. وهذه ليست جديدة في الأدبيات العربية ولا العالمية.

أنّ إشارة الأديب المسرحي المتحول إلى جنس الرواية، لا تعني “موت المسرح” لكنها تعني أن المسرح، وخطابه، لم يعد يلبي حاجة الكتابة في ظروف عربية متحولة سياسيا واجتماعيا. وعليه فإن تخلف المسرح عن مواكبة الأحداث والمصائر الجماعية في البلاد العربية أمر حاصل فعلا. وأنّ الجمهور المسرحي غادره إلى أفق آخر أكثر شمولية للحياة، مع أن التجارب المسرحية العربية لا يستهان بها قطعا. ولها تاريخ مجيد لا يمكن إغفاله على كل حال.

الكتابة بين الفنون الأدبية موضوع لا توجد فيه محاذير كبيرة. لكن هناك من يرى فيه نوعا من تشتت المواهب، وقد يكون هذا صحيحا إلى حد ما، لكنه بالنتيجة مران على الكتابة وجهد فكري خلّاق أن يكتب المرء بأكثر من جنس أدبي، ولا بأس أن تجتمع الموهبة على صنفين أدبيين أو أكثر، وفي أمثلة الأعلام الأدبية العالمية ما يشير إلى أن التنوع في الكتابة للأدباء هو إحدى سمات المعرفة الواسعة والامتلاء الفكري والثقافي.

فاليوناني كازانتزاكي قرأناه روائيا كبيرا لكنه شاعر أيضا. وشكسبير المسرحي العملاق شاعر أيضا. الأميركي الألماني تشارلز بوكوفسكي شاعر وروائي وكاتب قصة قصيرة. الهندي طاغور شاعر وروائي ومسرحي. الألماني فونتاني شاعر وروائي. والإسباني ميغيل ديثيربانتس شاعر ومسرحي وروائي.

والأمثلة وفيرة على الكتابة في أكثر من جنس أدبي مما يتعاطاه الأدباء بألمعية أدبية ناجحة وبمرونة لافتة للأنظار. إذ تنطوي هذه المشتركات الكتابية على قدرة ضمنية على تداول الأجناس الأدبية والمهارة فيها لخلق نماذج إبداعية ممكنة، فالثقافة الأدبية تسمح لمثل هذا التنوع الإيجابي بالخروج من نمطية تناول الجنس الواحد إلى أكثر من جنس.

https://alarab.co.uk/

وارد بدر السالم

روائي عراقي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش