بين الجاحظ وموليير / علي خليفة

 

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

كثرت المقارنات بين الجاحظ وموليير من قبل بعض الباحثين من خلال مقارنة كتاب البخلاء للجاحظ بمسرحية البخيل لموليير ولكنني في هذه المقالة سأتحدث في شيء آخر أعم وإن كان هذا لا يمنعني خلال ذلك من عمل بعض المقارنات بين كتاب البخلاء للجاحظ ومسرحية البخيل لموليير
ولا شك أن الجاحظ كان متنوع الاهتمامات عن موليير فقد كان الجاحظ أديبا ومتكلما ومؤرخا وعالما من علماء الحيوان وكان أيضا قادرا على قول الشعر -وجمع في عصرنا بعض شعره – أما موليير فقد صرف اهتمامه للمسرح ولم يعبأ بدراسته الحقوق فلم يعمل محاميا وظل يتجول سنوات طويلة في قرى فرنسا في القرن السابع عشر بفرقتِه المسرحية الجوالة ويقدم مسرحياته بها ويضحك كل من يشاهدها ويستفيد خلال ذلك خبرات كثيرة ثم استقر به الحال في فرنسا ورعى مسرحه الملك لويس الرابع عشر الذي كان يطلق عليه الملك الشمس لأنه انبهر بفنه المسرحي وقد حماه من كثير من الأشخاص الذين انتقدهم في مسرحياته من رجال الدين ومن غيرهم
وأهم صفة تجمع بين الجاحظ وموليير في رأيي أنهما رسولان للسعادة نشرا بأعمالهما المضحكة الابتسامة والضحكات ليس فيمن عاصرهما فقط ولكن أيضا في كل من يقرأ كتاباتهم المضحكة أو يشاهدها مشخصة في عمل درامي
وكان هذان العبقريان يمتلكان قدرات كبيرة في إضحاك الناس في كتاباتهما الكوميدية وليست نوادر الجاحظ في طرافتها والحس القصصي التشويقي فيها كنوادر غيره وقصصه الطريفة لا مثيل لها في صياغتها القصصية وإثارتها للفكاهة ولهذا لم يكن غريبا أن يقول الدكتور شوقي ضيف لو أن الجاحظ عرف الفن التمثيلي لأجاد فيه لمواهبه الكبيرة في الصياغة القصصية ولقدراته الكبيرة في الحوار
أيضا كان توفيق الحكيم يرى أنه يسير في حواره الرشيق المركز على خطا أستاذ الحوار في العصور القديمة عند العرب أقصد أبا عثمان الجاحظ
وموليير في مسرحياته لا مثيل له بين كتاب المسرح الكوميدي عبر عصوره في بثه الكوميديا في مسرحياته إننا نستثقل بحق بعض كوميديات شكسبير – عبقري التراجيديا – في بعض كوميدياته التي تقوم على التوريات والإشارات الجنسية التي كان يتقبلها الجمهور في عصره كما نرى في مسرحية العبرة بالخواتيم ونستثقل بعض الكتابات الكوميدية لكورني في محاولته الإضحاك في بعض مسرحياته الكوميدية كمسرحية الكذاب ومسرحية ميليت وتصرفنا مناقشات برنادردشو الفكرية والفلسفية في بعض مسرحياته عن الضحك أو الابتسام كما في مسرحيته رجل الأقدار
والحق أنه هناك كتاب كوميديا كثيرون لا يضحكوننا وماتت أعمالهم من حيث تأثيرها بعد عرضها الأول أما مسرحيات موليير ففيها روح الخلود – إلى أن تقوم الساعة – وفيها عناصر كوميديا إنسانية تضحك الناس في كل عصر وكل مكان وليس هذا بالقليل
ولم تكن مسرحياته للإضحاك فقط بل كان مع جرعة الفكاهة الكبيرة بها ينقد طوائف كثيرة في مجتمعه ويعرض نفسه لأذاهم فقد نقد رجال الدين المنافقين وفرق بينهم وبين رجال الدين الورعين في مسرحية طرطيف ونقد المتحذلقين من النساء في مسرحية المتحذلقات ومسرحية النساء العالمات ونقد مدعي النبل في مسرحية البرجوازي النبيل ونقد طوائف أخرى في مجتمعه وعرف بأسلوبه في نقد الأنماط وليس أشخاصا بأعينهم في مسرحيته التجريبية مرتجلة فرساي
والجاحظ كان هو الآخر يستخدم الفكاهة وسيلة للسخرية من بعض الطوائف في مجتمعه كنقده للبخلاء الذين كثروا في مجتمع البصرة التجاري في بداية القرن الثالث الهجري وسخر منهم في كتاب البخلاء ونقد أيضا مدعي النبل والشرف في كتابه النبل والتنبل وذم الكبر ونقد طوائف كثيرة في مجتمعه بريشته الساخرة
ومازلنا نقرأ كتب الجاحظ ذات طبيعة السخرية والفكاهة ككتابه البخلاء ورسالته في السخرية من المدعي للعلم أحمد بن عبد الوهاب ونضحك وكذلك لاتزال مسرحيات موليير الكوميدية الساخرة الناقدة لطوائف كثيرة تتواجد في كل عصر وكل مجتمع تضحكنا هي أيضا
لقد كان لدى هذين الكاتبين العملاقين قدرة كبيرة على الإضحاك وكان لديهما قدرة كبيرة في اكتشاف الجوانب المضحكة في تصرفات الناس وفي تلمس طباعهم الغريبة وكانا قادرين على أن يصوغا مشاهداتهما لأحوال الناس الغريبة في كوميديا إنسانية راقية يتذوقها الناس في كل عصر وكل مكان
وأختم هذا المقال عن هذين العبقريين بتساؤل هو هل من الممكن أن يكون موليير قد قرأ بعض المترجمات في عصره من كتب الجاحظ لا سيما كتاب البخلاء ؟
وأظن أن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة والأسهل للباحث أن يقول بالنفي فليس هناك إشارات يفهم منها أن موليير قد اطلع على مترجمات عن اللغة العربية وفي مسرحياته لا يتحدث عن العرب ولكن عن الدولة العثمانية ويبدي سخريته منها لأنها كانت في نزاع مع بعض الدول الأوربية آنذاك ولعل أكثر مسرحية سخر فيها من الأتراك والدولة العثمانية هي مسرحية البرجوازي النبيل
ومع ذلك فأنا أرى تشابهات بين بعض المواقف في مسرحية البخيل وكتاب البخلاء للجاحظ تجعلني لا أستبعد أن يكون عبقري الكوميديا موليير قد قرأ كتاب البخلاء للجاحظ من ترجمة له للاتينية تمت في الأندلس على وجه الخصوص – وقد كان أهل الأندلس شديدي الشغف بالجاحظ كما يفهم من رواية وردت في معجم الأدباء في ترجمة الجاحظ –
ومن وجوه التشابه بين مسرحية البخيل لموليير وكتاب البخلاء للجاحظ أننا نرى فروزين الدلالة والخاطبة في مسرحية موليير امرأة واسعة الحيلة تحسن الجدال والسفسطة وفي سبيل أَن تحصل من أرباجون البخيل على مال تمتدح عيوبه وتصورها له على أنها مزايا كشيخوخته وقبح وجهه
وفي كتاب البخلاء للجاحظ نرى كثيرا الشخصيات التي تسفسط لأغراض في أنفسها وسفسطتها لا تخدع من يقرؤها بل يضحك منها وهذا ما قصد الجاحظ إليه
وأنا أرى أن كتاب البخلاء للجاحظ مع كثرة الدراسات عنه فإنه لم يدرس فيه عناصر الفكاهة به بشكل علمي ومنها وجود الأنماط الكوميدية به كنمط الشخص السوفسطائي وأكثر بخلاء الجاحظ متكلمون ويلجئون للسفسطة كثيرا في كلامهم كما نرى تمام بن جعفر وسهل بن هارون وغيرهما في كتاب البخلاء
كذلك من وجوه التشابه بين مسرحية البخيل لموليير وكتاب البخلاء للجاحظ أننا نرى أرباجون البخيل في مسرحية البخيل يصفه طاهيه وحوذيه المعلم جاك بأنه ينفر من كلمة الإعطاء ويفضل عنها كلمة الإقراض
وأحد بخلاء الجاحظ ينفر هو الآخر من أن يوصف بالإعطاء حتى ليقول الجاحظ عنه إنه يحب كلمة أهدوه حتى لو كان الإهداء يضم الحيات والثعابين ما دام ينال هذا من غيره
وكذلك من وجوه التشابه بين أرباجون وبعض بخلاء الجاحظ أننا نرى أرباجون عاشقا ولكنه لا يستسلم لعشقه فيتخلى عن بخله في سبيل هذا العشق بل إنه يعشق بعقله لا بقلبه ولهذا لا يكفيه في المرأة التي يحبها أن تكون جميلة وشريفة بل لا بد قبل هذا أن تكون ثرية ولهذا يسأل الخاطبة فروزين عن أي ثروة يمكن أن تئول لمعشوفته ماريان عن أمها ليقدم على الزواج منها رغم كبر سنه كثيرا عنها
وفي كتاب البخلاء للجاحظ نرى أبا القماقم مثالا للعاشق الطماع فهو يسأل عن مال امرأة قبل أن يتزوج منها وحين سألوه وأنت ماذا عندك من مال ؟ أجاب ببساطة : الذي عندها يكفيها ويكفيني
وفي مسرحية البخيل لموليير نرى أرباجون يبخل على خدمه ويسيء معاملتهم ويحاسبهم على أقل الأخطاء ويخصم من رواتبهم وكثيرا ما لا يأخذون شيئا بعد توقيع العقوبات المستمرة عليهم لأقل الأخطاء التي يرتكبونها وأحيانا يلفق التهم لهم ليمتنع عن دفع النفقات إليهم
وفي كتاب البخلاء للجاحظ نرى أحمد بن خلف البخيل الثري يسيء لخدمه ويجوعهم ويشيع أنه يضربهم لأنهم يأكلون الجوارشن – وهو هاضم للطعام – حتى لقد قال شخص لكبير خدمه ألا تكفون عن أكل الجوارشن فيتوقف سيدكم عن ضربكم ؟ فيرد عليه هذا الخادم وهو يتألم : الجوارشن! ما نصنع به يا سيدي. .. والله ما أستطيع أن أكلمك من شدة الجوع فما حاجتي للجوارشن!
وبعد فهناك مواقف أخرى فيها تشابه في مسرحية البخيل لموليير وكتاب البخلاء للجاحظ مما يجعلني – كما قلت من قبل – أميل للظن بأن موليير قد قرأ كتاب البخلاء للجاحظ مترجما للاتينية على وجه الخصوص

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *