بيتر بروك في باريس يسأل: لماذا المسرح / عمار المأمون

 

 

 

 

المخرج والمؤلف البريطاني يستعيد ذكرى ومأساة المخرج الروسي مايرخولد الذي أعدمه ستالين.

حاز بيتر بروك الذي بلغ هذه السنة عامه الرابع والتسعين على جائزة أميرة أستورياس الإسبانيّة، كواحد من أفضل المخرجين في القرن العشرين، إذ بدأ مسيرته كمخرج مسرحيّ منذ منتصف الأربعينات من القرن الماضي، ومازال حتى الآن مستمراً بالعمل، باحثاً في الأشكال المسرحيّة من أقصى الشرق حتى أوروبا، ومطوراً نظريته الخاصة في إعداد الممثل وتقنيات العرض ومفهوم المسرح نفسه، والأهم “الحقيقة” التي يحويها المسرح ويحاول إنتاجها.

يستضيف مسرح “بوف دو نورد” في العاصمة الفرنسية باريس مسرحيّة “لماذا؟” لبيتر بروك، التي يصفها بأنه محاولة لاكتشاف جدوى المسرح، سواء على المستوى السياسي أو الفنيّ والجمالي، مفككاً عناصر العرض ومسائلاً إياها، وذلك لرثاء وتكريم ذكرى المخرج المسرحي الروسي فسيفولد مايرخولد (1874-1940) الذي قتل ستالين زوجته، ثم اعتقله وأعدمه مُتهماً إياه بمعاداة أهداف الثورة البلشفية وانتمائه للتروتسكيّة، وكأن المسرح الذي وصفه مايرخولد بأنه كالديناميت أفقده حياته، بعكس صديقه مايكوفسكي الذي قرر الانتحار متحدياً السلطة السوفييتية التي كانت تهدده.

ندخل صالة المسرح لنرى سجادة وبضعة كراسي كعادة عروض بروك السابقة، حيث الديكور شديد البساطة، يلعب فيه ثلاثة ممثلين شخصياتهم الحقيقية مُرتدين ثياب التمرين الخفيفة، منتقلين بين أدوار صغيرة، ليخبرونا بداية أن المسرح هدية من الآلهة، أعطاها للبشرية في اليوم السابع من الخلق، لأنّ الناس أصيبوا بالملل، ليقول لهم حينها “ليكن هناك مسرح”، فكان المسرح كشكلٍ جمالي لتسليتهم.

لكنهم وبعد شجار احتدم بينهم عن الشخص الأهم في العرض المسرحي سألوا الآلهة مرة أخرى أن تحدد لهم من الأهم: المخرج، الممثل، مدير الخشبة…الخ، ليكون الجواب في رسالة تحوي كلمة واحدة “لماذا؟”، الجواب الذي لم يعجب البشر، تركهم في بحث دائم عن أشكال جديدة للمسرح، ينقلنا إثرها الممثلون إلى بداية القرن العشرين وأشكاله المسرحيّة.

أطياف مايرخولد
أطياف مايرخولد

سؤال لماذا المسرح تكرر على ألسنة الكثيرين ممن عملوا به، ونهم مايرخولد الذي كان مُتحمساً للثورة البلشفية، وكان لديه حينها مسرحه الخاص وفرقته الخاصة التي تعمل فيها زوجته، والأهم أنه كان يطور شكلاً مسرحياً جديداً مأخوذاً بحماس الثورة، إذ أنشأ مسرحاً مفتوحاً للجميع لا تذاكر فيه ولا أبواب مغلقة، يتداخل فيه الجمهور مع الممثلين، الذين نراهم على الخشبة أمامنا يشرحون لنا آليات التمثيل المختلفة، والتمارين التي يقوم بها الممثل لخلق “الحقيقة” المسرحيّة، وجعلها قابلة للتصديق، لنختبر معهم كيف يعمل الجسد كالمحرك الأول للمعنى، يليه إدراك الذات لما يحصل.

فنحن نخاف جسدياً أولاً كرد فعل طبيعي، ثم “نشعر” بالخوف، فالممثلون يشرحون لنا نظرية مايرخولد في البايوميكانيك وإعداده للمثل، ليصفوا لنا بعدها عروضه وكيف كانت تؤدى ويُبنى فضاؤها الغني بصرياً، دون أن نرى منه شيء، سوى ما يرسم في مخيلتنا إثر الأداء شديد الاحتراف والاتقان للممثلين، وكأن جواب من الأهم في المسرح يعود بصورة غير مباشرة للممثل، مولّد الحقيقة ومختبرها على الخشبة.

يخبرنا الممثلون عن مأساة مايرخولد، وكيف اتهم بالجاسوسية ثم قتلت زوجته واقتلعت عيناها، ثم يقرأون لنا من رسائله إليها ثم إلى القاضي الذي يخبره مايرخولد بأنه اعترف تحت التعذيب، ووقع اعترافات كاذبة بسبب الأذى الجسديّ الذي تعرض له، والأهم، نستمع إلى سؤاله عمن اتهمه بالجاسوسيّة، ولفّق له تهمة كهذه، ليتركنا الممثلون بعدها أمام سؤال محيّر: هناك حقيقة الممثلين كأشخاص، وحقيقة المسرح، و”الحقيقة” السياسيّة، لكن، أي واحدة منها قابلة للتصديق؟ ليترك الجواب لنا، نحن المشاهدين الذين ننسى أن نصفق بعد نهاية العرض لشدة التأثر.

يخبرنا الممثلون عن مأساة مايرخولد، وكيف اتهم بالجاسوسية ثم قتلت زوجته واقتلعت عيناها
يخبرنا الممثلون عن مأساة مايرخولد، وكيف اتهم بالجاسوسية ثم قتلت زوجته واقتلعت عيناها

ما يثير الاهتمام في العرض هو الصيغة التي اعتمدها بروك لتكوين مساحة اللعب، فالإضاءة على الجميع، لا فرق بين الممثلين والجمهور الذين يشاركون في العرض أحيانا، حين يشرح الممثلون لنا آلية عملهم داعين إيّانا إلى تقليدهم ومطرين على أداء البعض، هم يحدّقون بنا واحداً واحداً أثناء حديثهم عن صنعة المسرح، والمسافة بين الممثل وبين الجمهور، تلك التي تملؤها العاطفة المتبادلة بين الاثنين لخلق التصديق، لنرى أنفسنا أمام درس في التمثيل والأداء، يدفعنا لنسائل أنفسنا في حياتنا اليومية، كيف نكرر أفعالنا وردود أفعالنا بـ”طبيعية” وتصديق تام.

حتى لو وضعنا في ذات الموقف عدة مرات، أما الممثل الذي يتعامل مع الوهم، مضطرٌ لأن يكون مُقنعاً في كل مرة يعيد فيها عرض ما، مكرراً الحقيقة المسرحيّة دون خطأ أو سهو ينفي التصديق، هنا تأتي تساؤلات مايرخولد عن المسرح نفسه، بوصفه مساحة يشعر فيها المشاهد كأنه في بيته، كل من فيها “صادق”، في ذات الوقت مُتقن لدوره وحركاته، التي تخلق الوهم بالحقيقة، لنكمل نحن المشاهدين المعنى في عقولنا.

هذه التساؤلات عن “الصدق” على الخشبة تحيلنا إلى السؤال الأبرز في العرض، ما الخطأ الذي ارتكبه مايرخولد أثناء اللعب المسرحيّ ليستحق الإعدام، ما هو الخطأ الذي يمكن أن يودي بحياة مخرج مشهور حاز على وسام ستالين؟

في ذات الوقت، هل يمكن لنا نحن في حياتنا العادية أن نرتكب ذات الخطأ الغامض في ظل دكتاتوريات أنظمة تنتهك أجسامنا؟ أنظمة نحن فيها ضحية عنف بسبب أخطاء لا ندري ما هي، ما يدفعنا لـ”نكذب” في سبيل النجاة، كون “حقيقتنا” لن تحررنا، لأن “الحقيقة” التي تمتلكها السلطة مختلفة، وغير قابلة للجدل، وتكذيبها محفوف بالمخاطر.

_________________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني