“بكاء العربي”.. شمس ابي عبد الله الغرناطي تغرب على المسرح #الامارات

 

“بكاء العربي”… شمس ابي عبدالله الغرناطي تغرب على المسرح #الامارات

ما زال مهرجان “أيام الشارقة للمسرح” هو الحدث الأهم عربياً في مجاله، منذ انطلاقته عام 1984، ومع بلوغه أخيراً دورته الثلاثين، نجح في إحداث نهضة مسرحية في دولة الإمارات العربية المتحدة، فضلاً عن كونه مختبراً مهماً لنخبة من المسرحيين العرب يتبادلون الآراء والخبرات في ما بينهم سواء من خلال الندوات أو العروض. كما استطاع هذا المهرجان خلال مسيرته الطويلة تقديم العديد من الوجوه المسرحية سواء على مستوى التأليف أو الإخراج والديكور والسنوغرافيا والنقد، ما أسهم في مد الحراك المسرحي العربي بمزيد من الحيوية.

ومن بين العروض المسرحية اللافتة التي قدمتها “الأيام” في دورتها الثلاثين عرض “بكاء العربي” لـ”جمعية دبا الحصن للثقافة والتراث والمسرح” من إخراج وإعداد مهند كريم، عن عن نصي “الحريق” لقاسم محمد و”ثلاثية الأندلس” لوليد سيف. يتناول العرض قصة ضياع غرناطة والمشهد الأخير لغروب الأندلس وانسلالها من بين يد العرب، وقد وفق كريم في اختيار عنوانه، “بكاء العربي”؛ إلى حد كبير، مسقطاً أحداث الماضي على الحاضر.

ويبدأ العرض براوٍ خلف الخشبة يصف غرناطة، فيما شعارها “لا غالب إلا الله” ظاهر للمشاهد. يظهر الممثل نبيل المازمي في دور “أبو عبدالله الصغير”؛ بشعره الأسود والذوائب فضية مرتدياً زياً يجمع بين اللونين الأبيض والأسود ويتحدث من خلف الزجاج ليروي قصة ضياع غرناطة بنفسه. هذا الحديث من خلف الزجاج يعطي بُعدين؛ الأول الزمني، فكأنما أبو عبدالله في متحف كأي مومياء أتاح لها خيال المؤلف الحياة لتحكي قصتها بنفسها. والبعد الثاني يجعل ذلك الجدار الزجاجي أقرب إلى قفص اتهام. يقول: “مساء الخير… هو (يقصد الراوي خلف الستار) قدَّمني بمولاي محمد بن علي ولكن في الأصل هذا ليس اسمي… اسمي هو الصغير. أبو عبدالله الصغير ملك غرناطة في الأندلس؛ إسبانيا حالياً. بالتأكيد منكم من عرف حكايتي بعد أن عرف اسمي، ومنكم مَن يسأل لِمَ يحكون لنا هذه الحكاية للمرة الألف؟ يحكونها لأنني قررت أن أجيء بنفسي الليلة بعد كل تلك السنوات لأرويها لكم كما أراها. لأزيح الثقل عن كاهلي”. ثم يظهر “البهلول” مضحك الملك الذي يقوم بدوره أحمد أبو عرارة ويصف اختلاء أبو عبدالله الصغير بإحدى الفتيات، يختلس المتعة في أحد الشوارع المطروقة؛ لا بين أروقة قصره؛ لأن لذة العيش من وجهة نظره هي في الاختلاس والمبذول من دون تعب مملول. ذلك المشهد يكشف استغراق الملك في ملذاته، بينما ملك الإسبان فرديناند الثاني يحاصر المدينة. ويكشف المشهد كذلك التواكل باسم الدين وعدم إعداد العدة للعدو، من خلال التناقض بين أفعال ملك الدولة وشعار دولته “لا غالب إلا الله”، ذلك التواكل الذي سيعيره به ملك الإسبان حين يذهب للاستنجاد به ضد شعبه الذي ثار عليه فيقول له: “لو كنتَ ذكياً لوصلتَ بفتوتك وشجاعتك مكاناً عظيماً، ولكنك مشغول بالعواطف وشم الرياحين والتظلم من غدر الزمان”.

ويشتد التوتر على خشبة المسرح حين يجد أبوعبدالله الصغير نفسه مضطراً لتسليم غرناطة لعدوه الإسباني، ويبرر لنفسه هذا الفعل أثناء حديثه مع نديمه قائلاً، “ما يؤلمني هو أنني لم أصنع هذا العجز بنفسي. لقد ورثتُه كابراً عن كابر وما زال يتنامى حتى وصلني على هذه الهيئة. ولو كان صقر قريش مكاني وأورثه مَن كان قبله ما أورثوني من الضعف والعجز والذِلة للرومي لما كان حاله أفضل من حالي. قهروني أيها البهلول. قهروني ملكاً بعد ملك وكأنهم كانوا ينتقمون مني. لماذا يتحمل الأخير ذنوب الأوائل؟”، فينصحه البهلول بالمقامرة بملكه مع فرديناند الثاني، على لعبة “الشطرنج” ومن يفوز يحكم على الآخر بما يرى. وهو ما يحدث ويفوز أبو عبدالله ويطلب من غريمه فك حصار غرناطة، فيوافق بشرط أن يدفع له الجزية، ويستعين بجُند من عنده من أجل حمايته، فيوافق، فيكون بذلك كمن وضع السم في العسل، ذلك الإجراء الذي سيؤلب الشعب ضده، لتكون بذلك نهاية دولة الأندلس التي دامت لأكثر من ثمانية قرون.

شخصية البهلول

ولم يكن عبثاً أن يسند المخرج للفنان أحمد أبو عرادة تجسيد شخصيتي البهلول وفردينايد الثاني، فتنقَّل بين الدورين في سلاسة. فالشخصان اللذان منحهما أبو عبدالله ثقته كانا وجهين لعملة واحدة؛ يعملان على سقوط ملكه، الأول لأسباب دينية وعقائدية والثاني لأسباب نفسية عاناها في الرق، إلا أنهما يبديان النصح لأبي عبدالله الصغير فيما يكمنان الشر كل الشر له بغرض الإيقاع به، فذلك هو الملك الذي فرط في مُلك أجداده بسهولة شديدة وتغافل عن دور رعيته وضرورة الاستناد إليهم في أوقات الأزمات. وهكذا نجد البهلول ينشر بين الرعية أنه هو الذي يحكم، وأن ملكهم لعبة في يد الإسبان ما أفقدهم الثقة فيه، وكانت العاقبة ضياع غرناطة، وبكاء الصغير والمقولة الشهيرة لوالدته عائشة الحرة: “ابك مثل النساء مُلكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال”.

فالرسالة الأهم التي يريد أن يقدمها المخرج في هذا العرض هي إغفال الحكام لدور الشعب وقت السلم وكذا الأزمات ووضع ثقتهم العمياء فيمن هم ليسوا أهلاً لها، هو السبب منذ قديم الأزل وحتى الآن في استمرار “بكاء العربي”، فالأولى كما جاء على لسان أحد أبطال العرض قوله للملك: “مَن شاء أن يعصم نفسه وبلده من العدوالغازي، فخير ما يعتصم به هو شعبه”.

وعمل المخرج؛ سواء في العرض أو النص الذي أعدّه، على تيمة كسر الإيهام، فنحن هنا لسنا أمام مسرحية تاريخية، فمكتوب على منشور العرض “هذا العمل ليس عملاً تاريخياً إنما فانتازيا”. وحتى يخرج العمل من تاريخيته نجده يبدأ بأغنية لأم كلثوم، ويستفيد من المرايا فينعكس الجمهور عليها بما يجعلهم حكاماً على ما يدور من أحداث، فهم ليسوا مجرد متفرجين بما أنهم مطالبون بأن يبدوا رأياً أو حكماً على ما يحدث. كما أن وجودهم على خشبة المسرح من خلال انعكاسهم يوحي بأنهم مشاركون فيه. كما أن المخرج استخدم أشعاراً حديثة في ثنايا الحوار تنزع التاريخية عن العمل مثل قصيدة “في مدخل الحمراء كان لقاؤنا” للشاعر نزار قباني، و”لاعب النرد” بصوت محمود درويش، والاعتماد على موسيقى مارسيل ورامي خليفة.

وعموماً فإن العرض تميَّز بقوة الحوار والأداء الحركي للممثلين، فضلاً عن تميز بقية فريق العمل؛ من عبدالله الحمدي مصمم الإضاءة ومساعده محمد عطية، وعبدالله الجروان مصمم ومنفذ الصوت والمؤثرات، ومحمد علي في المكساج، وسالم المازمي في تصميم الملابس، وجاسم السويدي وجاسم العرشي في تصميم المكياج، وسلطان المازمي في تصميم الديكور والأكسسوارات.

 

عبد الكريم الحجراوي

https://www.independentarabia.com/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …