“النّمس”.. مسرحية تشخّص تناقض المغاربة بين الافتراضي والواقعي #الأردن

من السجون الافتراضية واستبدال “الواقع” الافتراضي واقع النّاس، إلى التجسّس، والخداع، وانفصام الشخصية المغربية بين التقليد والمعاصَرة، مرورا بالفساد السياسي، والنّفاق، واستغلال الدين…تطرح مسرحيّة “النّمس” لمخرجها أمين ناسور مجموعة من الإشكالات التي يعرفها مغرب الألفية الثالثة.

واقتبسَ عبد الإله بنهدار، مؤلّف المسرحية التي عُرِضَت، الأحد، خلال الدّورة الثّانية عشرة من مهرجان المسرح العربي بالعاصمة الأردنية عمان، من رواية الشاعر والإعلامي ياسين عدنان، المُعنوَنَة بـ”هوت ماروك”؛ وشخّص ما كتبه ممثّلون مغاربة، هم: عبد الله ديدان، وحسن مكيات، وعبد الله شيشة، وهاجر الشريكي، ومونية لمكيمل.

مسرحية “النّمس” تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، وتحكي بلغة تمزج الدّارجة المغربية باللغة العربية واقعا باغته العالم الافتراضي، فأنتج شخصيّات ذات بعدَين، واقعي و”افتراضي مدّعى”، تلتقي بعضها بعضا، تحت سماء الرّقيب الذي أبى إلا أن يجد له مكانا في العالَم الجديد.

في مقهى افتراضي يعيش العوينة أو “النّمس”، الذي يتقمّص دوره الممثّل حسن مكيات، حياة أخرى رقمية مراقَبَة، تؤثّر في حياته الواقعية؛ تنسّق البحوث الجامعية المنقولة، وتدبّر لقاءات مع الحبيبَتين، وتبني عائلات جديدة، دون أين يؤثِّر التطوُّر التّقنيّ على المضامين؛ فتستمرّ عادات السّروال الدّامي الذي يثبت “العذرية” رغم أنّ الخطبة تمّت عبر أكثر وسائل التّواصل معاصَرة وتطوُّرا.

وتبرز مسرحية “النّمس” إلى أيِّ حدّ كشفت سرائرنا مواقع المحادثات، ومواقع التّواصل الاجتماعي بعدها، والإنترنت بشكل أعمّ؛ فبدخول الفضاء الرّقمي تُفقَد الخصوصيّات، وتُكشَف الأسرار والسّرائر، وهو ما يصرّح به “النّمس” صراحة: فضحنا العالم الافتراضي وعرّانا.

هذا “النّمس” إنسان موجَزٌ عاطلٌ شغّلته زوجته، بتدخّل، في مقهى للإنترنت، فهام في قلب العالم الافتراضي، وعاش حبّه الافتراضي، تحت مراقبة أمنيّة افتراضية، واكتشف كذب الشّخصيّات الافتراضية بعدما رآها على غير ما تقدِّمُ نفسها عليه في العالم الواقعي.

ولم تكتف الشّخصيّات الفارّة من رواية “هوت ماروك” بسرد حكايات اللجوء الرّقمي، والخيانة والوَلَه الرّقميّين، بل تعدّتهما إلى “الجهاد الرّقميّ”، وتجييش الجواري باستغلال خطاب يعد بما بعد السّماوات، للظّفر بنزوة بين دنيا النّاس الواقعية والافتراضية.

وفي مشهد محبوك بعناية يحيل بجلاء على كيفية تأقلم المضامين الفاسدة مع تطوّر التّقنيات، يتحالف التّديُّن الكاذِب مع السّياسة، ليُجَيّشَ مقابل “عرض الدّنيا” أصوات النّاس، بعدما جمعهم مشجّعا على نُصرَة دين الله في أقاصي الأرض.

وليصَوِّرُ هذا المشهد كيف يتلبّسُ “الكاذبان” شخصيّتَين افتراضيّتَين للتّفاوض، يحرّك الممثّلان شيشة وديدان ممثّلين آخرَين كما ولو كانا دُميتَين، ليُسقِطَا القناعَين الرّقميّين، بإسقاط الدّميتَين الآدميّتين، بعد الوصول إلى اتّفاق مرض بين الطّرفَين يحقّق مآربهما، ولو كان ثمن ذلك بيع الأخضر واليابس وإفساد البلاد والعباد.

وتُمَيِّزُ هذه المسرحيّةَ طرافةٌ وفكاهة خفيفة الظلّ أحيانا، ولو ثقُلَ ظلُّها وكثُرَ سبابها وصياحها بين الحين والآخر، وترافقها، بكمال، ألحان مغربيّة مُعَصرنة يحييها على المسرح ياسر الترجماني وعبد الكريم الشبوية، دون تقَيُّد تامّ بنصّ المسرحيّة، فيسترق الممثّلون من جمهورهم ومن بعضهم البعض ابتسامات وضحكات، بقفشات خارجة عن النصّ، أو حتّى بإحالة على أحداث راهنة، مثل تأخّر طائرة تقلّ بعض ممثّلي المسرحية بعد وقوفها في شرم الشيخ المصرية في اليوم ذاته.

ويسهِّل ديكور المسرح الذي صمّمه طارق الربح انتقال الشّخصيات من الواقع الافتراضي، الذي تمثّله “صورة الحساب”، إلى “مقهى الإنترنت” الذي تحكمه قواعد صارمة: لا مشروبات، ولا مأكولات، ولا ثنائيّات… مرورا بالفضاءات الواقعية العامّة: شوارع مدينة مرّاكش التي تعبرها درّاجة نارية، أمكنة اللقاء، فضاء الاحتفال بالزّواج و”إتمامه”، مع تسبّب يسر إعادة تركيبه في ارتباكات نجح الممثّلون في تداركها بضحكات صادقة أو سباب مازح موجّه للسينوغراف في قلب المسرحية.

وبعدما قدّم لنا “النّمس” في بداية المسرحية قصّتها وسياقها الرّوائي وطبيعة شخصيّته، جاء خطيبا في متمّها ليضفي عليها طابعا “ملتزما صارما”، بعدما كانت منسّمة بكوميديا اجتماعية ساخِرة، فتحدّث عن مدى واقعيّة أحداثها، ومهّد مع “فرقة المسرح المفتوح” لإسدال السّتار بكلمات مستعارة من فرقة “جيل جيلالة” عن تماثل حال شخصيات المسرحية مع أحوال الجمهور، والحال الذي طال، وويل الأمّة لتعويلها على شبابها العاطِل، وخيرها المنهوب الذي بيع دون مزايدات.

(هيسبريس)

شاهد أيضاً

وادي الذئاب تعيد للمسرح الصومالي حياته بعد ثلاثة عقود من التوقف

        وادي الذئاب تعيد للمسرح الصومالي حياته بعد ثلاثة عقود من التوقف …