النصّار مخرجاً وكاتباً بكعبهِ العالي

النصّار مخرجاً وكاتباً بكعبهِ العالي

شهادة مرّة بطعم الكوميديا

علي عبد النبي الزيدي

ما الذي حدث ما بعد 2003 وجعل المخرج كاظم النصار يرى أن الكوميديا هي الأكثر قدرة على استيعاب ما يحدث؟ وهو الذي بدأ ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي مخرجاً للتراجيديات بمعناها وشكلها الحديث، التراجيديا العراقية بعروض ما بعد الحرب التي قدم فيها العديد من مسرحياتهِ ومنها (بستان الكرز وأمام الباب وحياة مدجّنة وجزرة وسطية والسحب ترنو إليَّ) والتي ما زالت عالقة في ذاكرة حياتنا المسرحية، وشكلت إضافة مهمة صحبة العديد من المخرجين من جيله وهو يطلق عليهم تسمية جيل الحساسية الجديدة، وهو جيلٌ خرج من معطف الحروب والمجاعات والقمع والاستلاب واكتوى بأسئلة هذه المفردات المرّة، وراح يحاول أن يسجل لنفسه موقفاً عضوياً في عصر الدكتاتورية، وكان على قدر كبير من الشجاعة والجرأة نستطيع القول اليوم بأنه كان مسرحاً معارضاً في الداخل العراقي أو لنقل مسرحاً مُعرِّياً وفاضحاً لما يحدث، وكنّا شهود عيان على تلك الأعمال المهمة التي استطاعت أن تشير الى اسم مهم في خارطة مسرحنا العراقي، فتلك العروض تؤكد بقصدية لما حدث من كوارث غيّرت حضارة وتاريخ وطن من أقصاه الى أقصاه وهدمتهُ ثقافيا واقتصاديا واجتماعياً،

خطاب جمالي

وفي نفس الوقت تجد هذه العروض لا تتنازل عن خطابها الجمالي على الإطلاق وهذه إشارة تجدر التأكيد عليها، بل أن هذه العروض استطاعت أن تواكب حركة الحداثة التي أخذت تتأكد بوضوح مطلع التسعينيات بشكل فعلي رغم وجود ملامحها قبل هذا التأريخ في العراق، ولكن هذا العقد (المسرحي) –وأعني التسعينيات- له طعمهُ الخاص وروحهُ ونكهتهُ، ولم تكن عروض المخرج كاظم النصار تسير لوحدِها كخطاب جديد بل كانت ضمن عروض جيلٍ أخذنا نتلمس حساسيته بحسب النصار، ومن هنا أرى أن كلَّ مخرجٍ من هؤلاء كانت لديه مناخاته وبيئته وتصوراته الخاصة، وأجدني مُلزما أن أؤكد بأن المسرح العراق عاش عصراً ذهبيا في التسعينيات جمالياً وفكرياً وهو الأكثر معارضة للنظام السياسي من بقية الفنون والآداب الأخرى لما يمتلكه من قدرة على التأثير بالمتلقي وبشكل جماعي وكان النصار أحد فرسان تلك الحقبة التي تشكلت فيها تجربتهُ بشكل واضح. ولكن النصار وجد نفسه مع السنوات الأولى ما بعد عام 2003 متأملاً تارةً مراقباً تارةً أخرى لما يجري، وبدأت تتكوّن عنده ما أسميه أنا بخيبة المثقف العراقي من تغييرٍ كان قد حلمَ به وقدّمَ من أجله الكثير من العطاءات مسرحياً، لذلك وجد النصار ضآلته بالسخرية من ما يحدث باعتبارها اللغة الأكثر قدرة على قراءة الواقع المرّ الذي يعيش في داخله، وبالرغم من أن مناخات التراجيديا في عروضه الأولى لم يتخلى عنها نهائيا وحاول أن يوظّفها في العديد من عروضه الإول ما بعد 2003 ومنها (خارج التغطية, نساء في الحرب، مطر صيف، وعاشوا عيشة سعيدة) ونجد ملامح السخرية الخارجة من عباءة الكوميديا قد توافرت عليها عروضه القارئة للألم اليومي ما بعد الخيبة، ولكنه كان يريد الذهاب الى منطقة أخرى تختلف وأكثر قدرة على استيعاب المشهد السياسي المرتبك والذي أنتج جحيماً ونزيفاً يومياً وسواها من هذه المفردات، هذه العروض جعلها تحت عنوان (الكباريه السياسي) بعروضه المهمة.. مسرحية أحلام كارتون التي كتبها كريم شغيدل ومسرحية سينما التي كتبها بنفسهِ وأخرجها، وهو السؤال الأول الذي طرحته في عتبة هذه الأوراق.. ما الذي حدث ما بعد 2003 وجعل المخرج كاظم النصار يرى أن الكوميديا الأكثر قدرة على استيعاب ما أنتجته الحياة السياسية عندنا في العراق والتي هيمنت بجهلها وفسادها وفشلها بشكل صارخٍ على الحياة الاجتماعية في العراق، وهل يمكن للكوميديا في الكباريه السياسي، أن تعبرَ عن الألم الذي نغرق فيه منذ سنوات طويلة أفضل من قدرة التراجيديا في فضح وتعرية ما يجري سياسياً؟ أم أن الموضوع له علاقة بذائقة التلقي الجديدة التي بدأت تتوضح بشكل بارز في السنوات الأخيرة مع وجود مشهدٍ سياسيٍّ مأزوم؟ وقد وجدت هذه الذائقة من وسائل التواصل الاجتماعي المكان الأسرع في التعبير عن مشكلات الواقع، وكأننا نشهد شكلاً جديدا من المعارضة ومن نوع آخر من خلال هذه الكوميديا الصارخة التي يراها المخرج والكاتب كاظم النصار الملاذ ليس الأخير الذي يستطيع من خلالهِ طرح الكثير من أفكارهِ ورؤاه ليس عراقياً فحسب بل عربياً أيضاً.

امتداد تجربة

ولا يمكن لي الفصل بين النصار مخرجا من جهة وكاتباً ساخراً من جهة أخرى، فكتابه (ديمقراطية بكعبٍ عال) هو امتدادٌ لتجربته في الكباريه السياسي، أو لنقل فيها مناخات ووعي ما قدمه من تجربةٍ مهمة كمخرج مسرحي ساحباً ما يكتبهُ الى خشبة المسرح وموظفاً إياها بعمق. يجعلك النصار في هذا الكتاب وبذكاء أن تعتقدَ ومن الأسطر الأولى لكتابته أنك أمام حدث حقيقي عاشه الكاتب أو يُوهمك بأنه حاصل فعلا ويريد منك أن تشاركه هذا الحدث بطريقةٍ وأخرى، ولكن سرعان ما تجد نفسك أمام قضية أخرى تماما حبلى بالسخرية بشكلٍ يدعو للضحكِ بصوتٍ عالٍ جداً وهو يصدمُكَ ببعض المرجعيات الشعبية الشهيرة ببيتٍ شعريٍّ هنا  يشير الى اسمٍ مطربٍ ومطربةٍ هناك يعرفها الأغلب باغنياتها المعروفة على المستوى الشعبي. هذا الكتاب أبطاله العديد من الشخصيات وهم حيواتٌ مختلفةٌ يتعايش معهم النصار يوميا ويصغي لهم باهتمام ولا ينظر لهم من ثقب الباب، لأنه منتمي لكل هؤلاء بحب كبير، الأمر الذي يجعل القارئ يعيش حيرةً بين ما هو حقيقي وبين شفراتٍ يبّثها النصار للقارئ وعليه فك تلك الشفرات حتى لتجد نفسك في ورطة الألم الذي يضعك فيه وينتهي ذلك بالضحك على كل شيء، الضحك على كل ما حدث ويحدث لنا، وبينما أنت منشغلٌ بقراءة ما يكتبه النصار من يوميات يأخذ ببيت شعر ساخر من قبيل (بجه بيتي بغيابك والدمع طابوك.. يعني أنا بغيابك منهجم بيتي) فمتزج عندك الألم بالضحك، وهو هنا يستعير البلاك كوميدي بوصفهِ نمطاً من الخطابات الواخزة بتعريتها وفضحِها وكشفِها عن المسكوت عنه مستخدماً الضحك أداةً لقراءةِ الواقع العراقي ما بعد 2003? هذه القراءة كما يراها النصار لها قدرةٌ عجيبةٌ للدخول الى روحِ المتلقي والتأثير فيه.

ttps://www.azzaman.com

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …