الناقدة الفَلاَّحَة

841619

أمام المنصّة

«أعلنت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي أسماء الفائزين بحوائز المؤسسة لعام 2016 وهي (جائزة الكويت) المخصصة للباحثين الكويتيين والعرب و(جائزة الإنتاج العلمي) المخصصة للباحثين الكويتيين و(جائزة أنور النوري لأفضل أطروحة دكتوراه في التربية في العالم العربي… فاز في المجال الثالث (الفنون والآداب – دراسات في الفنون التشكيلية والمسرحية والموسيقية) مناصفة كلّ من الأستاذة الدكتورة نهاد محمد صليحة (مصرية الجنسية) أستاذ الدراما والنقد في المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون في جمهورية مصر العربية لتميزها في الحركة المسرحية المصرية، والعربية، والعالمية، وإبداعاتها باستخدام مناهج النقد ما بعد الحداثة…»

فلاش باك أول

سأعود إلى موقفيّن أو وضعيتين أراهما سبب عنونة هذا المقال بالناقدة الفلاحة. يرجع الموقف الأول، إلى المرة الأولى التي التقيت فيها بالدكتورة نهاد صليحة وكان ذلك سنة 1999م، في أثناء انعقاد الدورة السادسة لمهرجان الفرق المسرحية الأهلية الخليجية بمسقط حيث شاركت فرقة (فناني مجان المسرحية الأهلية) بمسرحية (عائد من الزمن الآتي) تأليف وإخراج الدكتور عبدالكريم جواد وفازت في حينها المسرحية بثلاث جوائز في التمثيل والسينوغرافيا. ومع فرقة مسرح مسقط الحرّ التي كنت أنتسب إليها في ذلك الزمن وسعينا كفرقة إلى تقديم رؤى مغايرة للمسرح في عمان على صعيد النصّ والعرض، حاولنا أن تشارك الفرقة بمسرحية (الرهينة) في مهرجان الفرق الأهلية الخليجي لكننا لم نستطع حتى أن نكون عرضا موازيا!، ثٌّم اهتدينا إلى حل وسط بأن نكثف جهودنا، ونركزّ العمل لنتشرّف بتقديم مسرحيتنا على هامش المهرجان، وفعليا قمنا بدعوة ضيوف مهرجان المسرح الخليجي ووفرنا لهم وسيلة النقل على حسابنا، كما قمنا بتهيئة مسرح الشباب في دارسيت ليكون صالحا للعرض حتى يخرج عرض المسرحية بصورة لائقة بالفرقة. وكان من بين ضيوف المهرجان الخليجي الناقدة الدكتورة نهاد صليحة، والموقف الذي أتذكره أن الصالة كانت قد مُلئت بجمهور متعطش للفرجة ولم تبقَ ثمة كراس للجلوس؛ إذَ ضجت الصالة بالعائلات، وحينما دخل الضيوف، بالطبع كانت كراسيهم محجوزة لكن هناك من جلس عليها، ولم تجد الدكتورة نهاد حرجا من الجلوس أرضا فقلّدها بعد بعض الذين كانوا وقوفا في أماكن متفرقة بالصالة. أذكر أننا حاولنا ثنيها عن ذلك بحيث قام أحد الحضور تاركا لها كُرسيه عن طيب خاطر، لكنها بإشارة من عينيها الباسمتين علينا التوقف عن ذلك وعبثا أن نحاول، فهي كما قالت تشعر بالراحة.
في الواقع لم يكن سلوك الدكتورة نهاد من السلوكيات الدارجة في مجتمعنا، فلم أشاهد أحد المسرحيين، كتّابا ونقّادا أو مخرجين وممثلين، يفعلون مثلها، فخطر في بالي على الفور أن هذه الإنسانة تتعامل ببساطة مع الأشياء، ولا يعني لديها وجود كرسي طالما أن الوليمة الكبيرة حاضرة: العرض المسرحي.
فلاش باك ثان

وتتصل وضعية هذا الفلاش بالدورة السابقة لمهرجان الفرق المسرحية الأهلية الخليجية بمسقط، ولكن بدل أن تكون أحداثها في مسرح الشباب بدارسيت، تجري حيثيات الوضعية في قاعة إسمنتية مثلجة من قاعات فندق مسقط أنتركونتننتال، حيث استضاف المهرجان ضمن برنامجه الثابت على إقامة ندوة تطبيقية مصاحبة للمهرجان، دارت أوراقها حول محور كبير بعنوان (النصّ والتقنية إلى أين؟)
وفعليا، السؤال يتسع بعدد التيارات المسرحية التقليدية والحداثية وما بعد الدراما؟ إلى أين نريد الوصول بالنصّ المسرحي؟ وإلى أين ستمضي بنا المنصَّة، وما العمل مع التقنية المتطورة في ظل أنظمة رأسمالية جشعة؟ والسؤال الأهم: ما نوع الفرجة المسرحية المستقبلية؟ هل سيحافظ الجمهور على أصول الفرجة والمحاكاة التقليدية؟ كيف سيكون شكل التواصل الاجتماعي؟ هل سينتج المجتمع أشكالا غير اجتماعية للتواصل كما تفعل اليوم وسائل التواصل المنعوتة تجاوزا بالاجتماعية؟ إن ردود الفعل والإجابات ستكون متباينة وهذا ما يؤسسه النظر إلى المسرح والفرجات واعتبارهما مؤسسة اجتماعية.
في هذه الوضعية، كان أول عهدي بحضور ندوات كبيرة عن المسرح الخليجي، وكم كنت ممتنة لمحاور الندوة التي سعى منظموها وباحثوها الى مناقشة أوضاع من قبيل حلقات متصلة للمسرح بالخليج وإثارة: أسئلته حول تراثه وتاريخه ومجتمعه وثقافته والتيارات المسرحية التي تأثر بها مع حلقات مخصصة عن جمهور المسرح الخليجي وتلقي العرض. لكّن الشعور بالامتنان كان قد واجهه جحود كبير، أو هكذا ظننت، فالأوراق التي شاركت في الندوة سعت دون هوادة إلى تهشيم فكرة أهمية النص المسرحي بالنسبة للمخرج، وأن الكتابة المسرحية هي شيء ليس مركزيا عند المخرج؛ منطلقة الأوراق البحثية من الوقوف أمام سلطة الأدب على المسرح، وأن النصّ الثاني الذي يكتبه المخرج عبر وسيط الإخراج هو الأمر المهم.
كان عليَّ أن أواجه ذلك الجحود بشجاعة، فإما أن أستمر على مواصلة الكتابة المسرحية أو أن أشنق نفسي بمنديل ناعم! وقبل أن تبدأ الأوراق البحثية، ويدلي الباحثون بأفكارهم وينادون بأهمية الورش المسرحية والمختبرات، بحثت بعينيِّ عن الدكتورة نهاد، ولا شك أن قلبي قد بدأ بالبحث أولا، فوجدتها تجلس مرَّبعة رجليها فوق الكرسي المخصص لها بالندوة متخففة من حذائها وتُحيّ الحضور بابتسامتها الجميلة. قلت لزميلي عبدالله خميس وكان في ذلك الوقت مهتما بالكتابة المسرحية وترافقنا معا إلى الندوة كلٌّ منّا يحتضن نصَّه على أمل أن يلتفت إلينا هؤلاء الكبار، فقلتُ له: انظر إلى تلك الفلاحة، فسألني: مَن؟ قلت له الدكتورة نهاد، إنّها فلاحة.

الراهن النقدي النسائي

الكتابة عن ناقدة متميزة ومحترفة بالنقد وفلسفته وتياراته ومذاهبه كالدكتورة نهاد صليحة مواليد 1945م هي كتابة صادرة عن الامتنان والفخر ومحاولة لقول «شكرًا» على نحو من الأنحاء. فقد تعلمنا منها الكثير بثرائها المعرفي الواسع، وكما جاء في بيان التكريم أنها مُنحت الجائزة «لتميزها في الحركة المسرحية المصرية، والعربية، والعالمية، وإبداعاتها باستخدام مناهج النقد ما بعد الحداثة…»
إذّا كان الممثل المسرحي هو محك العرض، ومَن يُسهم في صناعة الفرجة المسرحية فإن الناقد المسرحي المحترف هو مَن يعمل كوسيط بين ما يتم عرضه على الخشبة بكل مستوياتها وبين ما يجري بين المتفرجين في صالة العرض. لأن الناقد يقوم بعملية تبادلية بين مستويين متداخلين لا ينفصلان إلاّ لغايات إجرائية هما: أوّلهما: أداءات التمثيل الدرامي التقليدية والحداثية وما بعد الحداثية والدرامية.
ثانيهما: التأثير في المتفرج/‏‏‏ المتلقي.
ومن هنا، يعدّ الناقد الذي لا يكتفي بالوقوف عند قراءة النصّ المسرحي في ظاهره بل يغوص إلى قراءة أبجديات العرض على الخشبة ومفرداته وعناصره (الناقد نقدا تطبيقيا) هو المستوى الثالث في تتبع العرض المسرحي وجمالياته الفنية والفلسفية والثقافية.
إذّن، بهذا المعنى الذي تقدم، لدينا ثلاثة مستويات لتحليل المشهد المسرحي بوجه عام. المستوى الأول يُمثله العرض المسرحي، والمستوى الثاني فيشغله المتفرج/‏‏‏ المتلقي للعرض المسرحي. أما المستوى الثالث فهو ما سأطلق عليه بالناقد (المابيني) وهو الناقد الذي يتحرك ما بين النص والعرض موظفا ثقافته الواسعة وخبراته بالإضافة إلى ذائقته، إمّا في تأطير ظاهرة فنية محددة، أو فرجة شعبية مجتمعية، أو تحليل العملية الفنية ككّل، أو في توجيه النقد إلى جزئية محددة.
ومن النافل القول، إن الناقد المسرحي المابيني يمتلك ذخيرة كبيرة لأنه صاحب مشروع عظيم، فهو لا ينتمي لحياة واحدة بل متعددة. فهو بذخيرته المعرفية والفنية المتراكمة والقادمة من السينما، ومن الفنون التشكيلية، ومن الفوتوغرافيا، أو من المعايشة، والاحتكاك بالفرق وعروضها المسرحية في القرى والنواجع والحارات والسكك والدواعيس، كذلك يحتك معها في الحواضر والمدن؛ كما يستقي الناقد المابيني ذخيرته من «المشاهدة الجيدة والاستماع الجيد»، فمن شأن هذا كله، أن يضيف إلى العمل الفني المنقود إضافات جيدة تصير الإضافات بالأثر الذي تتركه فينا كمتلقين أو متفرجين كمرجعيات، لاسيما، إذا كان الناقد لا يتكئ على الاستعارة السيئة التي تنظر إلى وظيفة الناقد أنه أشبه برجل الشرطة أو القاضي!.
فمهمة النقد الذي يمتلك استقلاليته «وحقيقته وقواعده الخاصة، والتي لا تعرف الثبات نظرا لحركية الإبداع الفني وتطوره على مر العصور»، متصلة بل مندغمة بمهمة الناقد المسرحي الحقيقي «الذي يستطيع إدراك آليات اشتغال العمل المسرحي وتحديد أصولها ومستجداتها اعتمادا على ثقافته الشخصية». وهكذا أستنتج بهدوء، أن وظيفة النقد والناقد في المطلق هي مشاكسة التقاليد، ومناوشة الحدود المتوارثة، والابتعاد عن المجاملة والتصفيق المجاني.
في عددها رقم (9) سبتمبر 2012م خصصت مجلة المسرح العربي التي تصدر عن الهيئة العربية للمسرح بدولة الإمارات العربية المتحدة، ملفا عن (المرأة والإبداع في المسرح العربي) ومع تنوع الموضوعات ينشدّ المتابع لواقع الممارسة النقدية المسرحية النسائية في عموم الوطن العربي، وقلتها، في مقابل العدد الكبير للمشتغلين بالنقد من الأساتذة والأكاديميين. ولا يقف الوضع عند القلة والكثرة، فهناك النوعية والكيفية، فطبيعة الانشغال النقدي العربي بالمسرح بدأت أدبية وما تزال، ويبدو عدد الناقدات العربيات المشتغلات بالنقد التطبيقي قليلات أيضا. وبالنظر إلى مقولة أن لكلِّ قاعدة استثناء، تُعدّ الناقدة الفلاحة هي الاستثناء، دون التقليل من أسماء ناقدات عربيات أخريات مبرّزات.
تقول الباحثة الدكتورة كحلى عمارة ضمن ورقتها (التجربة النقدية في كتابة نهاد صليحة) ما يلي: «إن المتأمل في كتابات نهاد صليحة يُدرك المتابعة الجادة لأهم العروض المسرحية المحلية أو الزائرة، وكذلك أهم المهرجانات العربية والدولية، على غرار ما نجده في كتابيّ المسرح بين النص والعرض (1999) والمسرح عبر الحدود (2002)… وهو اهتمام يُترجم تطور الرؤية النقدية لدى الكاتبة في تفسير العرض المسرحي وتأويله».
يكمن أهمية كلام الباحثة عمارة في استخدام (تأويل) العرض المسرحي. وهذا في سياق من يقرأ تجربة نهاد صليحة النقدية ويتتبع مناقشاتها للعروض ويتأمل الآلية التي تنظر بها إلى عناصر العرض المسرحي ككّل، يعرف أن مساحة التأويل تتطلّب قراءة وتحليلا ما يختبئ خلف النص والعرض، إن فعل الخلخلة الذي يقوم به الناقد المابيني أنه ينقد ما هو موجود على الخشبة لا لتأكيد السكون وإحقاق الحقائق، بل لمواجهة الميراث الثابت للأفكار غير الجيدة والأحكام المستقرة في الذهنية عبر متوالية من الصور للأشياء والظواهر والعلاقات.
إن الناظر إلى مؤلفات الدكتورة نهاد صليحة النقدية، سيدرك «مدى الانشغال النقدي الذي توليه الناقدة للظاهرة المسرحية عموما وللعرض الحي إرسال واستقبال بوجه خاص…إلخ»، وفي سياق بحث الناقدة الفلاحة عن صوت مسرحي تنويري، مستقل وحرّ أولت الدكتورة اهتماما كبيرا بالصوت المختلف للشباب المسرحي المتجدّد بالرؤى المعاصرة وبالقراءة المتنوعة في الفلسفة والتاريخ والعلوم الإنسانية المختلفة، وإذا كانت في أغلب لقاءاتها تُدين للشباب الذين أتاحوا لها الانتقال بخفة المتابع الرصين إلى مساحات واسعة من تأويل العروض، فأبقوا على جذوة الفكر والفن مشتعلة، وأوغلوا ضرورة وجودها على خشبات المسارح وفي قاعات الدرس، ولهم توجه شكرها، وعميق محبتها، لا يمكن إلاّ أن نهنئ أنفسنا بتكريمها، وأن نحث الخطى على مواصلة النظر للحياة وللمسرح بتفاؤل كبير.

 

 

آمنة الربيع –

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *