المهرجان يتفوّق على الذاكرة.. ويمرّر طبعته العاشرة الى تونس.

وهران: لطفي العربي السنوسي

 

أنهت الهيئة العربية للمسرح دورتها التاسعة لمهرجان المسرح العربي التي احتضنتها مدينة وهران بهيّة الجزائر وعروسها المسترخية على المتوسط في وصل مع مدينة مستغانم التي امتدت اليها أشغال المهرجان في احتفالية ضخمة وصلت الوصل مع مدن محاذية كـ «السعيدة» و«معسكر» و«عين تموثت» و«سيدي بلعباس» في أوسع دورة ـ على الإطلاق ـ من مهرجان المسرح العربي منذ تأسيسه… دورة حملت طموحات كبيرة واصرارا جزائريا على انجاحها مدفوعا بحماسة الهيئة العربية للمسرح ورئيسها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة الواقف على سماء المهرجان كحارس فذّ لمعابد المسرح وأطيافه الضّاجة حيث لا صوت يعلو فوق صوت الفن في هذا البيت الرحب.. بيت المسرح العربي من الصحراء الى الماء.

دورة «وهران» البهيّة أمسك بها «بوتفليقة» الرئيس الجزائري من جهة الماء ـ تحت اشرافه ـ وأمسك بها الشيخ القاسمي من جهة الصحراء تحت حراسته المشددة.. فجاءت كما لم يكن متوقعا وفزع اليها الناس من كلّ الآفاق الجزائرية وجاءها عرب المسرح من كل الحساسيات فاتسع لهم «البيت» بقدر المذاقات وبقدر العطور والروائح التي هبّت من الجزائر البيضاء ووزعتها «وهران الباهية» بسخاء باذخ وبكرم هو من صميم الثقافة المتوسطية ومن طبيعة الراسخين من سكان الضفة الزرقاء..

على سماء الدورة وفوق الأراضي الخصبة فنّا وابداعا وبهاء، جنّحت الأطياف والأرواح على مدار عشرة أيام (من 10 الى 19 جانفي 2017).. كانت الأيام ضاجّة ومكتظة بأسماء من الذاكرة: عزالدين المجوبي شهيد المسرح الجزائري كان حارس الدورة وعنوانها الكبير وشعارها الممتد بين سماوات وهران ومستغانم.. ولم يغب طيف المغدور عبد القادر علولة بل كان هنا وهناك.. قامة نضالية تحكي سيرة موت تراجيدي برصاصات ارهابية غادرة في الثاني عشر من مارس سنة 1994… عبد القادر علولة ومصطفى كاتب ومحمد بن قطاف وولد عبد الرحمان كاكي ومحيي الدين بشتارزي ومحمد فلاق.. هؤلاء كلهم.. وغيرهم ـ كانوا ـ كالماء في حدقات العيون الصافية.. ماء لوضوء الذاكرة حتى لا يتلفها النسيان.. فهم عنوان ثورة الجزائر وحداثتها وعناوينها المتقدمة في كل فعل مقاومة لرهوط الردّة من تتار هذا الزمن البليد..

للدورة التاسعة ـ الأوسع والأكبر منذ التأسيس ـ مذاقات وروائح وفيها أسماء وأعلام.. هنا الذاكرة قوية وحية لم تستثن احدا.. وهل يمكن لها ان تستثني الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني؟.. ذاكرة الجزائر الثورة قبل الدولة وبعد الدولة، ذاكرة المقاومة المسلحة بلغة الفنّ والإبداع… لقد كان حضور وتكريم الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني تكريما للذاكرة واعترافا للفنّ والمسرح كقوة وكفعل مقاومة لا يقل أهميّة عن قوة النضال المسلح.. وما جدوى الفنّ ما لم يكن كذلك وهو المنذور ـ مطلقا ـ لهذه الأدوار؟ لقد تم تكريم من تبقّى من كبار الفرقة في احتفالية نادرة ومؤثرة اهتزت لها الذاكرة وانفطرت لها القلوب… كانت لحظات مثيرة في استحضار رمزي لنضالات الفرقة وأعمالها…

لقد تفوق المهرجان العربي للمسرح في دورته التاسعة على الذاكرة باحتفاليات استحضار وتكريم للرواد الذين مضوا… وماتوا والأحياء… الأعمال والأسماء والمنجز والمسارات وما فيها من اختلافات ورؤى… وقد تخلصت «خطب» التكريم من البكائيات واللغة المرثية الرثّة وذهبت الى بلاغة العبرة والاعتبار حيث الاستحضار ـ هنا ـ هو استحضار للعتبات المؤسسة وللتأكيد على أن للممارسة المسرحية العربية روادا ومؤسسين كبارا كان لهم الفضل في تحديث التجربة وفي ترسيخها فهم العتبات الأولى ولبنات التدشين الممتدة في تجارب من جاء بعدهم…

عشرة أيام بلياليها توزعت فيها فعاليات الطبعة التاسعة لمهرجان المسرح العربي على إيقاع ماراطوني متعب وممتع فتح الآفاق والمسارات والثنايا في كل الاتجاهات حيث الأسئلة معلقة على كل الأبواب والمنابر لكأنها الجمر… ندوات فكرية وعلمية ومحاور وورشات مختصة تحت إشراف مسرحيين ونقاد وكتّاب وأكاديميين وعروض فرجوية في مسابقة جائزة السلطان وأخرى على الهامش ومسابقات في المسرح الجامعي وملتقى للمسارح الجهوية واتفاقيات تعاون وشراكة دولية وكتابات ونصوص وفصوص على حائط النشرة وجلسات نقدية قبل وبعد العروض وفي آخر الليل وفي الصباح والمساء… مساحات شاسعة كانت تغلي على مرجل الأسئلة… هي آخر المساحات المشتركة ـ على رأي الناقد عبيدو باشا ـ مساحات شاسعة يلتقي فيها عرب المسرح لوضع التجربة على المحكّ وللنظر فيما حققته الممارسة المسرحية العربية…

لقد راهنت الهيئة العربية للمسرح على الجزائر وكسبت الرهان وحققت دورة استثنائية فاق نجاحها التنظيمي كل التوقعات رغم تعدد الفعاليات وكثافة الضيوف والمزاجات بفضل ما للهيئة من امكانات ومن طاقات بشرية لا تتعب..

أغمط هذا الرجل (الصديق) المسمى «غنام غنّام»، رجل لا يتعب ولا يملّ ولا يكلّ… أول المستقبلين وآخر المودّعين… غنّام لا ينام ـ هو بالفعل كذلك ـ لم يكبر وكلما تقدمت به الدورات ازداد بهجة واشتد كعنفوان مبدع وكفنان وكذات لها من الصفات الحسنى ما أهله ليكون العمود الصلب للهيئة ولمهرجانها وفي جواره رئيس مجلس أمناء الهيئة اسماعيل عبد الله: رجل صموت يتحرك بهدوء وبوثوق وإن تكلم فلينثر الكلمات شعرا، رجل خطيب يعجن اللغة فتستوي وتلين، هو شاعر ضلّ طريقه الى المسرح يمسك بناصية الهيئة ويدقّ أعمدتها في الماء وفي الهواء فتثبت صلبة مملوءة مثقلة بالمعاني… في الماء أو في الصحراء… تنتقل الهيئة بمهرجانها من بلاد العرب الى بلاد العرب بأجنحة سميكة يشدّها حاكم نادر وجد من الوقت ليرأس الهيئة العليا وليحرس إقاماتها المتعددة… هنا أو هناك…

نحن بالفعل في «بيت عربي مشترك» لا غربة ولا غريب ولا غرابة… فهل من متنفس لهذا البيت؟ الا يلزمه هواء لتجديد الهواء المتشابه…؟ أي معنى لـ«بيت» بلا نوافذ ولا منافذ…؟ ألسنا في حاجة الى هواء مغاير لوضع التجربة على محك مغاير..؟ ألسنا في حاجة الى وجوه لا تشبهنا…؟ هل يكفي أن نقف أمام مرآتنا فلا نرى غير صورتنا؟ وشبيه وقرين لا يختلف عنا…؟ كم ستطول إقامتنا في هذا البيت المشترك؟ وهل يمكنها ان تطول إذا أحكمنا اغلاق البيت على أنفسنا؟

من يخشى فتح النوافذ على العالم الرحب? فـ «الانغلاق» آفة تأكل من جلد التجربة الذاتية فتهرئها والحكمة تقتضي الذهاب إلى الآخر باستدعائه (إلى البيت) أن نسأله ويسألنا في محاورات تضع التجربة على محكهّا النقدي الحقيقي والموضوعي.. أيّ معنى لسؤال الريادة ما لم تكن مرتبطة باللايقين واللامسلم فالريادة ريادات ولا مرجعية ثابتة فيها بما أنها متغيرة مرتبطة ـ باستمرارـ بنتائج الاكتشافات لنصوص وأسماء من التاريخ المنسي?

لقد بحثت الدورة في موضوع الريادة كمفهوم زلق في علاقة بالآخر مع غلق المنافذ المؤدية إلى هذا «الآخر» الذي كان غائبا كتجربة وكممارسة وكأسلوب تفكير وكرؤية مغايرة من شأنها أن تثري هوية المهرجان كونه مهرجانا عربيا.. وهذه الهوية المنغلقة من شأنها، لو استمرت مطمئنة إلى ما هي عليه مكتفية بذاتها، أن «تضيق» على هذا «البيت العربي» وأن تخنق انفاسه وأن تحوله إلى بيت ممل الكل فيه متشابهون…

كيف الخروج من «البيت» دون مغادرته…? ما الذي تحقق في الدورة التاسعة من مهرجان المسرح العربي وقد انتهت لتوّها بمدينة وهران التي مرّرت مشعل الدورة العاشرة إلى تونس حيث التجربة راسخة ولا شيء يرضيها.. ماذا قدمت الدورة المنتهية من أسئلة وعما أجابت?

ثمة شيء أو اشياء خاطئة في مهرجان الهيئة?… ثمة آفة اسمها التكرر والتشابه بصدد التضييق على آفاق «البيت»، ثمة ما يشبه العزلة المقيتة التي تجعل من المهرجان مكتفيا بذاته مطمئنا لهويته ولأسئلته العربية / العربية.. هل يخشى المهرجان الانفتاح على تجارب مغايرة وعلى ما يحدث في الضفة الاخرى في أوروبا وأمريكا..? لم كل هذا الضمور للغة النقدية? لم صوت النقد خافت ومتردد…?

هل كانت العروض المسرحية التي اقترحتها الدورة معبرة عما حققته المسارح العربية ?

من هؤلاء الذين أشرفوا على الورشات المختصة? من هؤلاء الذين أطروا ورشات الكتابة والإخراج والتمثيل? وما هي مقاييس اختيار العروض المسرحية.. ? وهل كانت أسئلة الندوة إبنة الراهن ومن صميم سؤال الحداثة في المسرح?

كيف تم اختيار لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة الدورة? والتي منحت الجائزة لمسرحية «خريف» من المغرب وقدمت تقريرا نزع نزوعا أخلاقيا فجّا تكلم بلغة الفضيلة منددا بالرذيلة? ثمة مشكلة تلقّ ـ ولا شك ـ لدى الجمهور ولدى المختصين:ألم يتم «تكفير» صناع مسرحية «يارب» من العراق بدعوى تجرئها على الذات الإلاهية وعلى الأنبياء ولم تكن معنية بذلك ـ أصلا ـ !? لم كل هذا الكمّ من «الخردة» المسرحية التي تقدمت على أنها آخر ابتكارات المسرح العربي وخلاصته? ولا استثناء في كل العروض التي شاهدناها داخل وعلى هامش المسابقة.

ثمة مراجعات ضرورية ـ ولا شك ـ مراجعات مستعجلة لابد لها أن تحصل بل ثمة ما يجب هدمه برمته واعادة بنائه بما يليق بـ «البيت» حتى تكون الإقامة فيه مريحة ومفتوحـة على العالم الرحب (ولنا عودة غدا للذهاب بعيدا…).

المصدر/ اليوم

محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *