المسرح يفضح انحدار القيم في المجتمع / شريف الشافعي

كوميديا “ساعة شيطان” تطرح رؤى فنية مبتكرة لشباب المسرحيين بمصر، وترصد معاناة المجتمع من التفكك الأسري والتشرذم وانحدار القيم.

تطرح كوميديا “ساعة شيطان” رؤى فنية مبتكرة لشباب المسرحيين بمصر، ويرصد العرض معاناة المجتمع من التفكك الأسري والتشرذم وانحدار القيم. وفي ظل غياب القيادة الرشيدة، يتجسد الشيطان على المسرح ليقدم حلولًا تدميرية لسفينة الحياة المتخبطة.

وتأتي العروض الفاعلة والمؤثرة منخرطة في الواقع، مشحونة بقضايا المجتمع وأزمات الإنسان، فجماليات المسرح يندر أن تتجلى مجردة من شروطها أو منعزلة عن ظرفها المكاني والزماني. من هذا المنطلق، تقدّم مسرحية “ساعة شيطان” ما يمكن وصفه بـ”صورة سيلفي” للأسرة المصرية المفككة في مجتمع متراجع مأزوم، ومن خلالها تضيء الكوميديا شموعها السوداء المأساوية في القاهرة.

تثبت تجارب المسرح الجديدة التي تشهدها ليالي القاهرة، أن هذا الفن العريق في لهاث دائم ليلاحق حركة العصر، ويواجه التحديات المتزايدة والتطورات الصناعية والتقنية المتصاعدة، كما أن المسرح مطالب في الوقت ذاته باستيعاب العادات المتغيرة للجماهير، من متابعي الفنون عبر الوسائط التكنولوجية المتعددة، حيث لم تعد هناك رفاهية لإهدار ثانية من الزمن في ما لا يُجدي.

تتسلح المسرحية الكوميدية “ساعة شيطان” لفرقة “يوركا” بعوامل تبدو جاذبة لجمهور مسرح ساقية الصاوي في القاهرة، فهي مسرحية أعدها الشباب لتخاطب الشباب بلغة بسيطة مرحة وخلطات مثيرة وآليات مبهرة ورؤى فنية مبتكرة.

ينغمس العرض كذلك في نسيج الواقع المصري الراهن حتى النخاع، لكشف أبرز قضايا المجتمع الذي يعاني من التفكك الأسري والتشرذم وانحدار القيم وتحول أفراد البيت الواحد إلى جزر منعزلة، حيث يغوص كل واحد منهم في عالم افتراضي بديل، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت.

في خضم هذا المشهد الضبابي الكابوسي، الذي يفتقر إلى الاتزان وإلى أسس القيادة الحكيمة الرشيدة، يظهر الشيطان فجأة في ساعة مجنونة من الزمن، ليقدم نفسه كربّ للأسرة المفتتة، وكرُبّان للسفينة المتأرجحة، فتتحرك الحياة بما تبقّى من عناصرها لتتحطم تماما على صخرة التدمير العاتية.

غفوة الزمن

“ساعة شيطان”، هي ساعة استثنائية يغفو فيها الزمان، ويتخلخل المكان، فالأرض تغدو هاوية، والمسافات تصير متاهات، ويدور البشر حول أنفسهم توازيا مع دوران أحداث العرض حول العلاقة الأزلية بين الإنسان والشيطان.

تصوّر المسرحية، التي ألفها وأخرجها يحيى محمود، أسرة فقيرة اختفى فجأة عائلها الموظف الحكومي الشريف “ياقوت” منذ عشرين عامًا بدون سابق إنذار، تاركا زوجته “زمردة” وأبناءهما وبناتهما، بعدما رفض التحالف مع الشيطان “فانوس أبوالنور”، الذي عرض عليه رشوة كبيرة مقابل تزوير أوراق حكومية.

تمر الأيام، وتختلف مصائر واتجاهات وسلوكيات الأبناء والبنات، فمنهم المعلّم الذي يتمسك بالمبادئ ويرفض إعطاء طلابه دروسا خصوصية مكتفيًا بالجنيهات القليلة التي يتقاضاها شهريًّا، وسائق التوك توك الذي فشل في التعليم واتجه إلى المخدرات، والفنان الذي يعشق الموسيقى والطرب ويحلم بتقديم أغنيات هادفة، والسيدة الحقوقية المطلقة بسبب رفضها اقتران زوجها بامرأة أخرى.

يكشف العرض أن إقامة الأبناء جميعا في بيت واحد، لا يعني أنهم عائلة متجانسة، وتلك سمة العصر، فكل واحد له همه الخاص، وانشغالاته بأسرته وأبنائه، وكل فرد يبدو منعزلًا عن مخالطيه، تأسره العلاقات الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت أكثر من الدفء العائلي. ويصير كل واحد من أبطال العرض فريسة لهمومه ومشكلاته في المجتمع المثقوب المحكوم بالمادية والأرقام.

العرض ينغمس في نسيج الواقع المصري الراهن حتى النخاع، لكشف أبرز قضايا المجتمع الذي يعاني من التفكك الأسري

مع انسداد الطرق جميعا في وجه الزوجة وأبنائها، يتجسد في اللحظة الحاسمة من جديد الشيطان “فانوس أبوالنور”، زاعمًا صداقته لوالدهم الغائب، ويحاول بشتى الوسائل أن يدمرهم تماما، بادعاء امتلاكه شموع تحقيق الأحلام وإنارة المسالك الحالكة.

بمعاونة الشيطان، وعبر مشاهد درامية و”اسكتشات” واستعراضات طريفة تعتمد على المفارقات والتناقضات فضلًا عن خفة الظل و”القفشات” المرتجلة، يبدأ كل فرد في محاولة تحقيق حلمه في مجال اهتمامه، ليكتشف بعدها أنه وهم وضلال، وأن السعي الذي يسعاه باطل، فالشيطان (الذي يرتعد ويصيح بشكل كوميدي كلما ذُكر اسم الله) لم يأتِ ليضيء البيت، بل ليحرقه.

تطرح المسرحية من خلال شخوصها متعددي الوجهات والانشغالات الكثير من القضايا التي تكشف ملامح الانحدار المجتمعي على كافة المستويات، كفساد التعليم، وتردي الفنون، وتدني السلوكيات، والإهمال الطبي، وانتشار الإدمان والتحرش وعمالة الأطفال، وسيطرة رأس المال، وسوء المناخ السياسي، وغيرها.

روح الشباب

لم يشأ صُنّاع “ساعة شيطان” أن يظل العرض سوداويًّا حتى النهاية، فجاء الحدث الختامي نقطة ضوء رمزية، بعدما انحلت الأسرة، وبلغت القاع، إذ علم الأب الغائب “ياقوت” ما حدث لعائلته، بفعل الشيطان، فقرر العودة مسرعًا لينتشل أهله من الوحل. وأخيرًا، يلتقط الجمع صورة سيلفي أخرى، بحضور الأب وزوجته، والأبناء والأحفاد، بعد هروب الشيطان مدحورًا.

هذا الانتصار الذي تزرعه فكرة العرض في روح الشباب، تدعمه على مستوى التقنيات والجماليات المسرحية انتصارات شبابية متعددة، إذ يبدو العرض محلقًا بأجنحة أدائية فَتِيّة كتجربة فنيّة مبتكرة، على الرغم من ارتكاز الفكرة المحورية على الصراع التقليدي بين الخير والشر.

لماذا تعكرت علاقة الأبناء بالآباء
لماذا تعكرت علاقة الأبناء بالآباء

لا يتعاطى العرض مع الكوميديا بوصفها أداة أو وسيلة لتمرير هدف، بقدر ما يجعلها غاية بحد ذاتها في المشاهد والمواقف، وتلك نقطة فارقة في العرض، زادته جاذبية، وأكسبته قدرة إضافية على التشويق على طول الخط. إن المتفرج يضحك دائمًا وهو يتابع ما يجري، هذا أمر أول، ثم يصل إلى ما يُراد له أن يصل إليه، وهذا أمر ثانٍ، ولعله يكون ثانويًّا.
لم يتكلف الممثلون محمد صعيدي ووفاء عبده وكريم قطب وعلاء محمود ونهال فهمي وغيرهم في تشخيص أدوارهم بل أدوا بسلاسة كأفراد أسرة بسيطة، يعيشون اللحظة دون تفكير مطوّل في ما بعدها، وقدموا عبر الأداء الجسدي والإشارات والاستعراضات مستويات متميزة من الحركة والإبداع وشغل جنبات المسرح، خصوصًا في مشاهد الصراع مع الشيطان خفيف الظل، الذي لعب دوره ببراعة محمد مبروك، على نحو غير مألوف.

وساعد ديكور أحمد بديوي وإضاءة خالد حسنين ووائل زكي وموسيقى زيزو عبدالباقي على خلق مناخ عام ملائم للترميز الذي انتهجته المسرحية، لتكون الأسرة الكبيرة العدد المتنوعة الشخوص هي صورة مصغرة لتلك الطبقة الكادحة التي تمثل أغلبية المجتمع المصري، من موظفين ودارسين وحرفيين وعمّال، يكادون يعيشون على الكفاف. وقد جاءت تصميمات البيت وملابس الشخوص لتعكس هوياتهم بوضوح.

“ساعة شيطان”، مسرحية من قلب المجتمع المصري، تسخر من وضعيات مُزرية وأحوال سلبية كثيرة، لكنها لا تضخ يأسًا، ولا تزرع عدمية، بقدر ما تقول إن هناك أمورًا جادة ينبغي فعلها بأمانة من أجل تجاوز الموقف.

_________________

المصدر : العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *