المسرح واغترابه: عن المنعطف الدموي و نقد السائد من الكرنفالات -حاتم التليلي – تونس

.

المسرح واغترابه: عن المنعطف الدموي و نقد السائد من الكرنفالات

حاتم التليلي

لقد سادت خديعة كبرى في السنوات الأخيرة كرّستها مجموعة من المثقفين تحت عنوان مواجهة الارهاب ثقافيّا، وليس ثمّة من فكرة متداعية بإطلاق كهذه، فرغم الحاجة إلى ذلك، إلا أنّ الفعل الإبداعيّ والفنّي لم يكرّس غير محاولة جدّ مبتذلة في التعاطي مع الرّاهن السياسيّ والاجتماعي، إذ أنّ جلّ التظاهرات ظلّت تقتطع أرطالا من الكوارث والمصائب التي حطّت على معظم بلداننا العربية بغاية استثمارها لا بغاية مواجهتها أو تفكيكها ومعالجة أسبابها، أو فضح طرق اشتغالها، فالمنتحرون والقتلة والرّهط الارهابيّ والسياسيّ لم تتشكّل صورهم في الأعمال الفنّية إلا من خلال مشاهد جدّ سطحيّة ومبتذلة، حتّى أنّ المنجز الفنّي ظل يلهث وراء الحدث وكأنّ لا قيمة له غير أن يلعب دور الاعلام الاستقصائيّ.

قد نتحامل كثيرا –على سبيل المثال- إذ وصفنا مهرجاناتنا المسرحية بالسوق الثقافية بما هي تحوّلت إلى غنيمة وطريدة سهلة في يد مديري المهرجانات أو بعض المسرحيين المتنفذّين، حتى أنّ الحدث الفرجوي الذي تشهده يخصي كلّ ما له علاقة أو خصوصية بالفنّ، بما أنّه ضمير المجتمع وصوته المعذّب. وإنّ راهنا من قبيل هذا الشكل سيجعلنا بما شكّ في ذلك نبحث عن الفنّ المسرحيّ ذاته –بما هو غائب-، وقد تبدو الاجابة جدّ مفزعة، موغلة في الرّعب، إلى درجة تصطكّ فيها أسناننا، ذلك أنّ جوهر الكرنفالات ما هو إلا محاولة مبتذلة لمسرحة حياتنا- أو إعادة انتاجها فنّيا- وقد شكّتها بيارق الظلاميين، كما إنّه محض تجارة بآلام المجتمع الذي يعاني الأمرّين. أمّا الفعل الثوريّ للفنّ فقد تحوّل إلى ما يشبه الاقامة داخل لعبة شطرنج سياسيّة.

ما نلاحظه في سيرة تلك المهرجانات أنّها تتحرّك في معادلة ذات اتجاهين: الأوّل يكشف عن عفن ثقافيّ مثله مثل الرّاهن السياسيّ، ونكتشفه من خلال معارك الفنّانين وبعض ملفّات الفساد من حيث طرق برمجة عروضها القائمة على المحاباة والعلاقات، وأشكال تسييرها ومنابيع دعمها الماليّ، حتّى أنّ بعضها تحوّلت من مهرجانات للمقاومة إلى بهرج بورجوازيّ تابع لدوائر غربيّة، إذ هي تشهد منعطفا من سرديات الرّفض والتعبيرات الاجتماعيّة الثوريّة إلى سيطرة الكولونياليين المتحكّمين في سياسات الدّعم، حتّى أنّ مضامين معظم الأعمال الفنّية لم تخرج عن الصورة النمطيّة التي تغذّيها الدوائر الاستعمارية.

أمّا الاتجاه الثاّني فقد كان طبقيّا بامتياز، حتّى أنّه تحرّك ضمن مسارين بدوره، الأوّل نلمسه من خلال الشريحة المستهدفة من تلك المهرجانات، وقد كانت البورجوازية أساسها الأوّل، فتلك العروض والندوات والمعارض وما هو احتفاليّ لا يتمتّع بها الفقراء من مجتمعاتنا، أولئك الذين يسكنون الأماكن السحيقة والبعيدة،  وقد كانوا أوّل من خانتهم الثورات بعد أن علّقوا عليها آمالهم، فسرقتها أيادي المستثمرين ورجالات السياسة ودنّستها محافل الدمّ الارهابيّ. أمّا المسار الثاني فهو متعلّق بمضامين تلك المهرجانات، ولا يخفى علينا أنّها لم تتعاطى مع الشرائح الاجتماعية إلا من حيث الاستثمار كما سبق وذكرنا، فهي وإن مجّدت السلوك البورجوازيّ من خلال التنافس والاستعراض، لم تغيّب أولئك المهمّشين فحسب، بل وجعلت منهم محض دمى وضحايا وآليات تغذّي بها الأعمال الفنّية، إذ يتطرّق المنجز الفنّي إلى تناول ظاهرة الارهاب والفقر والتهميش من باب اعلامي وسطحيّ لا من باب الحفر في أسبابها تحويلها إلى قضيّة جمالية وفنيّة، بما يعنيه الأمر أنّه وجد فيها غنيمة مغريّة كي يسدّ بها فراغه الابداعي.

قد يعترض علينا البعض من باب القول إنّ دور المثقف لا يمكن أن يتعدّى ذلك، وأنّ المنطلق الطبقيّ لا يمكن أن يكون بدوره إلا من خلال هذه التجارب، ولكنّ الحقيقة عكس ذلك، فالمنتسبين إلى الفنّ السياسيّ مثلا عليهم أن يعلموا الآن – بما أنّهم يدّعوا أنّهم أبناء رحم هذا الواقع- أنّ الفعل الثقافيّ الحقيقيّ هو أن نجعل من تلك الشرائح الاجتماعيّة المفقّرة تنتج أعمالها بدورها لا أن نستغلّ جراحاتهم ونترجمها فنّيا ثم نعيدها إليهم جاهزة.  وهذا ما يدين سياسات المهرجانات برمّتها من جهة، كما يجعلنا نقوّضها جملة وتفصيلا ما دامت تدّعي أنّها صوت الشعب الوحيد.

لقد مكّن هذا الافلاس الفنّي من حيث انتسابه إلى ما هو اجتماعيّ، وانحيازه إلى السوق بدل انتسابه إلى الجماهير، قوى معاديّة للنسيج المجتمعي من البروز، فالانحراف والجريمة والفقر والتهميش والجهل بما هي عوالم على الفنّ أن يخوضها، كانت آليّة ناجعة في يد الظلاميين، وإنّه لمن المؤسف جدّا –على سبيل المثال- أن يتخلّى مسرحنا عن ذلك ليسلّم آلياته إلى الاسلاميين الذين وظّفوها في استقطاب البسطاء وحوّلوهم إلى كائنات عطشى للدمّ. لقد استثمر الاسلاميون الأشكال المسرحية القديمة كالحلقة والحكواتي وأحدثوا  تغييرات كبيرة على محتواها،حتى أن فضاء اشتغالها كان في المساجد والساحات العامة، إذ يتجمع من يحمل تلك الأفكار مع بعضهم البعض ويطرحون نقاشات دينية معمقة، كما يطرحون اشكاليات عديدة، وهذه الاشكاليات غالبا ما تتعلق بأزمات الأفراد الذين يتم ادماجهم، وهو ما يذكرنا بمسرح الأسواق على سبيل المثال أو مسرح المضطهدين.

في المقابل، ظلّ مدّعي الثوريّة من مثقفينا، هم مسرحيون بالأساس، يحاججون حدّ الآن بالقول إنّ زرع الورود في أمكان سقطت فيها أرواح الشهداء شكل ناجع في التصدّي ضدّ الارهاب، في حين أنّ أعمالهم المسرحيّة، من جهة تناولها للمقدّس، إمّا هي تهاجمه وتحاول استثماره حتى يتسنى لها فيما بعد أن تقدّم نفسها ضحيّة للارهاب والمراقبة الدينية التي تجد اشتغالها في التيارات السياسية المحافظة، أمّا عن استنطاقه، فهي حدّ الآن، مازالت تجهله وتجهل موروثنا بما هو محيط ذاكرتنا وهويتنا، أو هي  تقع طريدة سهلة في تخوم واقعية جدانوف المبتذلة.

لقد عدّ –مثلا- مسرح الأسواق وعروضه -كما ورد تعريفه في المعجم المسرحيّ لحنان القصّاب وماري إلياس- من أشكال المسرح الشعبي لأنها تجذب جمهورا متنوّعا،و هنا يتسنّى القول: إنّ لثقافة الاسلاميين مسرحها الخاصّ وهو الحياة لا القاعات، ذلك أنّهم يتواصلون مع الجماهير بشكل مكثّف وشاسع  ومباشر، ما يسهّل عملية الاستقطاب وادماج الناس وتأهيلهم ليكونوا في المستقبل انتحاريين، وقتلة، ودمويين. أمّا مهرجاناتنا فلها طابع الزّيف إذ أنّ حضورها لا يتجاوز الفضاءات المخصصة للعروض كدور الثقافة والمسارح، وهذه الأمكنة نعرف جيدا أن عامة الناس لا يدخلون إليها، وبالتالي فإن الجمهور الذي يأتي ليواكب العروض هو في حدّ ذاته له عروض مسرحية يقدمها، أي أن هذه الثقافة تتجه لنفسها لا إلى عامة الناس، وبالتالي فإن مسرحها يخدم ما هو فنّي وجمالي ولكن لا يخدم الجماهير.

فهل علينا الآن تقديم تأبين لاهوتيّ إلى مدّعي الحداثة ومدّعي مقولة مواجهة الارهاب فنّيا؟ وأليس من باب العزاء والكارثة أن يتفطّن الوحش الدمويّ/ القاتل الارهابيّ/ لصّ الثورة إلى أنّ الفعل الفنّي ليس بهرجا استيطيقيّا وإنّما هو إقامة في جلد الجماهير وتحته، بينما لا نتفطن نحن ذلك؟

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *