المسرح حين يرفع الستار عن الأسئلة.. ليطرح أسئلة أخرى – محمد المعايطة #الأردن

.jpg
الدورة 12 لمهرجان المسرح العربيب بالأردن

    لم تكن أولى الرسوم التي صنعها الإنسان الأول على جدران الكهوف، مجرد توثيق يومي لحياته. كان يرى ما هو أكبر من ذلك، كان يرى أمامه مشهداً ما، تراجيديا حقيقية لم تُسعفه معرفته وقصور لغته حينها لإدراك ماهية التراجيديا، لكنه كان يُحس بها، يُدرك أن الأمر أكبر وأبعد كثيراً مما يبدو عليه. كان يعيش الحياة والموت، الألم والفرح في الساعة نفسها، كانت تشتغل داخله صراعات متلاطمة الأضداد حتّمت عليه أن يطرح الأسئلة الأولى. ولم يكن يعرف أنه لن يتوقف بعد ذلك عن الأسئلة إلى الأبد.

ولأن الأسئلة لا تزال – وستبقى- مستمرة في التنغيص على كل ما هو مجهول، ولأن المعرفة كالحياة حالة متغيرة لا تعرف الثبات. كان لا بدّ من أن يكون شعار الدورة الـ 12 من مهرجان المسرح العربي، الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح في العاصمة الأردنية عمان “المسرح معمل الأسئلة ومشغل التجديد”، بمثابة الصرخة في وجه الجمود الذي يعيشه الواقع العربي إبداعياً، حتى يُحرك ساكناً ويلقي جبلاً في المياه الراكدة.

من تابع وحضر دورة هذا العام من مهرجان المسرح العربي، سواءاً من الجمهور الأردني أو العربي، يُدرك تماماً بأن هذه الدورة مختلفة تماماً، وخارجة عن نطاق المألوف أو العادي. ففي الوقت الذي كان الجمهور يُشاهد ما يتم تقديمه من عروض وندوات فكرية ونقدية، كانت خلف الكواليس ضجة معرفية أكبر بكثير، تأخذ من قِبل العاملين عليها جهداً بحثياً وإبداعياً ونقدياً وصحفياً هائلاً. فلم تتوقف النقاشات والجدالات حول المسرح حتى في ثواني الراحة القليلة لديهم. فقد كان الأمر أشبه بمن يعيد وضع حجر الأساس للحالة المسرحية العربية، ليس فقط من خلال وجود عروض مسرحية تستأهل المتابعة والمنافسة، بل وأيضاً بسبب عملية إنتاج المعرفة التي تم الإشتغال عليها من قبل المخرجين والممثلين والنُقاد.

التنظير.. طريق العمل المُعبّد

لم يكن على هامش العروض الـ15 المشاركة في المهرجان، ندوات فكرية ونقدية، بل كانت هذه الندوات في قلب المهرجان، وتحمل أهمية أكبر – إن جاز التعبير- من العروض المسرحية نفسها. كان لا بدّ من خلق مناخ وأساس تنظيري للمسرح العربي، حتى يُواكب الخشبات والأفكار العالمية. وكان لا بدّ من معرفة أين سيضع المسرحي العربي قدمه الآن، حتى ينطلق بثبات وثقة نحو خطوته التالية. كان لا بدّ أن يعلو صوت المسرح هذه المرة، وأن يتعدى الأمر مجرد فعاليات تُقام هنا أو هناك يلتقي فيها المبدعون دون أن يلتقوا فعلاً في إبداعاتهم. وعلى جانب آخر، كان علينا أن نعيد صياغة تاريخنا وتراثنا لنراه نحن عالمياً بالمقام الأول، ونُخرج من بين حكاياه السحر. 

مانفيستو للإبداع.. بسملة المسرح

من الأمور التي يجب علينا أن نركز عليها الكثير من الضوء مما حدث في هذه الدورة الـ12 من مهرجان المسرح العربي، عندما طُلب من الفِرق المسرحية الأردنية، أن يضعوا بياناً فكرياً وإبداعياً/مانفيستو لعملهم المسرحي، حتى يعرف الجميع ما هي الرؤى التي تسير عليها هذه الفِرق عند الإقدام على أي عمل مسرحي جديد. ما هي نظرتهم للخشبة، وحتى يرى الجمهور الحيّ كيف يُفكر مبدعوها وعقولها.

    هذه الخطوة الجديدة، التي كان على المسرحيين أن يفكروا بها منذ لحظات البدء الأولى بمشاريعهم، كانت نقطة فارقة حتى بالنسبة إليهم هم أنفسهم. فمن هذا المانفيستو تتوضح معالم طريقهم أكثر، ويُصبح الأمر التزاماً بدستور فكرهم الإبداعي، الذي يتيح لهم التطوير عليه وعلى آدائهم. وحتى إن كانت هذه خطوة متأخرة بعض الشيء بالنسبة إلى الكثير من المجموعات العربية المسرحية، إلا أنها ضرورية للغاية، ولم يفت الوقت على تطبيقها.

التجارب المسرحية.. إرث المسرح العربي المعاصر

تسليط الضوء على تجارب المبدعين المسرحية، كان نقطة هامة أخرى جاءت بها دورة المهرجان الجديدة، فهؤلاء المبدعين الكِبار كان لهم بصمتهم ودورهم وتأثيرهم على تكوين العقل المسرحي العربي، وتأسيس الخشبات المسرحية عربياً وعالمياً. وأن نعرف كيف بدأوا رحلتهم وما هي رؤاهم وأفكارهم، هذا يعني أن نعرف كيف بدأ المسرح العربي وكيف تطور، ما يُمكّننا من البناء على المبني، وتأسيس حالة جديدة على أرض صلبة، تشي بأن المستقبل يحمل الكثير للمسرح العربي.

في النهاية، وبعد أن وصلنا إلى ختام الدورة الجديدة من المهرجان، وبعد أن لاقت الدورة نجاحاً كبيراً من حيث التنظير لمسرح عربي معاصر، وتقديم عروض مسرحية تستحق الإلتفات والتفكيك والتحليل، فهذا يُلقي على كاهل الجميع مسؤولية أكبر بكثير مما تم تقديمه، بأن تكون دورات المهرجان القادمة، والمهرجانات العربية الأخرى، على نفس السوية والنسق الفكري والإبداعي، وأن تظل الأسئلة قائمة في رؤوس المبدعين، وأن لا تنطفئ شعلات التجديد والتجريب في أعمالهم القادمة. وهذه مسؤولية كبيرة لا بدّ لنا جميعاً أن ندرك أهميتها ونحملها بإخلاص.

محمد المعايطة – الأردن

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش