المسرح المغربي بين سؤال الخصوصية وإغراءات المسرح الغربي الطيب الصديقي نموذجا

فاطمة اكنفر 

إن التحرر من الوصايا الفنية الغربية لتحقيق الاستقلال الفني وإعادة الاعتبار للذات العربية المهمشة وأشكالها الفرجوية المختلفة لا يعني استبدال المركزية الغربية بمركزية أخرى، بل يعني إعادة الاعتبار للذات العربية التي شيئت ونظر لها كذات لا فنية، عبر التعريف بالهوية الفنية خلافا لما سطره الفكر الغربي الرافض لفكرة الاختلاف الفني.
وفي هذا السياق يطرح الناقد خالد أمين مفهوم الهجنة بوصفه مفهوما مناوئا للهويات الصلبة التي تصنف نفسها نقيضا للآخر، وتقيم حواجز بينها وبين العوالم الأخرى، خاصة وأن “جميع الثقافات جزئيا بسبب (تجربة) الامبراطورية، منكمشة أحداهما في الأخريات، ليست بينهما ثقافة منفردة ونقية محض، بل كل مهجنة مولدة، متخالطة، متمايزة الى درجة فائقة، وغير واحدية”.
ويرى الناقد أن المسرح العربي عامة والمغربي خاصة يتراوح بين الأنا والآخر، والشرق والغرب، والتقليد والحداثة، وهذا الأفق بالتحديد هو مصدر تموقع المسرح في فضاء ثالث بيني، فضاء ابستيمولوجي. حيث “يكشف نقل تقنيات الفرجة الشعبية الى البناية المسرحية عن مسار الهجنة كثورة مستمرة لأشكال يتم من خلالها قراءة النصوص وأزمنة التشكلات الثقافية المعاصرة، كما يرمز الى وضعية التردد والتشدر الثاوية في عمق الكتابة المسرحية المغربية ما بعد الاستعمارية”.
وفي سياق تبني النموذج المسرحي الغربي لا تنتج الذات العربية النص ذاته، وإنما بالأحرى نصا شبيها ومختلفا في ذات الوقت عن النص الاستعماري، “كما تعتبر ديناميات تبني وفهم النموذج السائد تاثيرات ناتجة عن الكتابة المعكوسة داخل حدود الفضاء الثالث”.
إن نقل تقنيات الفرجة الشعبية إلى البناية المسرحية الغربية يعبر عن مسار الهجنة كثورة مستمرة للأشكال المسرحية، التي يتم من خلالها إعادة صوغ أزمة التشكلات الفرجوية التراثية المعاصرة.
وبالتالي إن الذات العربية نجدها تفتقد إلى مركز ثابت رغم إصرارها المستمر على التشبث بالحضور، بالإضافة إلى تموقعها في فضاء تخومي بيني، يتراوح عموما بين الأنا والآخر، المستعمر والمستعمر، الداخل والخارج، وما الهوية إلا نموذج مثالي للأشكال الهاربة والمهاجرة والسريعة التحول وغير المستقرة على حال، والمسرح بدوره يعتبر من أكثر الفنون مقاومة لمنطق النقاء، فالهجنة إذن، هي حركة تبقي أسئلة الهوية والانتماء مفتوحة دوما على التفاوض. 
إن نظرية الهجنة من منظور هومي بابا تهدف إلى إعادة بناء الهوية الكولونيالية، ومساءلة المشروع الحداثي الذي عمل على إقصاء العديد من الثقافات التي أصبحت تعيش في الهوامش، وهذا الموقع الهجين تنتفي فيه الثنائيات الضدية وتتساوى فيه الرؤى والتصورات في إطار المشترك الانساني.
يمنح خالد أمين مفهوم الهجنة أهميته إذ ليس ثمة مسرح يكتفي كليا بذاته، فالمسرح الغربي بدوره يمتاز بالهجنة، بل هو في الحقيقة جنس هجنة بإمتياز. ولهذا فإن الكثير من المبدعين والمنظرين الغربيين اتجهوا نحو الشرق لخلق هذا اللقاء الثقافي والحضاري بين ثقافة غربية وأخرى شرقية، مثل أنطونان آرطو ، يوجينو باربا ، بريخت ، بيتر بروك، غروتوفسكي وغيرهم.
إن الثقافة بأبعادها الإنسانية الكوسموبولوتية بعيدا عن مركزية الهيمنة لثقافة ما، ستحقق طرفي المعادلة ثقافة تحافظ على خصوصيتها وفي ذات الوقت تزحف نحو الآخر، وسيؤدي هذا التكامل إلى تحقيق شمولية الوعي الإنساني، وهذا النزوع التكاملي هو الذي يعطي لخصوصية الهوية تمايزها، وفي ذات الوقت يمنح الفكر والفن هدفا إنسانيا شاملا. 
وبنفحات نقدية مستمدة من منطلقات منهجية وتأويلية جديدة في طليعتها النقد الثقافي وإستراتيجية التفكيك، يعيد الناقد النظر في مفهومي (الأصيل) و(الخالص) مستحضرا مفاهيم نقدية من قبيل الهجنة بوصفها خاصية في المسرح المابعد استعماري وموقعا نظريا ينفلت من الثنائيات الموهومة: الشرق والغرب، الذات والآخر، السيد والعبد، والداخل والخارج. 
لهذا أضحى المسرح يتأرجح بين الأنية والغيرية والهوية والاختلاف، وفي الحد “الفاصل بين السردين: السرد الغربي والسرد المحلي/ السرد العربي الاسلامي، هكذا تسوق المسرح المغربي مع شرط الهجنة”، حيث يؤكد خالد أمين على ضرورة التهجين بين الفكر الأوروبي والذات العربية، والتحرر من الفكر الماضوي السكوني واستقبال الآخر بروح التكامل. 
يتميز المسرح المغربي الما بعد استعماري بنزوع عام نحو توسيط تقاليد فرجوية تنتمي للشرق وللأخر. فالمسرح المغربي راهنا هو مسرح الهجنة بامتياز، فهو متموضع بين “سردين وان كان ينحو نحو اثبات سرد ثالث داخل تخوم البينية. لم يعد هذا المسرح تقليدا للمسرح الغربي و لا شكلا ما قبل مسرحيا، وانما هو تقليد مختلف ومتسم بالهجنة ومؤسس على نقل كل ما يستعمل قصد تمثله بما هو شكل ما قبل مسرحي الى البناية المسرحية”.
إن الهجنة المسرحية وفق منظور ما بعد استعماري تحاول خلخلة ثقافة المركز عبر طرحها لمجموعة من التساؤلات المثيرة، وعبر نزع صفة النقاء الثقافي الذي فرضته الهيمنة الاستعمارية، فحدث تقاطع بين تصورين أو مشروعين أو ثقافتين كل ذلك أدى إلى ميلاد فضاء جديد سمي بفضاء الهجنة حيث تتعايش أو تتصارع ثقافة المركز وثقافة الهامش.
إن النص المسرحي الما بعد كولونيالي هو نص هجين، أي أنه يتضمن علاقة جدلية بين العناصر الثقافية للدول المستعمرة، وبين العناصر الثقافية للدول المستعمرة، من خلال استلهام النماذج الأوروبية وصهرها في بوثقة الثقافة المسرحية المحلية لإنتاج شيء جديد ومختلف يسمح بالتفاوض مع الاخر المستعمر، وبالتالي عمل المسرح الما بعد استعماري على “ابداع فضاء ثالث داخل ثبوتية وانغلاقية البناية الايطالية، ولقد مارس هذا الأفق الثالث تاثيره على الكتابة الدرامية التي أضحت كتابة هجنة تبرز الشفهية والأدبية في آن واحد”.
يدعو خالد أمين إذن، إلى ضرورة التهجين والتفاعل بين الفكر المسرحي الغربي والهوية الذاتية، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بالخصوصية العربية. ويتم ذلك من خلال التزام (النقد المزدوج) أي نقد المفاهيم الغربية المهيمنة وفي ذات الوقت الاختلاف معها، وأيضا نقد الهوية الذاتية (الأصيلة). 
إن نقد المشروع الثقافي الغربي لا ينبغي أن يولد انكفاء الذات أو ما يصطلح عليه بالتمركز المعكوس، لأن مواجهة تحديات العصر لا تعالج بالرجوع إلى الوراء. ولذلك انفتح رواد المسرح المغربي على إنجازات المسرح الغربي، ومزجوا في مسرحهم بين العمق التراثي المشكل للهوية، وأحدث التقنيات الجمالية الوافدة.
لإبراز مفهوم البينية يعود خالد أمين إلى أعمال المسرحي المغربي الطيب الصديقي بوصفه نموذجا للتلاقح بين الأنا والآخر، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، من خلال صهر النماذج المسرحية الغربية في الممارسات المسرحية المحلية لإنتاج شيء جديد ومختلف. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي مثل بها الطيب الصديقي مسرح الهجنة؟ وإلى أي حد ساهم في تقويض الثنائيات الضدية في المسرح المغربي الما بعد استعماري ؟ 
يحتل الطيب الصديقي مكانة خاصة في صناعة الفرجة، وذلك بسبب تخصصه في تأثيث زمن العرض بمهارات فنية على مستوى التمثيل واللباس والعرض والإخراج، من خلال استلهام التقنيات الفنية من التراث من جهة، واقتباس التجارب المسرحية العالمية من جهة أخرى.
شكلت أعمال الطيب الصديقي من منظور خالد أمين مثالا حيا للهجنة بين “الشرق والغرب بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، بين الفرجة الشعبية المفتوحة والبناية المسرحية المنغلقة على ذاتها”، حيث تمثل تجربة الصديقي طفرة نوعية في مسار المسرح المغربي، فنقل “تقنيات الفرجة الشعبية الى البناية المسرحية يعبر عن مسار الهجنة كثورة مستمرة لاشكال مسرحية يتم من خلالها اعادة صوغ ازمنة التشكيلات الفرجوية التراثية/ المعاصرة، كما يرمز الى وضعية المابينية الثاوية في عمق الممارسة المسرحية المغربية الراهنة”.
لا تخلو أعمال الطيب الصديقي من عناصر التجريب، من خلال الانفتاح على فضاء التراث المغربي من جهة، واستثمار النصوص المسرحية الغربية وتقديمها للمتلقي المغربي من جهة أخرى، وهذه الصدارة لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة التراكم المعرفي، والإحاطة بأسرار الفضاء وبخبايا مؤهلات الممثل وبخصوصيات جغرافية الفضاء المسرحي، فـــ”اثار جدلا مسرحيا بين المثقفين المغاربة-من جهة- حيث نرى بعض الفرق تعارض معارضة شديدة الشكل المسرحي الذي يوظفه – فنيا- لخدمة مضمون المسرحية المقدمة، ونرى فرقا قد تبنت افكاره، وطرق عمله في عروضها فهو الذي طور المسرح الاحتفالي، واثر عمله في تقديم العرض، والتمثيل، والتجربة، والبحث في العمل المختبري على قواعد فنية نابعة من صميم الضرورة الموضوعية الراهنة للحياة التي نحياها… ومن هنا كانت اصالة التزامها وشموليتها الفكرية، بل وقيمتها العلمية”. 
إن المتتبع لمسيرة الطيب الصديقي يلمس حضور السرد التراثي المحلي من جهة، ويلاحظ قدرته الفائقة على التواصل مع التقاليد المسرحية الغربية من جهة أخرى، كما تكمن أهميته في تحديث الخطاب المسرحي المغربي، وتأسيس كتابة درامية جديدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الأنا والآخر، والشرق والغرب. ويتجلى ذلك في مسرحيته الموسومة (ديوان سيدي عبد الله المجدوب) التي تشكل لحظة انبعاث المشروع التأصيلي في مغرب ما بعد الاستعمار. حيث “نقل الصديقي الحلقة باعتبارها فضاء جغرافيا وثقافيا وجماليا الى البناية المسرحية باعتبارها فضاء للاخر الغربي المزروعة في المغرب من حيث انها مؤسسة استعمارية يحيلنا انفتاحها الى تشكيلة الهجنة من خلال انعكاسها الذاتي الملح بما هو الية مرآوية الفرجة ذاتها عبر مصوغ التقعير”.
لعل ما يميز الطيب الصديقي في الجانب التأصيلي هو جرأته في التمرد على التقليد الفني الغربي، عبر تقديم عروض مسرحية في ساحات عمومية، وفي حدائق كبرى بغية وصل الممارسة المسرحية بالحياة اليومية، حتى يصير الفن المسرحي شيئا مألوفا عند الناس، ومن هنا جاءت فكرة تسمية فرقته بــ (مسرح الناس)، حيث يرى خالد أمين أن هذا الانفتاح يحيلنا على الهجنة من خلال “انعكاس المسرحية على ذاتها وذلك عبر إبراز آليات صناعة الفرجة المرآوية. وهي متموضعة في ساحة جامع الفنا باعتبارها موضعا مفتوحا للفرجوية وفضاء للهجنة بامتياز”.
لقد دشن الطيب الصديقي هذا التطور في مسرحيته (ديوان سيدي عبد الرحمان المجدوب)، فأسس خطابا جماليا كان له أثر عميق على تطور عملية التنظير المسرحي فيما بعد، كما شكلت هذه المسرحية من منظور خالد أمين طفرة نوعية تعكس “زمن توهج المسرح المغربي، ولكنها ايضا النص المرجعي الذي لا يزال يمارس سلطة رمزية على جل النصوص والابداعات اللاحقة التي تعاملت بشكل او باخر مع التراث الفرجوي المغربي”. 
لقد اخترق الصديقي آفاق التراث وفق اقتناع فني أساسه مسرح عربي الصيغة وعالمي الأبعاد، فقدم بذلك مجموعة من الأعمال المسرحية التي تستلهم الأشكال التراثية الشعبية في نوع من المصالحة الفنية مع بعض الإتجاهات المسرحية الغربية ذات التوجه الغربي، وبالتالي أبرز الصديقي قدرته الإبداعية الكفيلة بتطويع الأشكال الشعبية لخدمة العرض المسرحي، وخلق فعله المسرحي الذي أصبح معه معلمة المسرح المغربي، بوصفه أحد المخرجين القلائل الذين منحوا للفرجة المسرحية طقوسيتها المغربية والعربية بتقنيات غربية، حيث يعتبره حسن لمنيعي “اول من فتح اعيننا على فرجات متنوعة، ودفعنا الى مسايرة تجاربه التي تستفيد من تقنيات الغرب، واشكاله الدرامية، وتوظف عناصر التراث في نفس الوقت، كالحلقة، والبساط وغيرها”.
إلى جانب الطيب الصديقي هناك العديد من المسرحيين المغاربة من أمثال: أحمد الطيب لعلج، عبد السلام الشريبي، عبد الرحمان كاكي، عبد القادر علوة، عز الدين المدني، نهلوا من معين الذاكرة الفرجوية الشعبية: “ذاكرة جامع الفنا، باب بوجلود، القريعة…، من حيث هي فضاءات لعبية، فرجوية، تقليدية، شفهية”.
تمكن الطيب الصديقي من تطويع التراث الشعبي للفرجة المسرحية، اعتمادا على تقنيات المسرح الحديث، مسرحة، واخراجا، وتمثيلا، وعرضا، وفتح أفقا رحبا لتأسيس الاختلاف انطلاقا من التفاعل الإيجابي مع التراث من جهة، والانفتاح على التقنيات الدرامية الغربية من جهة اخرى، وأسس بذلك فضاء منتجا يخلق صيرورة تهجين دائم ومستمر، وانفلت من الثنائيات المتعارضة الانا والاخر، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الهوية والاختلاف، الانية والغيرية، عبر امتصاص النماذج المسرحية الغربية ودمجها وفق مقتضيات الثقافة المحلية لإنتاج شيء جديد ومختلف يحمل بصمات الثقافة الأصلية.
 
الهوامش :
– إدوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1997.
– حسن لمنيعي، المسرح المغربي من التاسيس الى صناعة الفرجة، دار الامان للنشر والتوزيع، ط.2، 2002. 
– خالد أمين، مساحات الصمت غواية المابينية في المتخيل المسرحي، منشورات اتحاد كتاب العرب، ط.1، 2004. 
– خالد أمين، “الفن المسرحي واسطورة الاصل”، منشورات الطوبريس، ط.1، 2002.
– خالد امين، المسرح ودراسات الفرجة، منشورات المركز الدولى لدراسات الفرجة، ط.1، طنجة، 2011.
– عبد الرحمان بن زيدان، خطاب التجريب في المسرح المغربي، مطبعة ساندي، ط.1، مكناس،1997.
عبد الرحمن بن زيدان، أسئلة المسرح العربي، دار الثقافة، ط.1، 1987.
– عبد الكبير لخطيبي، النقد المزدوج، منشورات الجمل، ط.1، بيروت، 2009.
– ديوان الطيب الصديقي، “ديوان سيدي عبد الرحمن المجدوب”، دار ستوكي للنشر، الرباط، 1997.
– هومي بابا، “موقع الثقافة”، ترجمة: ثائر ديب، ط.1، المركز الثقافي العربي، الدار بيضاء، 2006.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *