المسرح الخليجي يواكب الحركة العالمية: أفكار جريئة ومعالجات جديدة

 

لا تنفصل حركة المسرح العربي الحديث عن نظيرتها بدول العالم الغربي، وهي الحركة التي شهدت تفوقا وتقدما وتحررا من القوالب المألوفة. وفي خضم الخلخلة التي بلغت بالمسرح العربي شأوا بعيدا في مسار التحديث وكسر الأطر التقليدية، احتل المسرح الخليجي موقعا مرموقا بظواهره وتقنياته وتجلياته وتجسّداته التطبيقية والتنظيرية في آن.

يقفز المسرح الخليجي المعاصر يوما بعد يوم صوب توجهات وآفاق جديدة وفضاءات غير مطروقة، وشهدت عروض المسرح الخليجي خلال الأشهر القليلة الماضية انزياحات جمالية وتطورات نوعية في الأفكار والمعالجات والأداء الفني، وهذا ما يمكن رصده بوضوح في المسرحيات الخليجية المتميزة التي شاركت في أكثر من مهرجان دولي في القاهرة والشارقة ومدن عربية عدة.

وعبر مجموعة من المهرجانات والمؤتمرات الدولية المتتالية، أسفر المشهد المسرحي الخليجي عن وجهه الناصع بعروض مسرحية طليعية من الإمارات والعراق والكويت وسلطنة عُمان وغيرها، فضلا عن أطروحات منهجية ودراسات أكاديمية بأقلام باحثين نابهين، أسهمت في تشكيل مظلة من الوعي الجاد بـ”فن المسرح”، الذي يحتل الصدارة دون منازع بين جُملة الفنون العربية الراهنة.

أفكار وتقنيات متطورة

واجهة التطرف والإرهاب في العرض الإماراتي “ليلك ضحى”

من خلال مسارين أساسيين، يمكن اتخاذ شواهد ودوال لا حصر لها للإشارة إلى الحضور الخليجي المثمر والمؤثر في خارطة المسرح العربي والعالمي، أولهما: المسار التطبيقي، حيث العروض الفنية ذاتها التي ملأت خشبة المسرح، وثانيهما: المسار التنظيري، حيث الموسوعات والأطروحات والدراسات النقدية التي استشرفت موجة التحديث المسرحية.

يصعب الوقوف على كافة القرائن المُحيلة إلى هذين المسارين بالتأكيد، لكثرتها وزخمها، لكن يمكن انتقاء بعض النماذج والأمثلة، من خلال المشاركات الخليجية، فنّا ونقدا، في بعض الفعاليات الدولية الأخيرة خلال الفترة الوجيزة الماضية، ومنها “مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي” في سبتمبر الماضي و”مهرجان المسرح العربي” بالقاهرة في يناير الماضي و”ملتقى الشارقة للمسرح العربي” و”مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي” في فبراير ومارس 2019، وغيرها.

في الحدثين الأخيرين بالشارقة منذ أيام قليلة، تفجرت عروض خليجية لافتة، وصدرت موسوعة نقدية مهمة، بالإضافة إلى الجلسات البحثية والموائد النقاشية التخصصية والورش التدريبية ضمن “ملتقى الشارقة للمسرح العربي” بعنوان “المسرح العربي والمجايلة: التواصل والتقاطع”.

من العروض الجيدة المتماسكة التي لفتت الأنظار “الزبون الصعب” لفرقة المسرح الكويتي، من تأليف الفرنسي ماكس رينيه، وإخراج سعود القطان، وتمثيل فهد الخياط وموسى بهمن، وسينوغرافيا وديكور هبة الصانع.

جاء العرض في إطار مسرح الديودراما (الثنائي) الذي يتطلب قدرات عالية في عناصر اللعبة المسرحية من أجل شغل فضاء المشهد، وقدّم معالجة عصرية لنص عالمي بما يلائم الواقع العربي بمآسيه وتمزقاته، مصوّرا حالة إنسانية بالغة الهشاشة، حيث يذهب رجل إلى قسم الشرطة أو موضع التحقيق أو حجز السجناء (ثمة تعمية مقصودة فنيّا)، لتقديم بلاغ عن زوجته المفقودة، فيفاجأ بتعنت السلطات ومبالغتها في الاستهزاء بمطلبه، فلا تساعده في التفتيش عنها، ولا تمنحه سوى احتمالات لموتها.

استخدم العرض الدمى والعرائس و”مانيكان” عروض الأزياء لخلق مفارقة بين الحياة والموت، والجسد الإنساني والجثة. كما رسم ملامح التفوق المسرحي في الإخراج والديكور والسينوغرافيا، في إطار من السواد والقتامة، مع تسليط الإضاءة على بؤرة الحدث المكثفة لإبرازها، بمصاحبة موسيقى معبرة عن تأجج أحاسيس الزوج واحتراق أعصابه، ولامبالاة الشرطة (السلطة) إزاء معاناة البشر.

رؤى تجريبية

قدم العرض المسرحي “تفاصيل الغياب” من سلطنة عمان معالجة أكثر توسعا لمسرح الدمى وفنون العرائس، وهو لفرقة “الصحوة” المسرحية، من تأليف فهد ردة الحارثي، وإخراج سعيد أسعد عامر، وتمثيل: عائشة البلوشية وخميس الرواحي، وتحريك ماريونيت: موسى الهنائي ومحمود الدهماني.

وحمل العرض رؤية تجريبية للمزج بين البشر والعرائس، فتارة يحضر البطلان كريم ونوال على المسرح، وتارة تحضر الدمى لتتحدث بلسانيهما.

ومن خلال مشاهد مكثفة متلاحقة، تحولت رحلة الحياة إلى محطات ونثارات مبتورة، لا تكتمل دوائرها أبدا بلقاء دائم أو علاقة ممتدة، كالزواج مثلا، وإنما هناك صراع وجدل وتنافر بعد تجاذب، على طول الخط.

نجح العرض العُماني في تجسيد ملامح الحياة المعاصرة في مجتمع معقد ممزق يعج بالمشكلات المادية والإحباطات النفسية، فالخبز اليومي الذي يتعاطاه البطلان معجون بالأزمات والمصاعب، التي ينتج عنها مطب بعد مطب، وفراق بعد فراق، على أن نقطة الانفصال بين الروحين، وأيضا بين الجسدين (الدميتين) هي صالحة دائما لأن تكون بداية لقصة جديدة.

الاغتراب كمتاهة أبدية في العرض الإماراتي “مازال الثلج يسقط”   ​

تبلورت في العرض أبجديات المسرح الحديث بما فيه من سينوغرافيا متطورة تتسع للمرايا والحواجز والخدع البصرية، وقد تمتع ممثلاه بالسرعة والحركة والقدرة على تقمص أكثر من وجه وقناع، وتغيير الصوت والأداء بحسب الموقف والشخصية، وظهرت العرائس تفاعلية دينامية، تحمل جذوة الإنسان في داخلها، مقتربة من نبض الجمهور برهافتها ورغبتها في الانفلات من خيوط التحريك.

ولفت العرض الإماراتي “مازال الثلج يسقط” لفرقة مسرح خورفكان، الانتباه بقوة على صعيد الأفكار التي حملها، والتكنيك المسرحي المستخدم في تمرير هذه الأفكار فنيّا وجماليّا إلى الجمهور.

انطلق العرض من منصة فلسفية، حيث الصراع الحواري والحركي الدائر بين أخوين يعيشان في المنفى في بيت أب “غربي” تبنّاهما منذ صغرهما ويحاول أن يحنو عليهما بعد فقدهما أباهما وأمهما الحقيقيين في موطنهما “الشرقي”.

وأصدرت دائرة الثقافة في حكومة الشارقة منذ أيام قليلة كتابا من إعداد الناقد المسرحي عصام أبوالقاسم، بعنوان “الفضاء المسرحي -التوجهات الجديدة وآفاقها”، يشتمل على أطروحات ملتقى الشارقة للمسرح العربي، ويترصد على نحو موسوعي تأثر المسرح العربي المعاصر بموجة التحديث العالمية في تشكيل “الفضاء المسرحي”.

احتوى الكتاب على العديد من الدراسات الأكاديمية لنخبة من الباحثين والمسرحيين العرب، المؤطرة للحركة المسرحية الحالية، بهدف خوض رهانات التجديد وإشكالاته، وتحليل الأعمال المسرحية الرامية إلى الخروج من المسرح التقليدي (العلبة الإيطالية/المنصة والصالة)، إلى فضاءات مبتكرة وأمكنة مفتوحة مثل الصحراء والسوق والمقهى والشارع.

وحمل “مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي” في سبتمبر الماضي صورة مشرقة للمسرح الخليجي، ومن نماذجه المتفوقة العرض الإماراتي “ليلك ضحى”، الذي تصدى بجسارة لطيور الظلام وقوى الإرهاب والتطرف، وفق شعار “المسرح تحت دوي القنابل”، من تأليف وإخراج المسرحي الأردني المقيم في الإمارات غنام غنام. وعرّى العرض الجريء ازدواجية الرجعيين من المتأسلمين، الذين يقولون ما لا يفعلون، إذ سعوا إلى الضغط على الشاب ضحى لكي يطلق زوجته ليلك، بحجة أنه لا يصلح لها، كونه موسيقيّا ماجنا.

فرضت عروض الإمارات والكويت وعُمان وغيرها كلمتها المسموعة وحضورها المؤثر، ليستحق المسرح الخليجي المعاصر بجدارة مكانة لائقة في المشهد المسرحي العربي، الساعي إلى التجديد والابتكار.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *