المسرح الأفريقي يبهر الجمهور على إيقاعات الأجساد والطبول / شريف الشافعي

 

 

 

يحتفي مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الجارية هذه الأيام بالمسرح الأفريقي، الذي يبقى شبه مجهول رغم ما يتميز به من عوالم تنطلق من الجسد ولا تتوقف لديه، حيث أن الحضارات الأفريقية العريقة كان محورها الجسد، ولا أحد ينكر تأثيرها في الرقص والموسيقى على مستوى عالمي. ويقدم المهرجان 5 عروض جرى اختيارها من بين 18 عرضا تقدمت بها 13 دولة أفريقية غير عربية.

القاهرة – فتح العرض النيجيري الدرامي الراقص “أرض الشعب” نافذة مضيئة خصبة لإطلال الجمهور المصري على المسرح الأفريقي المعاصر، الذي شكَّل محور العروض والندوات بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته السادسة والعشرين.

يتسم المسرح الأفريقي عبر تاريخه بخصائص متميزة وتوليفة فريدة من المفردات، حيث يمتزج فيه الطابع البدائي، والإرث الحضاري، والمخزون الإنساني المقترن بلحظات السعادة والمعاناة على السواء، وعادات القبائل وممارساتها الاجتماعية اليومية، وطقوسها الدينية والاحتفالية، ورقصاتها وموسيقاها وأغنياتها المنوّعة، وغيرها من التفاصيل المعبّرة عن الاستقلالية والرغبة في مخالفة المستعمر، وعن حياة كاملة بأبجدياتها المجانية وفلسفتها العميقة.

ابتسامات الجسد

عكس العرض النيجيري “أرض الشعب” على مسرح “البالون” في القاهرة بجدارة وتلقائية راهن المسرح الأفريقي بما فيه من إدهاش ومتعة وصخب، وكذلك ما يعتريه من دوران سلبي حول محور الهوية والموروث المقدّس.

من أبرز المكاسب التي حصدها جمهور المهرجان (10 – 19 سبتمبر) إقامة جسور تواصل حقيقية مع تجارب مسرحية مغايرة من سائر أرجاء العالم من خلال العروض الحية المباشرة، وليس فقط على مستوى التنظير.

ومثّلت العروض الأفريقية من الكونغو وجنوب أفريقيا ونيجيريا فاكهة المهرجان، بما حملته من طزاجة وبكارة ونزعة إنسانية خالصة، ورؤية واسعة متعددة الآفاق لفن المسرح، ليس فقط كمحاكاة للواقع، وإنما أيضا كفضاء للسحر والخيال والأحلام وبناء عوالم بصرية وصوتية موازية، تتحرر فيها الذات من شقائها وقيودها ومعارفها الضيقة، وتمارس جنونها وانطلاقها وشفافيتها وانفلاتها اللانهائي.

رسم العرض النيجيري لمسرح “إيماج دوت كوم” العالمي، من تأليف وإخراج أوفوندا إهونو، بانوراما مؤرخة لسيرة الشخصية الأفريقية عمومًا، وأهل نيجيريا على وجه الخصوص، مركزا على تطوّرات هذه الشخصية وتحوّلاتها الجوهرية منذ مرحلة ما قبل الاستعمار، إلى يومنا هذا.

لعب العرض على تقنية الثابت والمتحول، متخذًا من “الأرض” و“الفلكلور” رمزًا للثبات والجذور الثقافية والحضارية، ومن البشر المتأثرين بالمستجدات المحيطة رمزًا للتحولات الفكرية والسلوكية والاقتصادية والسياسية “لقد حضر الغرباء. إذن، لقد تغير العالم”.

“أرض الشعب” عرض يعزف على العناصر الجسدية ذات الطابع السردي الحكائي ويدمجها في جو من الإبهار والسحر

شكّل الرقص الثيمة الرئيسية للتعبير عن هذا الثابت الموروث الفلكلوري، وحمل العرض رسائله الأساسية عبر تقنيات الأداء الجسدي والحركي، وتعبيرات الوجوه والإشارات والإيماءات والصرخات والكلمات غير المفهومة باللهجات القبلية المحلية، وذلك على حساب لغة الحوار والسرد (الإنكليزية) التي تقلّصت إلى أدنى حدودها في العرض، سواء أثناء المواقف والأحداث الدرامية القليلة، أو في الاستعراضات الجماعية التي ملأت فراغ المسرح كفرجة بصرية مستقلة مكتفية بذاتها.

راهن العرض على فكرة أن الأحوال مهما تبدّلت إلى الأسوأ، والبشر مهما تغيّروا بفعل المادية وذيول الاستعمار والرأسمالية وقوى القهر والقمع وألاعيب السياسة والحروب الأهلية وغيرها، فإن الجوهر الأفريقي هو التفاؤل والمرح والإيجابية والأمل “نحن الأفارقة.. أيقونات السعادة”، فهذا هو أصل المعدن النفيس في الأرض وفي الخميرة الآدمية في هذه الرقعة “بلاد الجَمال”، وتلك الحقيقة المستقرة قبل قدوم المستعمر الأبيض تحت ستار الدين، بهدف نهب الثروات المحلية واستعباد البشر.

أبدع فريق العمل في تصوير هذا الإشراق الإنساني من خلال الابتسامات التي لم تنطلق فقط من وجوه الممثلين والراقصين، وإنما أيضا من خلايا أجسادهم بالكامل، المتمتعة بالرشاقة والجاذبية والإقبال على الحياة. وامتزج احتفاء العرض بالمتعة والبهجة والتحلل من أمراض الروح والبدن، بتقديمه التحية وأناشيد الامتنان لرجالات الثورة والنضال والتحرر في نيجيريا وأفريقيا كلها، وعلى رأسهم نيلسون مانديلا.

لم تتخذ نيجيريا شكل الدولة المدنية الحديثة إلا في عهد الاستعمار البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر، وشكّلت بريطانيا الكيانات الإدارية والقانونية مبقية على المشيخات التقليدية، وحصلت نيجيريا على الاستقلال في عام 1960، وخاضت بعده حروبًا أهلية استمرت سنوات، قبل أن تتعافى من ويلاتها، وتنطلق نحو التنمية في سائر المجالات.

المعاصرة والتقليد

لم يجد مُشاهِد عرض “أرض الشعب” ما كان ينتظره في مخيّلته من الصناعة المسرحية الثقيلة، المحبوكة، وفق المعايير المدرسية، لكنه وجد امتدادا للفنون الحركية البسيطة، والرقصات الأفريقية القبلية، المسكونة بالتراث المحلي، وأنغام المزامير، ودقات الطبول.

عزف العرض على هذه العناصر الجسدية الخاصة المتاحة، ذات الطابع السردي الحكائي، بهدف تطويرها، ودمج ما تحتويه من إبهار وسحر وسير شعبية وأساطير وأحلام وإثارة وجنون، مع مقوّمات الدراما وموسيقى الجاز والديسكو والرقص الحديث، وانقسم العرض في داخله إلى عرضين: أحدهما تقليدي برقصاته وملابسه ولغته وإضاءته والسينوغرافيا البدائية، والآخر: معاصر، باستعراضاته وأزيائه وأغنياته وديكوره الجديد.

نجحت المسرحية في تمرير أفكارها حول المعاناة والثورة والحرية وإرادة الشعب وطبيعة الشخصية الأفريقية وغير ذلك، كما نجحت في تحقيق الجماليات المنشودة على مستوى استخلاص رحيق الثقافة المحلية وحفظ الفنون الموروثة في الذاكرة الخاصة بجذور المسرح الأفريقي، كطقوس اجتماعية ودينية وحركات راقصة معبّرة وصراعات بسيطة بين البشر والطبيعة وقوى الشر.

كذلك فتح مسارات تخييلية تتجاوز الواقع المعيش إلى عوالم سحرية وعجائبية وحلمية، كائنات بشرية برؤوس أسماك، لكسر وطأة المأساة، وللسماح للذات بإعادة اكتشاف مكامن طمأنينتها وهنائها ونعيمها.

أما على مستوى تطوير الفن المسرحي المعروف، أو حتى بناء التشكيلات الحركية الاستعراضية التي تعيد إنتاج الرقصات القبلية القديمة بصيغ جديدة عصرية، فلم يتمكّن العرض المنتمي إلى بلد المسرحي الشهير وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب في عام 1986، من المضيّ قُدمًا في هذا المجال، ولعل الهوس بالموروث بوصفه مقدّسا أدى إلى نشوء حائط صدّ معتم أضعف فرصة الابتكار إلى حد بعيد.

____________

المصدر العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش