المسرحجي لينين الرملي.. الرجل الأكثر تأثيرًا فى وجدان المصريين

كانت بدايته كاتبًا للقصة حيث نشر أول قصة قصيرة بمجلة «صباح الخير» عام 56، وصدرت له أول قصة منشورة فى كتاب عام 58 وهو فى الثانية عشرة، وحرر مجلتين مطبوعتين لعددين، وأشرف على صفحة الأدب فى جريدة العمال وكتب أسبوعيًا بها عامًا ونصف العام قبل تخرجه من الدراسة، ثم تركها عند منع إحدى مقالاته ورفض أن يعود لها. بدأ الكتابة للتليفزيون عام 67، فى أعقاب النكسة، وقدم ما يقرب من 30 عملًا بين تمثيليات ومسلسلات نالت جماهيرية واسعة مثل «فرصة العمر، وحكاية شرارة، ومبروك جالك ولد، وهند والدكتور نعمان» وغيرها، وأربعة مسلسلات إذاعية فاز اثنان منها بجائزة أفضل تأليف، بالإضافة إلى العديد من الأعمال السينمائية، أما المسرح فقدم له أكثر من (55) مسرحية للقطاعين العام والخاص وأيضًا المسرح المستقل ومسارح الهواة. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذى حققه فى المسرح التجارى، فإنه خاض تجربة مختلفة عام 1980 مع زميله الفنان محمد صبحى تحت عنوان «ستديو 80»، قدم من خلالها ست مسرحيات كان لها تأثير كبير فى تغيير مفهوم مسرح القطاع الخاص الذى اكتسب سمعة سيئة فى تلك الفترة، فمع مجموعة من المسرحيات مثل «تخاريف، ووجهة نظر» تغيرت هذه النظرة، حين أصبحت للكتابة الساخرة فلسفة عميقة مغزاها الإنسان وقضاياه الوجودية ومشاكله اليومية البسيطة والعميقة، وذلك من خلال الكوميديا الجماهيرية التى ناقش من خلالها مشاكل المجتمع المصرى وأيضًا الواقع العربى فى بعض الأعمال، لتتفاعل معها كل شرائح المجتمع.

كان يقرأ أحداث المجتمع المصرى ويطرح أسئلة اللحظة الراهنة.. وحاول علاج «عبث الحياة»
أذكر أننى قرأت أعمال لينين الرملى المسرحية دفعة واحدة خلال شهر تقريبًا، وذلك حين حصل على جائزة الأمير كلاوس من هولندا عام 2006، الجائزة التى يتم منحها للكاتب الأكثر تأثيرًا فى مجتمعه، ومن قبل كنت قد شاهدت له بعض العروض على خشبة المسرح أو عبر شاشة التليفزيون، بالإضافة إلى أعماله الدرامية الأخرى فى السينما والدراما التليفزيونية والإذاعية، وكان بالنسبة لى كاتبًا متميزًا من نجوم المسرح التجارى، مع كل التحفظات على هذا النوع من المسرح، وأهمها ابتعاده عن قضايا اللحظة الراهنة، وقرأت هذه الأعمال حين طلبت منى إحدى الدوريات الكتابة عنه بمناسبة الجائزة، وحين بدأت القراءة تغيرت الصورة تمامًا، واكتشفت الوجه الحقيقى لهذا الكاتب الذى غيّر مفهوم مسرح القطاع الخاص فى سبعينيات القرن الماضى، وكنت مشغولًا أثناء القراءة بالبحث عن كيفية تأثيره فى المجتمع، ذلك السبب الذى حصل من أجله على الجائزة.
وأثناء القراءة ظهرت صورة مختلفة عما كان فى ظنى من قبل، فمن خلال النصوص بدأت شخصيته تتجسد أمامى عبر مراحل متعددة، سواء فى المسرح التجارى، أو مسرح الدولة أو الفرقة الخاصة التى كونها مع زميله محمد صبحى، أو مع فرقته التى كونها بمفرده عام 2000 مع مجموعة من الهواة، وفى كل هذه المراحل كان لينين الرملى يقرأ أحداث المجتمع المصرى ويطرح أسئلة اللحظة الراهنة، ولكن من خلال أسلوب كوميدى فى دراما اجتماعية، ثم تطور الأمر إلى أسئلة وجودية، إلى قضايا سياسية واضحة ومباشرة فى مرحلة أخرى، ولكنه فى كل الأحوال كان يعالج عبث الحياة والمآسى التى يعيشها الإنسان بالسخرية فى قالب كوميدى، فثمة وعى حاد بكل أحداث المجتمع المصرى.
وعلى سبيل المثال راح يحذر من سطوة الأجهزة الأمنية فى مسرحية «اللهم اجعله خير»، ومن سطوة الماضى الذى أصبح الحاكم والمسيطر فى «أهلًا يا بكوات»، ومن قبل ناقش الخرافة التى سيطرت على حياة المصريين فى «عفريت لكل مواطن»، حيث بدأ مطلع التسعينيات يرصد الواقع المصرى ويشارك دراميًا فى الأحداث، وكان هذا واضحًا منذ أن بدأ يقدم عروضه فى مسرح الدولة.
ومنذ عام 2006 لم يكن لينين الرملى بالنسبة لى الكاتب المسرحى المتميز الذى أشاهد عروضه وأتناولها بالنقد والتحليل، بل ظاهرة وحالة نادرة فى المسرح المصرى، حالة مختلفة لا تشبه سواها، فلا يمكن تصنيفه فى خانة المسرح التجارى أو حتى مسرح الدولة ولا الفرق المستقلة، رغم أنه مارس كل أشكال المسرح فى صيغه الإنتاجية، لكنه احتفظ لنفسه بشخصية لا تمثل سوى لينين الرملى.

ظل مخلصًا لمسرح الناس.. ودرس جميع الأشكال العالمية
قدم لينين الرملى للمسرح المصرى والعربى ما يقرب من خمس وخمسين مسرحية، حالة نادرة فى تاريخ المسرح المصرى، خاصةً فى النصف الثانى من القرن العشرين.
وكلما تأملت أعماله وحياته وأسلوب عمله وعلاقته بفن المسرح أشعر بأنه كان من المفترض أن يعيش فى العقد الثانى من القرن العشرين مع جيل الرواد أصحاب الفرق والمسارح الذين كانوا يكتبون النصوص للفرقة التى يعملون معها، يكتبون على خشبة المسرح، ولا يؤمنون بالنصوص المسرحية كنصوص أدبية، فالكتابة للعرض لا للقراءة، كل حياة لينين الرملى وأعماله تؤكد أنه رجل مسرح وليس فقط كاتبًا مسرحيًا، بل «مسرحجى» إخلاصه الأول والأخير لفن المسرح، كفعل على خشبة المسرح مع الممثلين والعناصر الأخرى، وليس كنص أدبى للقراءة، فهو يكتب العرض المسرحى وليس النص المسرحى.
وفى أعماله لم يهتم لينين الرملى بالتراث، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، لم يهتم بالأيديولوجيا، أو قضايا المسرح التى تم طرحها للمناقشة، فقط كان اهتمامه باللعبة المسرحية على خشبة المسرح من خلال الإنسان، ولا يخلو اختياره للكوميديا ومسرح القطاع الخاص من دلالة فى بداية حياته المسرحية، وإن كان الأمر سوف يتغير فى مراحل أخرى من حياته، ليكتب فى مرحلة متأخرة ملاحظاته حول المسرح المصرى، «نلاحظ أن المسرح بدأ فى مصر كأعمال تراجيدية دينية توجهها السلطة- المسرح الفرعونى- وأن الناس صنعوا فنهم الدرامى بعيدًا عن السلطة، وخارج الإطار الدينى بل غالبًا فى غفلة منهما، واليوم نرى أن السلطة والإدارة البيروقراطية لا تتحمس كثيرًا للمسرح، فإن تحمست قدمت أعمالًا رصينة ذات أهداف موجهة، أما النظرة الرسمية الدينية شبه الرسمية فتكاد تحرم المسرح والفن عامة، بينما الناس يقدمون مسرحهم الشعبى البسيط الساخر بعد تطويره بعض الشىء». وظل لينين الرملى مخلصًا لمسرح الناس فى كل أعماله، فهو أقرب إلى الروح الشعبية، ولكنه دعمها بالدراسة العلمية لكل أشكال المسرح العالمى فى محاولة للتعبير عن هموم الإنسان، وقد استطاع فى فترة قصيرة أن يحقق التواصل الجماهيرى مع التقدير النقدى، فقد درس طبيعة الشعب المصرى إلى جانب المسرح، واختار الكوميديا التى تتناسب وروح هذا الشعب الذى يعرف كيف يتذوق الضحك، فهو لا يقاوم الضحك فى أحلك الظروف، بل يعيش ويقتات على السخرية، حيث قاوم المصريون الطغاة بالسخرية من خلال خيال الظل والأراجواز.

بدأ كتابة «الكلمة الآن للدفاع» عام 1973 وانتهى منها ظهر السادس من أكتوبر
بدأ لينين الرملى الكتابة للمسرح فى بداية السبعينيات، وهى مرحلة فارقة فى تاريخ المسرح المصرى، بل ومصر كلها دون شك، حيث بدأ العقد السابع من القرن العشرين وقطار المسرح المصرى يفقد اتجاهه وبقوة أيضًا، ربما كردة فعل لهزيمة 67 أو بداية مرحلة جديدة فى فترة حكم السادات،.
كان ذلك عام ١٩٧٣ حين بدأ لينين الرملى كتابة أولى مسرحياته «الكلمة الآن للدفاع» عام 1973- سبقتها محاولات عديدة اكتملت فيما بعد- والتى يجسد من خلالها شخصية محام شاب مثالى ومثقف، ويدفع ثمن مثاليته بأن يخسر كل شىء حتى حبيبته، ويقف فى نهاية المسرحية عاجزًا لا يستطيع حتى الصراخ، وأخبرنى فيما بعد أنهى كتابة هذا النص ظهيرة السادس من أكتوبر عام 1973.
ودون شك فإن حال المسرح المصرى فى سبعينيات القرن الماضى كان له الدور الأكبر فى توجه لينين الرملى فى بداية حياته إلى مسرح القطاع الخاص أو التجارى، بعيدًا عن المؤسسة التى أحكمت قبضتها على المسرح ومارست كل أنواع القهر على أهله.
وظنى أنه لم يؤمن بالحقبة الناصرية التى عاشها فى مطلع شبابه ولا بإنجازاتها السياسية أو الثقافية، وسوف يجسد موقفه من هذه الحقبة فى مسرحية «سعدون المجنون»، وابتعد عن معارك المسرحيين حول اكتشاف أشكال مصرية وعربية للمسرح، هذه المعركة التى احتدمت فى ستينيات القرن الماضى وأنتجت أشكالًا وأساليب مسرحية جديدة، سواء عند توفيق الحكيم أو يوسف إدريس أو محمود دياب، ولم يهتم بالأفكار السائدة وقتذاك والقضايا السياسية الكبرى، ولكن دون شك كان اهتمامه بالإنسان لا أكثر ولا أقل، وإن كان سوف يشتبك مع السياسة فى مرحلة متقدمة، ولكن بصورة غير مباشرة، وبالطبع بأسلوب ساخر، فلم يبحث أو يتبنى كغيره القضايا الكبرى والمقولات السياسية فى المضمون الذى يطرحه، كما لم يهتم بقضايا الشكل فى الكتابة، واتجه إلى الكوميديا لتكون السخرية هى سلاحه الرئيسى فى معركة المسرح فى المراحل الأربع التى مرت بها حياته المسرحية، التى جاءت مزيجًا ما بين الكوميديا والتراجيديا. وحين سألته عن الذين أثروا فيه من كتاب المسرح قال لى: «لقد تأثرت بالكثيرين منهم بالتأكيد، لكنى حاولت أن أحفر طريقى بشكل آخر».
وهذا ما حدث بالفعل، وكلما تأملت بداية لينين الرملى توقفت أمامها كثيرًا، فقد كان مغامرًا دون شك، انحرف عن الطريق الذى كان يسير فيه الجميع وقتذاك وسار وحده!، كان والده فتحى الرملى يعمل بالسياسة والصحافة وكون حزبًا، وكانت والدته السيدة سعاد زهير تساعده وعملت أيضًا بالصحافة وحتى آخر عمرها. وأخبرنى بأنه كان يطلب منها أن تقرأ له الصحف وتشرح له وقال لى: «ولأنى كنت خجولًا ومنطويًا كنت أختلق مواقف فى ذهنى كأنى أناقش الآخرين. وبدأت بكتابة أول قصة وأنا فى العاشرة، ونشرتها لى أمى فى صباح الخير فى أول الخمسينيات، وبعدها كتبت قصصًا قصيرة قبل أن أعرف المسرح، ولمّا عرفته مبكرًا أضفت المسرح ضمن ما أكتب، وظهر التليفزيون فكتبت التمثيليات ثم الإذاعة متأخرًا».
وربما تكون هذه النشأة التى منحته اسمًا «لينين» سوف تجلب له المتاعب، بل وتمنع أعماله من النشر فى البداية، سببًا فى ابتعاده عن السياسة بشكلها المباشر الذى كان معتمدًا لدى مثقفى تلك الحقبة، وذهب مباشرة إلى مسرح القطاع الخاص، فإذا كان قد قدم أولى مسرحياته من إخراج جلال الشرقاوى عام 1974، أخرج له أيضًا نور الدمرداش فيلم «القنطرة شرق» فى نفس العام، ولم يكن أول أفلامه فقد كتب سيناريو فيلم «مدرسة الجنس» عام 1972 بتكليف من المخرج الكبير صلاح أبوسيف، ولكنه لم ير النور إلا عام 2002.
وسبق ذلك ثلاثة برامج إذاعية وتلتها ثلاثة مسلسلات تليفزيونية سوف تكون من العلامات البارزة فى الدراما التليفزيونية، هى «فرصة العمر 1976، حكاية ميزو 1977، برج الحظ 1978»، فلم تكن بداية لينين الرملى مسرحية خالصة، كانت بداية درامية فى الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، بالإضافة إلى كتابة القصة والمقال وإصدار مجلات مع آخرين، فقد كانت ملامح حياته الفنية واضحة منذ البداية، فرغم دراسته الأكاديمية وحصوله على بكالوريس المعهد العالى للفنون المسرحية عام 1970، فإنه اتجه إلى القطاع الخاص، حيث اختار المتعة والفكر من خلال مضمون اجتماعى إنسانى فى كل أعماله من خلال رؤية نقدية ساخرة للمجتمع طرحها من خلال أشكال متعددة، حيث الكوميديا التى لا تخلو من رؤية فلسفية عميقة لقضايا الإنسان والمجتمع فى أعماله المتأخرة، والفارس والأعمال المقتبسة فى أعماله المبكرة، وبشكل عام ثمة سخرية سوداء فى كل أعماله، ومزج بين الواقعى والفانتازى فى أفكاره التى تطرحها أعماله التى يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل لم تكن فاصلة تمامًا، بل تداخلت فيما بينها، لكنها تمثل محطات فنية كبرى فى حياته وهى «القطاع الخاص» و«ستديو 80» و«مسرح الدولة» و«المسرح المستقل».

جرجس شكرى

https://www.dostor.org

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش