الكاتب المسرحي المصري أحمد نبيل: مناخنا يسوده الخوف وأي مواطن (صالح) يستطيع أن يحبس كاتباً

القاهرة ــ «القدس العربي»: أحمد نبيل كاتب سيناريو ومسرح وروائي شاب، وبخلاف الجوائز العديدة التي حصدتها أعماله، إلا أن تفاعل الجمهور مع نصوصه المسرحية عند عرضها يعد الأثر الأبقى والأكثر تأثيراً. يحاول نبيل دوماً أن يكسر المألوف والمتوقع لدى القارئ أو المتفرج على السواء، فالتعامل مع ما يكتبه يخلق حالة من الدهشة لا تزول سريعاً، بدون الاعتماد على البروباغندا المعروفة في الوسط الثقافي المصري، أو العربي بشكل عام. وبمناسبة استئناف عرض مسرحيته «الخروج عن النص» حالياً على مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية، التي حصدت عدة جوائز داخل مصر وخارجها، كان لـ»القدس العربي» معه هذا الحوار:
• هناك حالة دائمة تتمثل في التشبث بالذاكرة، سواء الطفولة أو الذاكرة الجمعية لشخصيات تتخذ دوماً شكل الضحية، ضحية مصيرها بالأساس.
■ رأيت في أحد الأفلام ضفدعاً مربوطاً في حجر، ثم جاء أحدهم فحرره فكان أول ما فعله الضفدع أن عاد إلى الحجر وألقى نظرة عليه ثم ولى هاربا. ما أعنيه أن الحنين لا يعمل دائماً بطريقة مفهومة، فالحنين إلى الماضي يعد اعترافاً ضمنياً بزواله، ولكنني أرى فارقاً بين العيش في الماضي ومحاولة فهمه، وهو في ظني ما حاول الضفدع أن يفعله. قيمة الذاكرة أنها تتحرك عكس اتجاه الزمن. كل شيء مهدد بالزوال، الأماكن مثلاً كما سبق وكتبت في مجموعة ديموديه عن مدينة غرناطة في مصر الجديدة، لقد عرفت هذا المكان في طفولتي، والآن هو مجرد مبنى خرب ومهجور وخلال سنوات لن تجد مَن يعرفه، سيموت تماماً ولكنه سيبقى حياً في ذاكرتي. والكتابة ذاكرة في الأساس.
• لماذا تسيطر فكرة الموت على نصوصك، سواء الموت الفعلي كما في مسرحية «الخروج على النص»، أو الموت المجازي لشخصيات مجموعة ديموديه على سبيل المثال.
■ يقول بولس الرسول «إن ما تزرعه لا يحيا إلا إذا مات»، فالموت أحيانا يمنح الأشياء معانيها. ولنعترف أن موت أبطال المسرحية يتضاءل أمام الأثر الذي تركته أفكارهم في الفن والحياة. ذلك الأثر الذي يصعب التحكم فيه من قِبل أي سلطة. يمكنك أن تصادر عملاً فنياً أو حياة إنسان ولكنك لا تستطيع التحــــــــكم في الأثر الذي تركه. لم أتعمد أن تكون النهاية مأســــاوية حتى أنني جعلت الشخصيات تغني أثناء إعدامها. ولكنني كنت معنيا بفعل المصادرة ومدى العبثية. يمكنك أن تناقش الناس حول حرية التعبير لساعات ولن تصل لشيء. ولكن ثمة طريقة أفضل وهي تحويل خشبة المسرح بعد ساعة من الغناء والرقص والضحك إلى حلقة إعدام وإجبار الحضور على المشاهدة. لقد عرفت العصور الوسطى باستعراضات التنكيل والإعدام والحرق التي كانت تعمل غالباً ضد إرادة النظام، فتمنح المتهم هالة من المجد بدلا من وصمة العار.
• المؤلف دوماً حاضر في النص، مادياً أو مجازياً كشخصية داخل السرد، إلى أي مدى يمكن استحضار الذات في النصوص، التفعيل الدرامي لها.
■ حضور الكاتب في عمله أمر بديهي سواء اعترف بذلك أم لا. يقول أرنستو ساباتو «جميع الشخصيات الروائية تقدم خالقها بشكل ما، وجميعها تخونه بشكل ما أيضاً». بمعنى أنها تتجاوزه وتكتسب حريتها. عندما أكتب لا أكون مشغولا بهذه الأسئلة، أكون مشغولا بكتابة حكاية جيدة، ثم تأتي الخيارات المناسبة للتعبير وفقا لهذا الإطار. أول رواية كتبتها كانت تحكي عن سبع شخصيات تجمعهم علاقات غير مكتملة، وقد أدركت من البداية أنها ستعتمد على تعدد الأصوات. سبع رواة يتناوبون على سرد الفصول. حتى مقدمات الفصول حاولت أن تعبر عن اختيارات كل راوٍ تبعاً لثقافته. صحيح أنها خياراتي بشكل ما ولكنها يجب ألا تخرج عن وحدة العمل. عن نفسي لا أجد مشكلة في استحضار الذات في الحدود التي يسمح بها النص، كما أن ما ينطبق على نص لا ينطبق بالضرورة على نص آخر.
• فكرة التوثيق المراوغ نلحظها في نصوصك القصصية أو المسرحية، إن جاز التعبير «التوثيق الخيالي» لحدث ما أو شخصية. كيف تتعامل سردياً وفق هذه الرؤية؟
■ ولكن أليست الرواية توثيقا وهمياً أو خيالياً ولو بشكل جزئي، فالتاريخ عادة يكتب عن المنتصرين في كل زمان، ولكن الأدب الحقيقي يكتب عن الخاسرين على حد تعبير أمبرتو إيكو. قد يكون الفن هو الرواية غير الرسمية لتاريخ البشر وهنا تكمن روعته. عندما قرأت قصيدة «موت مغنية مغمورة» لأمل دنقل لأول مرة استوقفني أنه لم يؤثر الكتابة عن مغنية معروفة، حتى فيروز عندما ذكرها في البكائيات خبأها (في أغنيات الرعاة البسيطة)! أذكر أيضا أن بطل «شوارع ديسمبر» كان طالباً يعاني أزمة ما مع مادة التاريخ ويحرّض مدرسته على الشك في ماضيها.
• مبدأ السخرية الذي يصل إلى حد السخرية السوداء هو الإطار العام للأحداث، هل ترى أنه المناسب تماماً لصياغة عمل فني الآن؟
■ أعتقد ذلك إلى حد كبير.
• هذا بدوره يناقش فكرتك حول التعامل مع السلطة، بداية من العائلة وحتى الدولة، الجميع يعاني من سلطة ما تترصده، ويدفع الثمن في النهاية.
■ والغريب أنني عرفت ذلك قبل أن أقرأ كتابات ميشيل فوكو حول لامركزية السلطة. السلطة منتشرة في الجسد الاجتماعي كله، وهي حقيقة يمكن لأي طفل أن يعاينها في بيته ومدرسته ومجتمعه بدون حاجة لقراءة فوكو.
• في الخروج عن النص كان الإفلات من السلطة الدينية ممكناً ــ المسرحية تدور في فرنسا ــ أما السلطة الزمنية/ الحاكم فنصب المشانق للممثلين الساخرين، كيف ترى حالنا هنا لو تناولته المسرحية؟
■ أعتقد أن سلطات العصور الحديثة تعلمت الدرس، اليوم توجد وسائل عديدة للقمع والتضييق والإقصاء أكثر هدوءا وفعالية من عروض الإعدام. في المسرحية حاولت أن أسخر من منطق السلطة عندما قلت إن آدم وحواء لن يتضررا من ظهورهما على المسرح، ولكن الملك سيتضرر من التعرض لسيرته. أما هنا فلا مجال للحديث عن سلطة دينية أو سياسية ما دام أي مواطن صالح يستطيع أن يحبس كاتباً لأنه خدش حياءه وحياء ذريته من بعده.
• تقنياً كيف يتم التعامل مع النص المكتوب والعرض المسرحي من وجهة نظرك؟
■ يقول جاك بريفير «كل نص فيه كلمة يعد النص إسهابا لها». ودور المخرج يبدأ من اكتشاف هذه الكلمة والاشتغال عليها، عامة أنا لا أفضل الالتزام الحرفي بالنص المكتوب، أرى أن العرض يجب أن يعبر عن روح النص، ولا ينقله حرفيا، ودائما يكون أملي أن يفاجئني الإخراج بقراءات وتأويلات جديدة للنص. أعتقد أن النص الذي يحتمل قراءة واحدة هو نص ميت.
• وأخيراً .. كيف ترى الحالة المسرحية في مصر الآن، من حيث كثرة العروض ومضمونها؟
■ لا بأس بكثرة المسرحيات، ولكن الأزمة في مضمونها. أزمة المسرح هي أزمة الفن بشكل عام، لدينا مناخ يسوده الخوف من التغيير والمجازفة، وهذا ضد منطق الفن. التفكير في النجاح والفشل يعوق الإبداع، فما بالك بنسخ نجاحات الآخرين وهو ما يحدث في مصر، بداية من الصعيد الفني وصولا لمحلات الموبايل المجاورة لبعضها بعضا. كانت لي تجربة إخراجية مريرة في المسرح، وفي ندوة بعد العرض واجهت انتقادات كثيرة لم أفهمها، توقعت أن يسألني الحضور (لماذا اخترت هذا النص أو هذه الشخصيات، لماذا فعلت كذا وكذا؟) ولكن على العكس كانت الأسئلة كلها من نوع (لماذا لم تفعل؟) ولولا الملامة لسألوني (لماذا لم تأخذ مشورتنا قبل أن تفعل؟) ثم أدركت أنهم لا يناقشون مسرحيتي وإنما يناقشون مسرحيات أخرى تناسب توقعاتهم. إن أكثر ما أبغضه كمتفرج قبل أن أكون كاتباً هو أن أذهب للمسرح فأجد ما أتوقعه. لماذا جئت إذن؟ بل إنني أحرص في كتابة كل مشهد على هدم توقعات المتفرج بخصوص المشهد المقبل. الوصفات الجاهزة تفسد متعة التلقي.
…………
٭ أحمد نبيل: روائي وسيناريست وكاتب مسرحي مصري. مواليد القاهرة 1985، بكالوريوس المعهد العالي للسينما/قسم السيناريو 2009.
صدرت له: رواية «خيط واحد للدانتيل» 2007، مسرحية «حلاوة شمسنا» 2008، رواية «شوارع ديسمبر» 2011، قصص «ديموديه» 2015.
الجوائز: جائزة المحروسة للإبداع الشاب عن رواية (خيط واحد للدانتيل) 2007. جائزة محمد تيمور للإبداع المسرحي، المركز الأول، عن مسرحية «حلاوة شمسنا» 2008. جائزة ساويرس الثقافية عن سيناريو فيلم «الفيل النونو الغلباوي» 2009. جائزة المؤلف من البيت الفني للمسرح، مهرجان أسبوع الضحك، المركز الثاني عن مسرحية «حلاوة شمسنا» 2010. جائزة أفضل مؤلف من المهرجان العربي للمسرح في المملكة المغربية/وجدة، عن مسرحية «الخروج عن النص» 2016. جائزة أفضل مؤلف صاعد من المهرجان القومي للمسرح المصري عن مسرحية «الخروج عن النص» 2016.

المصدر/ القدس العربي

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *