الفن المسرحي بين الشعبوية والنخبوية – محمد جميل خضر

جميل خضر

ينأى (أبو الفنون) بنفسه بعيداً عن الشعبوية بمعناها السطحيّ الركيك

وفي حين يفرض مصطلح “الشعبوية” مفاهيم جديدة على صعيد المشهد السياسي العالمي، ويتعمّق ارتباطه هذه الأيام بالعنصرية ودعوات المطالبة بنقاء عرقٍ ما مترفعاً عن باقي أعراق الأرض، فإن (شعبوية) المسرح ظلّت منذ إسخيلوس وسوفوكليس وويوريبيديس وأريستوفانيس وغيرهم، تنشد مخاطبة الجمهور، وصولاً لتحقيق جماهيرية كبرى، حتى لو تطلب الأمر تبسيط مفردات هذا الفن والتخلي عن بعض عناصره التأسيسية مثل الأقنعة والنصوص الشعرية والإضاءة الإخراجية واستخدام السينوغرافيا المرافقة والرقص التعبيري النخبوي وما إلى ذلك.

وكلما دغدغ عملٌ مسرحيٌّ مشاعر الجماهير ولعب على أوتار عواطفهم سواء السياسية أو الغرائزية، كلما قلنا بعقل مطمئن: إن هذا المسرح هو مسرح شعبويّ.

وكلما انحاز عمل مسرحي لجماليات الفن المسرحي وتقنياته الحديثة من بصريات ومؤثرات وموسيقى، وعبّر عن خطابه التطهريّ الإنسانيّ الراقيّ، وخاض بمعرفية وجدانية فلسفية ناضجة في مسائل الخير والشر والعدل والشك واليقين والألم والأمل، كلما قلنا مسنودين بِحُجَّةٍ دامغةٍ: إن هذه المسرح هو مسرح نخبويّ.

وبما أن الوجدان الجمعيّ عند أمة من الأمم، ليس ثابتاً متحجراً كل الوقت وعلى مرّ الأزمان، وبما أن شعبوية المسرح الروماني، على سبيل المثال، تجلّت بما يمكن أن ينسكب من دماء فوق منصة العرض أمام مدرجات تغص بالمستمتعين بالصراع الدمويّ القائم، في حين قد تتحقق شعبوية أخرى بما يمكن أن يلعبه نوع مسرحي من (تنفيس) جماهيري موجّه سياسياً (مسرح دريد لحّام نموذجاً)، وبما يمكن أن يبثه مسرح آخر من عبثية أمام فداحة الواقع المعاش، فيكْرجُ في أعمال من هذا النوع الشتم والازدراء ومعاينة عيوب الواقع وأنظمة الحكم دون أن تقدم هكذا عروض حلولاً ممكنة لما يرزح تحته جمهور عروضهم من أثقال ومآسٍ، فإن الحديث عن شعبوية واحدة هو تغميس خارج الصحن، وبالتالي فإن البحث عن سمات محددة له تخرج عن نطاق النقد العلمي الرصين.

وكون الفن غير معنيٍّ بتقديم إجابات، كما يرى كثير من الباحثين والمعنيين والمتخصصين، فإن نوع المعاينة المقترحة وذكاءها وحيويتها وجمالياتها، يمكن أن يلعب دوراً في إنضاج لحظة تغيير ما، ويرفع مجسّات التلقي لدى جمهرة النظارة.

عربياً أيضاً، وأيضاً، فإن (شعبويةً) من نوعٍ ما سادت بعد ربيع الثورات العربية، وهي الشعبوية التي تعبّر عن لسان حال السلطات الحاكمة في بلاد العُرْبِ أوطاني من شيطنة لكل إسلام سياسيّ، بغض النظر أنه ليس جميعه على مذهب واحد. في هذا الإطار قُدمت عشرات الأعمال الموجّهة المعبّرة عن أجندات بعينها، دون إجراء أي تغذية راجعة حول ما حققته هذه الأعمال، وهل تسنى لها زيادة الواقفين على شباك تذاكر المسرح (باستثناء تونس وإلى حد ما المغرب والعراق ومصر، فإن معظم الأعمال المسرحية العربية هي عروض في إطار مهرجانات مسرحية تعرض بالمجّان مع قليل جداً من العروض التي تقدم خارج إطار هذه التظاهرات. فالفن المسرحي العربي هو على وجه العموم، فن نخبويّ يتابعه عدد قليل من المعنيين بالمناسبة أو منظمي الفعالية).

في إطار تعريفه للمسرح الشعبوي، يرى المخرج والأكاديمي الأردني د. محمد خير الرفاعي أنه فن الجماهير، طارحاً في سياق متصل سؤالاً جوهرياً: هل نحن مع الشعب أم مع الفكرة؟ الشعبوية هنا بحسب الرفاعي هي تلمس فكرة موجودة داخل وجدان الناس وتغذيتها مسرحياً “اللعب على وترها، تصعيد دوافعها داخل هذا الوجدان، تكريس وثوقيتها وما إلى ذلك”.

وكما يرى كثيرون غيره، يؤكد الرفاعي أن مسرح دريد لحام هو في إطار المشهد المسرحي العربي، نوع من المسرح التنفيسي السياسي الذي يتبع نظاماً معيناً ويحقق أجنداته، فبرأيه لو كان غير ذلك لما مُنح كل هذه السقوف العالية، مستشهداً بما آلت إليه أحوال رفيقيه في مشواره المسرحي (الشاعر والكاتب محمد الماغوط والفنان نهاد قلعي)، ويعزّز رأيه هذا بالموقف (المستهجن) الذي وقفه دريد لحام ضد ثورة شعبه، مديناً لها ومتخندقاً في صف (نظام البراميل المتفجرة).

من جهته، يرى المخرج والممثل المسرحي الأردني زيد خليل مصطفى، أن المشكلة ليست بالإنتاج المسرحي بل بالتلقي الجماهيري، ذاهباً إلى أن النزعة الاستهلاكية التي تسود محلياً منذ سبعينيات القرن الماضي، انسحبت بأمراضها ومظاهرها على الفن المسرحي. مصطفى رفض النظر إلى المسرح اليومي الذي شاع فترة من الزمن، بوصفه مسرح (كباريه سياسي)، رائياً أن هذا النوع الذي أطلقه النمساوي/ الألماني/ الأمريكي ماكس راينهارد (1873-1943) لا يشبه بما حققه من محاكاة للناس وقدرة على تلمس أهوائهم ونزعاتهم ويومياتهم، ما يُقدَّم بين الفينة والأخرى في إطار المسمى نفسه ولكن بدسمٍ منزوعٍ محلياً وعربياً.

“المسرح المعلّب، المقولب، غير الأصيل والمُنْبَتُّ عن محيطه، لا يمكنه أن يصنع فارقاً ولا أن يكون لا شعبوياً ولا نخبوياً” يقول مصطفى، متأمّلاً في سياق آخر تجربة برتولت بريشت أو بريخت (1898-1956) الذي انصهرت يساريّته واشتراكيته مع موجة عارمة من المد اليساري العالمي، فإذا بأعماله تحقق شعبوية من الطراز المضاد لشعبوية اليمين المتطرف. وإذا بها من منظور آخر، نخبويةُ المحتوى والمستوى والخطاب.

المسرح المحكوم بميزانيات حكومات تنظم مهرجاناته وتفرض أجنداته، لا يمكنه، برأيي، أن يحقق أي شعبوية غير تلك التي يريدها من (يدفع للزمار) فأليس هو كما يقول المثل من (يحدد النغمة)؟

في أفق مغاير يتحرك المسرح الأوروبي على وجه الخصوص والغربي على وجه العموم، وبما أتيح له من حرية تعبير وبعد مدينيٍّ ديمقراطيٍّ حقيقي، في مسار مضاد (تماماً) للشعبوية العنصرية التي يعبّر عنها أوضح تعبير هذا الصعود المقلق لليمين المتطرف في غير دولة أوروبية، ويشكّل ترامب صدمته الجارفة الجارحة.

فإذا بمسرح ما بعد الكولونيالية وإذا بأساليب الإخراج ما بعد الكولونيالي ورؤاه تتخذ، بحسب الباحث د. محمد كريم الساعدي: “من مناهضة الخطاب الثقافي الغربي ذات الامتدادات الكولونيالية في تمييز الحضارة الغربية عن الحضارات الأخرى موضوعاً لها”. في ظلال هذه المرجعية الأخلاقية الرفيعة، نشأ تيار مسرحي أوروبي وأمريكي “معارض للواقعية والطبيعية التي أغرقت المسرح بتفاصيل الحياة اليومية والتصوير الفوتوغرافي للأحداث، دون ردة فعل تجاه ما يحدث من قتل وحروب اجتاحت أوروبا والعالم، لذلك جاء المسرح السياسي الذي عمل على توعية الجماهير، لاسيما الطبقة العاملة اتجاه الرأسمالية واستغلالها للإنسان وسيطرتها على الأمم”.

الأمثلة في هذا الإطار لا تعد ولا تحصى: مسرحية “راسبوتين” للمخرج الألماني آرفن بسكاتور (1893 – 1966)، مسرح الجنوب الحر في أمريكا، مسرحيات الغضب الزنجية، حركة المسرح الحي التي أسسها جوديت مالينا وجوليان بك بعد حرب فيتنام، مسرحية “أسرار وقطع أخرى صغيرة”، التي لم تعتمد على نص مكتوب بل على الارتجال، محتوية على عدد من الإيحاءات ضد حروب أمريكا، ومنها الموت الجماعي وانتقاد الرأسمالية من خلال أغنية كلماتها العبارات المكتوبة على الدولار الأمريكي، ومن خلال هتافات توضح المشكلة التي يعيشها المجتمع الأمريكي في ظل سياسات امبريالية تسعى إلى إخضاع العالم.

العروض المسرحية ما بعد الكولونيالية لم تتوقف عند حرب فيتنام بل شملت احتلال العراق عام 2003 وما تبعها من أحداث في سجون الاحتلال الأمريكي، ومعاملة العراقيين وفق النظرة الكولونيالية القديمة، حيث قدّم المخرج الأمريكي اندريا مادوكس ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، مسرحية “ما الذي أعرفه عن الحرب” للكاتبة مارجولي شيرمان. العرض يكشف بشاعة الخطاب الكولونيالي الأمريكي وصورته المتعالية واستهزاءه بالآخر العربي (العراق)، حيث حاول المخرج من خلال العرض أن ينتقد الحرب الأمريكية على الشعب العراقي وتجردها من الإنسانية في معاملتها لهذا الشعب، وفكرة المسرحية تدور حول معاناة امرأة أمريكية فقدت زوجها في الحرب، وطفل أمريكي فقد أباه فيها. وتناول العمل من جانب آخر معاناة العراقيين وأطفالهم من خلال تعرضهم للإهانات والضرب، ومعاناة امرأة عراقية مسنّة لمجرد تمسكها بحقها. كما تعرض المسرحية صوراً من سجن (أبو غريب) والتعذيب الذي حدث فيه وانتهاك حقوق الإنسان على يد الجنود الأمريكيين.

الفرنسي جان بول سارتر ومعظم أعماله المسرحية، مسرح العبث واللامعقول، صموئيل بيكيت “في انتظاتر غودو” وغيرها، مسرحيات يوجين أونيل، مسرحيات جان جانيه، مسرحيات بيتر فايس، أعمال جوناثان هولمز وجون دكستر وغيرهم، وغيرهم، أمثلة حيّة وناصعة على هذا التضاد بين شعبويتين تدعي كل واحدة منهما أنها صوت الشعب وضمير الناس.

من الأعمال المضادة بقوة وعمق للشعبوية العنصرية، مسرحية “شك: أمثولة Doubt: A Parable”، للكاتب والمخرج المسرحي الأميركي المعاصر جون باتريك شانليJohn Patrick Shanley.

فالمسرحية التي عرضت آخر مرّة قبل عامين (2017)، على مسرح سازاك Southwark Playhouse في إنجلترا، تجسد صرخة مضيئة متوارية خلف دهاليز الشك، رافضة  الوثوقيات الكاذبة، بدءاً من تلك التي أكدت للشعب البريطاني أن الخروج من الاتحاد الأوروبي في صالحه، مستندة إلى حفنة من الأكاذيب؛ وصولاً إلى تلك التي يرددها علينا دونالد ترامب صباح مساء، وهو يدّعي أنه سيعيد عظمة أميركا المتدهورة من جديد. وأنه “الشعب والشعب أنا فمن أنتم”.

مخاطر الشعبوية المرتدية قفازات الرجل الأبيض ألقت بظلالها على مختلف أوجه الحياة الأوروبية، خصوصاً مع تدفق آلاف الهاربين من الموت في بلادهم من سوريا والعراق وليبيا واليمن وبلاد عربية وآسيوية وإفريقية أخرى، نحو حواضر أوروبية وغربية أساسية مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وإنجلترا وهولندا والنمسا والنرويج وكندا وأستراليا وغيرها. وهي المخاطر التي جعلت العنوان الرئيسي لمهرجان أفنيون المسرحي (لعله إلى جانب مهرجان إدنبرة، من أهم التظاهرات المسرحية العالمية)، هو: “شبح الشعبوية الأوروبية مُخَيِّماً”.

هاجسٌ عبّرت عنه بأمانة وفنية عالية مسرحية “ارشيتكتور” التي افتتحت من تأليف وإخراج الفرنسي باسكال رامبير (أحد أكثر المسرحيين الفرنسيين الأحياء انتشاراً في العالم)، الدورة الثالثة والسبعين لمهرجان أفينيون (أقيم ما بين 4 و 23 حزيران (يوليو) 2019)، حاملة في طياتها بعض الفرح أيضاً، إذ شارك فيها نجوم من أوساط المسرح الفرنسي من إيمانويل بيار إلى جاك فيبير مروراً بدوني بوداليديس وأودري بوني.

تروي المسرحية التي عرضت في باحة الشرف في قصر الباباوات الذي شهد ولادة المهرجان المسرحي في العام 1947، بأسلوب لا مواربة فيه، قصة عائلة فنانين وفلاسفة ومؤلفين موسيقيين ممزقة في صورة مجازية عن أوروبا المريضة.

تحت عنوان: “المسرح الشعبوي يجب أن يؤخذ على محمل الجد”، يقول الكاتب الإنجليزي مارتن ساندبو في مقال نشرته له “فاينانشل تايمز”: “لا خلاف على أن الاشتباك بين الشعبوية والعالمية هو حركة مسرحية، لكنه مسرحٌ غرائبيٌّ يعبّر عن الواقع”.

بين شعوبية ركيكة ونخبوية معزولة، ما تزال الدقات الثلاث لأبي الفنون تشكّل الإلهام الفذ لمن يحلمون بمنصّة كبرى تجري فوقها محاكمة كبرى للشر والشيطان وأعداء الإنسانية والحياة. وما يزال سعد الله ونّوس يهتف: “إننا محكومون بالأمل”.

محمد جميل خضر – الأردن

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش