العنف على المسرح.. ومؤثراته التدميرية للجمهور نفسياً وسلوكياً ترجمة: عادل العامل

 

 

المصدر / المدى/ محمد سامي موقع الخشبة

في أحد المشاهد المسرحية السيئة الصيت في الدراما الحديثة، تقوم جماعة من الشبان في متنزهٍ لندني برجم طفل حتى الموت في عربته. و ما يبدأ كلعبٍ خشن يتصاعد إلى سادية مطلقة حتى تُرمى صخرة، لتنتهي صرخات الطفل الواهنة، كما يقول تشارلس مكنَلتي، الناقد المسرحي لصحيفة لوس أنجلس تايمس.

لقد أثارت مسرحية إدوارد بوند ” Saved ” هذه غضباً عارماً حين قُدمت عامَ 1965على مسرح رويال كورت كعرض لنادٍ خاص. و بالرغم من أن المسرحية لم يكرر إحياؤها كثيراً، فإنها تُعد عملاً كلاسيكياً حديثاً، و ليس فقط لأنها كانت مفيدة لقلب قوانين رقابة المسرح البريطانية، وفقاً لتشارلز مكنلتي McNulty في عرضه هذا.
و ما تزال مسرحية ” Saved ” صادمةً حتى وفقاً لمعايير اليوم. فبوند، الذي أقر مرةً بأنه يكتب ” عن العنف بنفس الطريقة الطبيعية التي تكتب بها جين أوستن عن الأخلاق “، يحيط بجريمة القتل بكل دقائقها السايكولوجية الموحشة. فعلى خلفية ريفية بالية، يُجعل تخلي المرأة الشابة المؤقت عن طفلها أمراً مقبولاً بشكلٍ يسبب القشعريرة، كما هي الحال مع سلوك الرجال الذين يعذّبون الأطفال من أجل التخلص من حيواتهم العديمة الهدف، كما تتضمنه المسرحية. ( و تدور المسرحية، باختصار شديد، حول امرأة شابة تحمل من صديق لصديقها المقيم معها، و تنجب طفلاً، و يتعرض الطفل وهو في عربته ذات يوم لتصرفات خشنة من أصحاب أمه وأبيه الذين يلطخونه ببرازه و يرمونه بالحجارة حتى الموت، من دون أن يهتم والداه جدياً لما يحصل له ).
و بالرغم من رؤيتي المسرحية في إنتاج من إخراج روبرت وودرَف في عام 2001، فإنني لم أكن واثقاً إن كنت سأكون قادراً على تحمّل مشهد طفلٍ يُلطّخ ببرازه و يُخنق عارياً. و كنت قد نجوت بالكاد من مشهد سابق كان فيه طفلً يصرخ بشدة من دون أن يرد عليه أحد من أسرة لندنية كانت أعجز في بؤسها من أن تستجيب لصراخه.
و لكون العالم الحقيقي سخياً لدرجةٍ كافية حين يصير الأمر إلى التكرم بالعنف، فإني لا أبحث عنه في الدراما. وقد وجدتُ، إضافةً إلى هذا، أن من الأصعب عليّ في أواسط عمري أن أزيل اللطمات من المعاناة البدنية و الذهنية التي تستلزمها. ( المؤسف أن لاواقعية الشباب لا تستمر إلى الأبد ). مع هذا، كنت سأشعر بالتضامن مع أولئك الذين أيدوا ” Saved ” ضد أولئك الذين راحوا يدينونها باعتبارها فاحشة حين قُدّمت للمرة الأولى.  فما الخط الفاصل بين العنف المقبول و غير المقبول في الفن؟  إذا كانت الشناعة gruesomeness هي المعيار، فإن الكثير من الدراما اليعقوبية Jacobean (1) كان سيتم تحريمه، بما في ذلك مسرحية ” الملك لير ” لشكسبير، بمشهدها التصويري الذي تُقتلع فيه عينا غلوسِستر بلا رحمة. و قد يعتقد البعض بأنهم يستطيعون أن يحددوا الخلاعة بلمحة واحدة، لكن العنف يضع متطلبات أكثر حدّةً على حساسياتنا. فمشروعيته الفنية لا تعتمد على كمية الدم المراق أو عدد الأوصال التي تُقطع. فالمسألة هي المسوّغ لذلك. أو بتعبير آخر: كيفية تلاؤم الوحشية داخل رؤيةٍ أكبر للعمل المسرحي.
إن المهمة تلقى تحدياً بشكل فريد. فالعنف الزائف ( أي في الفن و الأدب ) أداة يمكن أن تصبح بسهولة سلاحاً غير مميَّز. إنه شكل من المعرفة ــ من هشاشة الجسد، من العدوان الذي يتوارى داخل قلوب البشر ــ لكنه يمكن أن يكون كذلك إغواءً هدّاماً، يغري الفنانين و جمهور المشاهدين باحتفاءٍ عدَمي بتدمير المعنى نفسه.
وفي مقال آخر لتشارلس مكنَلتي فإن الكتّاب المسرحيين المعاصرين، المتأثرين بهوليود أكثر مما بشكسبير و الإغريق، أصبحوا مرتاحين على نحوٍ متزايد لفصل العنف عن النزاع الذي في قلب العدالة المعقد، التحكيم في الخسارة غير المتكافئة. فالبنادق، و السكاكين، و الأسلحة الأخرى هي الآن في خطر أن تُصبح إضافياتٍ تجتذب الانتباه في تحولات القتل التي لا يمكن لثقافتنا الشعبية أن تحصل على ما يكفي منها و التي ربما هي التجلي الأنقى لمجتمع يضحي بتلاميذ المدارس أكثر مما بقوانين الأسلحة النارية المعدّلة (2) .
و تتّسم كوميديات الكاتب المسرحي الأميركي مارتن مكدوناغ الموجعة بالمرح على نحو لا يمكن إنكاره، لكنها جزء من نزعة مقلقة تحتفي بالعمل الفني لأسلوبه أكثر مما لعقليته، و لفنيته أكثر مما لرؤيته الفنية. و يمكن القول إن ذلك المشهد في مسرحية تريسي ليتس (جو القاتل ) الذي يعتدي فيه جو جنسياً على امرأة منافقة بعصا القرع على الطبل هو مشهد يمكن أن يكون قد أثر على أسلاف الكاتب المسرحي الانكليز في القرن 17، لكن المسرح يكون على منحدر زلِق حين يحاول أن يتنافس مع التاكتيكات الرهيبة لصناعة الأفلام.
إن المسرح فضاء مجازي في الأساس، فضاء يدعو إلى التحري النقدي. فالكلمات تتّسم بنفس الامتداد مع الصور، خلافاً لما في الفيلم، و تحديدات المسرح ذاتها تتيح فوائد فكرية.
أما كوميديات الكاتب البريطاني هارولد بنتر عن التهديد بالخطر، التي تطرح الطبيعة الإقليمية territorial للبشر عاريةً بلغةٍ تكون حادةً كالمِدية، فإنها تتّسم بنوعية إيحائية تجذبني على مستوىً أعمق مما تفعله هزليات مكدوناغ  الكادمة، التي تصدمني بكونها أكثر أخذاً من أفلام كوينتين تارانتينو، الذي تسبق رغبته في الترفيه قدرته على التفكير. ( و كان الثناء على ” جانغو محرّراً ” بالنسبة لي واحداً من أكثر وقائع نهاية العام إثارةً ، خاصةً في التبرير المستقيم لعملٍ أضعف مصداقية وصفه التاريخي لوحشية الاستعباد بتعامله مع الموت العنيف كنكتة تكرارية على نحوٍ ممل من نكات الثقافة الشعبية pop-cultural. )
و قد يبدو هذا مفرطاً في الاحتشام، لكن لم تكن لدي أية مشكلة في تقييم مسرحية سارة كين ” ملعون Blasted “، التي يجري فيها، ربما في محاولة للتفوق في العنف الوحشي على كلٍ من مسرحيتي الملك لير و Saved، أكل عينين و طفل في دراما رؤيوية apocalyptic (3)  تُشعل حرباً في مشهد غرفة فندق فاخر (4). لكنني أفكر عندئذٍ بأن من المهم ملاحظة نقطة الأفضلية لدى فنانة تجعل العنف موضوعاً لها. و كانت كين، التي سارت على هواها في سن 28 عاماً، تملأ المسرح بعذاب لا يُطاق. لكن الصور الكابوسية في مسرحياتها تسكنها بشكلٍ عميق المؤلفة، التي لم تخفق أبداً في تسجيل كلفة الرعب الانفعالية.
 عن: Los Angeles Times
* تشارلز مكنلتي McNulty هو الناقد المسرحي لصحيفة لوس أنجلس تايمس.
(1) هي الدراما التي عرفت في عهد الملك جيمس السادس (  1567ــ 1625 )، و اليعقوبية Jacobean مستمدة من Jacobus و هو الشكل اللاتيني للاسم الانكليزي جيمس.
(2) أي المجتمع الأميركي .
(3) نسبةً إلى سُفر الرؤيا.
(4) و هي مسرحية حافلة بالاغتصاب و الوحشية و الشذوذ  و تعتبر بالتالي فضيحة أخرى بعد مسرحية Saved لإدوارد بوند، من هذه الناحية، كما جاء في موسوعة ويكيبيديا.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *